من دفاتر أيام عادل الأسطة (5)

IX

أحمد دحبور: في التلقي النقدي

01.07.2017

على الرغم من أن دارسين كثرا يقرون بشاعرية أحمد دحبور إلا أنه لم يحظ بدراسات تليق بشاعريته ، وإذا ما قارن المرء ما أنجز عنه من دراسات بما أنجز عن مجايليه مثل محمود درويش وسميح القاسم وعز الدين المناصرة ومريد البرغوثي، فإن المرء يلحظ فارقا واضحا يدفعه إلى التساؤل عن السبب أو الأسباب ، وإلى الإقرار بأن النقاد والدارسين قد ظلموا الشاعر .وفي بعض الدراسات والمقالات التي أنجزت عن الشاعر واشعاره ، في حياته ومماته ، آراء حول تلقي الشاعر نقديا ،بعضها يأتي على السبب.

وتبدو هذه الآراء في مقال للناقد العراقي علي جعفر العلاق ، فهذا يرى أن الشاعر لم يكن يحرص على الرافعة الإعلامية: “كانت الموهبة وحدها لا تكفي في ربوعنا العربية ،لا بد من شللية منافقة ،لا بد من قبيلة محاربة ، ولا بد من أكف يدميها تصفيق قد لا يخرج من القلب كله. ” يكتب العلاق ويتابع: “من المؤكد أن أحمد دحبور لم يعش تجربة النجومية التي عاشها غيره دون وجه حق أحيانا ، إلا أنه قدم براهينه الكاملة ، تناغم شعري وانساني قل نظيره ، في مشهد لا يخلو من الشعوذات الشعرية والمهرجين . “.

الشاعرية وحدها لا تكفي ، وتواضع شخص الشاعر لا يوصل شعره ، فلا بد من شللية ولا بد من رافعة إعلامية ، وأشهد أن الشاعر لم يستغل يوما منصبه في وزارة الثقافة ليطلب من النقاد أن يكتبوا عنه مقابل طباعة كتاب لهم أو مقابل أن يكتب هو عن كتبهم. كما لو أنه اكتفى بما كان يحققه له مقاله الأسبوعي، كل يوم أربعاء في جريدة الحياة الجديدة ، من شهرة وانتشار ،مقاله الذي كان القراء ينتظرونه بصبر.

في دراسة للناقد ابراهيم خليل عنوانها : ” فاعلية التناص ومراوغة السائد في لغة القصيدة ” ( 2013 ) أعاد نشرها في كتابه ” حاضر الشعر وتحولات القصيدة ” ( 2015 ) يشير خليل إلى قلة الدراسات عن شعر أحمد دحبور ” على الرغم من وفرة أشعاره ، وغزارة آثاره ” ، ولم يكتف الناقد بالكتابة عن قلة الدراسات ، فقد لجأ إلى إصدار حكم عليها فقسم منها ” لا يؤبه له ولا يعتد به ” ولاحظ الناقد أن أشعار الشاعر درست في دراسات تناولت الشعر الفلسطيني ” سواء في زاوية الجماليات ، أو في المقاومة ، أو الاستشهاد ، أو التناص الديني ، والأدبي ،و الأسطوري ، وما إلى ذلك من لفتات اضطر إليها الدارسون بحكم الشمول الذي تتسم به دراساتهم ……. وإزاء هذا الوضع هو أقرب إلى التعتيم والإهمال ” ويرى الناقد أن أحمد دحبور يستحق الالتفات إليه مجددا ” لا سيما وأنه حظي في الشهر الفائت من العام الجاري 2012 بوسام الاستحقاق من الإدارة الفلسطينية برام الله ” .

ما لاحظه ابراهيم خليل لاحظته الدارسة فاتنة محمد حسين في بحثها ” المرجعيات الموروثة في الشعر الفلسطيني الحديث : أحمد دحبور نموذجا ” .( موقع مجلة حروف ، مؤسسة السياب ، لندن – تاريخ المشاهدة 22 / 6 / 2017 ) . كتبت فاتنة : ” انطلاقا من هذه الرؤية تحاول هذه الورقة البحثية إماطة اللثام عن بعض المرجعيات الموروثة التي استندت القصيدة العربية في فلسطين إلى كثير من معطياتها ، من خلال الوقوف عند أحمد دحبور وهو واحد من شعرائها البارزين الذين لم يكن لشعرهم نصيب وافر من الدراسات النقدية ” .

وفي أثناء البحث عن دراسات تناولت الشاعر وأشعاره عثرت على رسالتي ماجستير أنجزتا عن صلة شعره بالتراث ؛ واحدة أنجزتها بنان صلاح الدين ( 2003 ) والثانية أنجزتها ديانا شطناوي ( 2005 ) ، ولعل أكثر ما كتب عن شعر الشاعر تمحور حول هذا الجانب – أعني صلة شعره بالتراث .

كان محمد حور أول من كتب دراسة عن ” ثقافة أحمد دحبور من شعره ” ( 1998 ) ” فلسطين في شعر الجواهري و قراءات في الأدب الحديث ” (ص127- ص189 ) وتخلو قائمة مراجعها من أية دراسة عن شعر الشاعر ، ما يعني أنها تعد من أوائل الدراسات التي كتبت ، وما يعني أنها شكلت مدخلا لرسالتي الماجستير والدراسات اللاحقة التي ركزت على تأثر الشاعر بالموروث .

وأكثر الدراسات التي كتبت لاحقا تخوض في الجانب نفسه ، وهي تقارب صلة دحبور بالتراث ، وإن كتبت تحت عناوين مختلفة ربما للتضليل – أي للقول إنها تخوض في جانب من شعر دحبور لم يخض فيه من قبل .

الدراسات التي توفرت لي هي دراسة محمد حور ودراسة ابراهيم خليل ودراسة عمر عتيق ” نبض السيرة الذاتية في شعر أحمد دحبور وتقنية التناص ” ( 2013 موسوعة أبحاث ودراسات في الأدب الفلسطيني الحديث ، الأدب الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات ، الكتاب الثالث ، ص 53 – ص90 ) ودراسة محمد مصطفى كلاب وأسامة عزت أبو سلطان ” تجليات التناص في شعر أحمد دحبور ” ( 2015 مجلة الجامعة الاسلامية للبحوث الإنسانية / غزة ص1 – ص22 ) ودراسة فاتنة محمد حسين ( 2016 ) وأخيرا دراسة نادر قاسم ” جدلية العلاقة بين الشاعر والموروث الشعري – الصوت والصدى : أحمد دحبور نموذجا ” ( 2016، مجلة رؤية فكرية والدراسة مجازة ولما تنشر ).

وكما أشرت إنها دراسات تتشابه في الموضوع وإن اختلفت جزئيا في المعالجة ،حسب فهم الدارس لمصطلح التناص أو حسب تركيزه على عمل أكثر من تركيز دارس آخر عليه، وبعض هذه الدراسات تكرار لسابقاتها ولا جديد فيها إلا في اختلاف العنوان تقريبا .

وبعد

ماذا يضيف كتابي هذا ؟

يضم هذا الكتاب دراسات ومقالات أنجزت خلال 20 عاما بالتمام والكمال ،نشر قسم منها في العام 1997 وأنا أدرس الأدب الذي أنجز بعد اتفاقية أوسلو وكان لأشعار أحمد دحبور نصيب من الدراسات ، ثم حللت بعض قصائد الشاعر التي عبرت عن خيبته نتيجة لقائه بمدن فلسطين المحتلة في 1948 ، وتوقفت أمام بناء القصيدة في أشعار الشاعر التي انقطعت عنها 17 عاما ، وكنت زرت الشاعر بعد العام 2011 غير زيارة وحاورته غير حوار ودونت انطباعات عن الزيارة والحوار نشرتها على صفحات الفيس بوك ،ولما ارتقى الشاعر وجدتني أعيد قراءته من جديد ،بل وأعيد قراءة ما كتب عنه وما كتبه هو عن تجربته وسيرته وقرأت أيضا المقابلات التي أجريت معه ووجدتني أكتب سلسلة مقالات بطريقة شبه منهجية لتصدر في كتاب.

يتكون الكتاب من خمسة أقسام ،يضم الأول الدراسات والمقالات التي كتبت في 1997 و 2000 وبعض المقالات التي كتبت حديثا وهي تتمحور حول صدمة العودة إثر اتفاقات أوسلو وشعور الشاعر بالخيبة مما أنجز ، ويتكون القسم الثاني من مقالات ترسم صورة شخصية للشاعر وعائلته من خلال قصائده ، ويضم القسم الثالث كتابات تبرز علاقة الخاص بالعام في سيرة الشاعر الشعرية ، وخصصت القسم الرابع لمقالات عالجت جوانب فنية ، وأما القسم الخامس فهو يتكون من انطباعات عن زيارة قمت بها إلى الشاعر في أثناء مرضه حاورته فيها عن الشعر والشعراء والأدب وسيرته الشعرية وما شابه .

هل سيعد هذا الكتاب مدخلا لانصاف الشاعر ؟

لعلها بادرة وخطوة للفت الانتباه إلى شاعرية شاعر عاش في زمن الشاعر محمود درويش الذي طغى على غيره . لعل !!!

IX

في ذكرى ميلاد راوية المخيم أحمد دحبور : العودة إلى رثاء غسان كنفاني

في 20 نيسان 1946 ولد أحمد دحبور في حيفا ، والمدهش أنه توفي في الثامن من الشهر نفسه . كنا نتوقف أمام ولادة غسان كنفاني في العام 1936 وتصيبنا الدهشة حين نعرف أنه استشهد عن 36 عاما أيضا . والمدهش هذه المرة أيضا أن الشاعر الذي نشأ في مخيمات اللجوء وآثر أن يكون في باكورة شعره راوية المخيم ، فكتب :

” اسمع – أبيت اللعن – راوية المخيم /افتح له عينيك وافهم :/هذي الصفائح والخرائب والبيوت/ فيها كبرت /

بها كبرت /وفوضتني عن جهنم “

المدهش أن ما نطق به جسده على أرض الواقع ، أيضا في نيسان 2002 ونيسان 2022 ، أبناء مخيم جنين .

وأنا أفكر في الكتابة عن الذكرى الخامسة لرحيل أحمد انشغلت بالكتابة عن قراءة كنفاني في فلسطين التاريخية ، مؤجلا الكتابة عن الرحيل إلى الكتابة عن الميلاد ؛ ميلاد غسان وميلاد أحمد الذي ارتضى لنفسه منذ استشهد الأول أن يواصل رحلته في الكتابة كدليل ومحرض على بؤس واقع اللجوء ومواصلة رحلة الفلسطيني في ضرورة العودة إلى الوطن مهما كانت التضحيات ، وهذا دفعني إلى إعادة قراءة قصيدتيه في غسان وهما ” الدليل ” و” إنهم يقتلون حميدو ” ، وقد كنت أتيت عليهما العام الماضي في مقالي ” نيسان وبرقوقه وأدباء المقاومة ” ( 11 نيسان2021 ).

كتب أحمد قصيدته ” الدليل ” في تموز1972 عام استشهاد غسان ، ولا أعدها شخصيا قصيدة رثاء مع أنه أهداها ” إلى دم غسان كنفاني .. الدليل والمحرض ” ، فليس فيها من سمات قصائد الرثاء المتوارثة أية سمة ، فلم يعدد فيها مناقب المرثي وصفاته ، وإنما كتب فيها عن الأطراف التي تقتل الفلسطيني أو تسهم في قتله :

” يكون لكم من الغازين أعداء ومن امرائكم أعداء

يكون لكم من الصحراء رمل يهلك الأحشاء

وحنجرة مطهمة مروضة بدينار

يكون لكم دم في الماء “

ولا يضع ثقته إلا بالفقراء ، فالأمراء ومن ركب المطايا الذين ناشدهم وافتخر بهم الشاعر القديم ” ألستم خير من ركب المطايا ؟” لا يصل منهم سوى الصدى ، بل إنهم حين حارب الفلسطيني تدخلوا طالبين منه التوقف ، وكانت النتيجة أن استدار الأعداء نحو الفلسطينيين ” ورموا بنا في الماء ” . لقد صار حال الفلسطيني حال سيف الدولة يحيط به الأعداء من كل جانب ، وليس تصدير الشاعر قصيدته بقول المتنبي عبثا ” وسوى الروم خلف ظهرك روم ، فعلى أي جانبيك تميل ” .

تظهر قصيدة ” إنهم يقتلون حميدو ” ( 8 /7 / 1980 ) صورة لغسان أكثر مما تبرزه الأولى . وعلى الرغم من مرور 8 سنوات على استشهاده فلم يجف حبره ولم تستقر شظاياه على الأرض وما زال صوت الانفجار يفضي إلى النبض حتى ليقتبس الرعد مما يفيض به القلب . القصيدة المخصصة للكتابة عن حميدو الفقير اللاجيء الذي كانت جدته تحدثه طفلا عن فلسطين أحب بلاده وحين كبر اختار فلسطين والبندقية فقتل ، ولكن من قتله ؟ ولماذا ؟

” لا الصهاينة المجرمون / ولا شركات الأذى / إنهم أهله الأقربون .. / فلماذا يموت الفدائي ؟ / ولماذا يراق دمه على غير حيفا ؟ كيف نشهد هذي العجائب كيفا ؟ ” .

القصيدة المخصصة لحميدو تظهر صورة لغسان الذي يقص قصة حميدو ويقول إن هناك عربا يتاجرون بالدم الفلسطيني وإن فلسطين في فواتيرهم ليست البندقية ، فما هي صورة غسان ؟

يحب الدعابة ويجيد الكتابة ويضحك حتى حدود الفضيحة ويفتك بالمازحين ولا يغضبون ويقارن بين الذبيحة والصيد ، ويرى أننا نحن الذبيحة والصيد والصيادون وإلا فكيف يقتلون حميدو ؟ ولم يرو هذا لأحمد أحد ، فقد كانت للأخير مع غسان قصة عن غرابة إحدى لياليه لخصها فيما سبق .

كان أحمد في بداياته الشعرية لا يثق إلا بالفقراء ، وكان يعول عليهم فقط ، فقد رأى في الحكام متاجرين بالقضية ، ولم ينعكس هذا في قصيدتيه في رثاء غسان وحسب ، وهو هنا عموما يتطابق وغسان وهو ما جسده في روايته ” أم سعد ” (1969) وفي رؤيته لثورة 1936 . لقد برز أيضا في أشعار أحمد الأولى التي كتبها في 60 و70 ق20 ، ويمكن هنا العودة إلى قصيدته ” العودة إلى كربلاء ” ( أيلول 1971) والاقتباس منها للتدليل على ذلك ، بل ويمكن أيضا العودة إلى ما كتبه في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة ( 1983.

في ” العودة إلى كربلاء ” يكتب :

” يا كربلاء الذبح والفرح المبيت والمخيم والمحبة _ كل الوجوه تكشفت كل الوجوه / ورأيت : كان السيف في كفي ، / وكنت لنظرة الفقراء كعبه / ورأيت من باعوك ، / باعونا معا “

وعن فقره في المخيم يكتب :

” كنا في ثكنة خالد بن الوليد – مخيم اللاجئين الفلسطينيين في حمص – نعاني فقرا إضافيا ، ربما يتميز عن فقر جيراننا في المخيم ، فالأخ الكبير ، جمل المحامل أو عمود البيت ، بين السجن أو المنفى بسبب أفكاره السياسية ، والأب الذي يغسل الموتى ويسحر في رمضان ويقرأ على القبور ، لا يجد في بطالته المقنعة هذه ، ما يكسب به قوتنا الكافي … (ص 21 من ا. ك ).

في الوقت الذي كنت أقرأ فيه أشعار الشاعر كنت أتابع ما يجري في مخيم جنين إثر ما قام به رعد حازم في تل أبيب ، وعدت إلى أشعار مظفر النواب في جنين (2002) وفي تل الزعتر (1976 ) فلاحظت تقاطعات بين الشاعرين وكنفاني في الكتابة عن الفقراء ومخاطبتهم وتمجيدهم والتعويل في الثورة عليهم ، وفي الكتابة عن الزعماء وعدم الثقة فيهم ونفض اليد منهم . ترى هل أصاب البنيويون حين كتبوا عن الصلة بين النصوص ، فأحد معاني كلمة ” بنية ” هو ” الصلة بين ” ؟!

الكتابة تطول والمساحة محدودة .

المصدر: جريدة الأيام الفلسطينية 17 نيسان 2022

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *