( ملتقى الرواية الثاني )
مرة قرأت السؤال الآتي : هل من ضرورة للنقد ؟
والسؤال الذي قرأته بالعربية قرأته بالألمانية أيضا Ist die Kritik notwendig?
والمطلوب مني هو أن أتحدث عن احتضار النقد ، واحتضار النقد يقود إلى مقولات فلسفية وأدبية كنت قرأتها في كتاب ( ألن روب غرييه ) ” نحو رواية جديدة ” ( ت. مصطفى ابراهيم مصطفى ، القاهرة ، د.ت ) ومن هذه المقولات :
– موت الله
– موت المؤلف
– موت الشخصية في العمل الروائي .
وأعتقد أننا حين نثير السؤال السابق وهو :
– هل هناك ضرورة للنقد الأدبي؟
نضيف إلى مقولات موت الله وموت المؤلف وموت الشخصية في العمل الروائي مقولة موت الناقد .
لقد اقترح علي أن أتحدث عن احتضار النقد ودور النقد في تسويق الأعمال الأدبية .
إن قراءة في العنوان المقترح تجعل القسم الثاني منه ” دور النقد في تسويق الأعمال الأدبية ” يلغي القسم الأول ” احتضار النقد ” – طبعا إذا أقررنا بأن للنقد دورا في تسويق الأعمال الأدبية .
أشير ابتداء إلى أن دال ” النقد ” دال واسع فضفاض جدا ، فتحته يمكن أن نتحدث عما لا يقل عن عشرة إلى خمسة عشر منهجا نقديا تزدهر وتخبو وتجد لها متلقين يتفاوتون فيما بينهم .
وإذا ما ألقى المرء نظرة على تاريخ النقد الأدبي فإنه يلحظ أن هناك مناهج نقدية ازدهرت وذوت وأخرى ما زال لها حضور .
نستطيع أن نتحدث عن نقد ( سانت بيف ) و ( هيوبوليت تين ) و ( برونتير ) والنقد الوضعي والنقد النفسي والنقد التأثري ، وكله نقد غير نصي باستثناء ( برونتير ) تقريبا ، ونستطيع أن نتحدث عن النقد البنيوي والتفكيكي والأسلوبي ونظرية التلقي ، وهذه كلها نقد نصي تهمل ما هو خارج النص ، وقد حل النقد النصي ، لحين ما زال قائما ، محل النقد غير النصي ، ولكن ماذا يقال اليوم عن النقد البنيوي والتفكيكي والأسلوبي ؟ بل ومن يقرأ ، اليوم وأمس ، الدراسات النقدية التي ينجزها النقاد الذين يطبقون هذه المناهج النقدية ؟
مرة قرأت للدكتور المصري عبده الراجحي دراسة عن الأسلوبية نشرها في عدد من أعداد مجلة ” فصول /يناير ١٩٨١ /المجلد الأول ، العدد الثاني ” المخصصة لمناهج النقد الأدبي الحديث ، وأثار فيها العديد من الأسئلة ، وخلص في كتابته إلى ملاحظتين منهما الفقرة الآتية :
” أن الباحثين الذين يتصلون بالدرس اللغوي الحديث ومناهجه يطبقون على بحث الأسلوب طريقة الإحصاء تطبيقا شاملا بحيث ينتهي العمل العلمي دون أن نجد نفعا فيما تحتاجه النصوص من تفسير “( ص ١٢١ )
ومرة قرأت في كتاب ” البنيوية وما بعدها : من ليفي شتراوس إلى دريدا ” ( الترجمة العربية أنجزها د.محمد عصفور وصدرت عن عالم المعرفة في الكويت في شباط ١٩٩٦ ) أن هذا النوع من النقد لا يلتفت إليه إلا قلة لصعوبته واختلافه عن النقد الفرنسي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين حيث كان الوضوح سمته الأساسية ، وهو عموما ما عرفناه في نقد طه حسين في كتبه الأربعة التي أفاد فيها من النقد الفرنسي والفكر والفرنسي والمنهجية الفرنسية . وإذا ما قارن المرء نقد طه حسين بنقد ناقد عربي آخر درس في فرنسا نفسها في سبعينيات القرن الماضي وأفاد من النقاد الجدد ، وأعني هنا الناقد الفلسطيني فيصل دراج ، لمس الفرق واضحا بين نوعين من النقد ، كان للأول حضوره بين القراء ، وغدا الثاني يخص نخبة القراء ولا يخرج منه حتى طلاب الدراسات العليا بالكثير . لقد قررت مرة بعض دراسات فيصل دراج على طلبة الدراسات العليا فوجدوا صعوبة في استيعابها ، وكان نقده لا يختلف عن النقد الفرنسي في ستينيات القرن العشرين . إن الغموض هو أهم ما يسم ذلك النقد ( هنا أشير إلى ملاحظة ثانية أهم من الأولى فيم يخص نقد فيصل دراج وهي احتفاؤه باللغة احتفاء لافتا حيث ينصرف ذهن المتلقي عن المعنى إلى بلاغة اللغة وطلاوتها ) .
ثمة نقد ونقد إذن ، وأعتقد أن النوعين مازالا حاضرين في الساحة الأدبية العربية المعاصرة ، وأرى أن هناك مجلات ما زالت رسالتها لا تختلف عن رسالة المجلات التي كان طه حسين ينشر فيها ، وهي ترمي إلى التواصل مع جمهور واسع من القراء ، وفي المقابل هناك مجلات متخصصة جدا تنشر لنخبة النخبة ولا تقرأ ما ينشر فيها إلا نخبة النخبة ومنها ، بل وعلى رأسها مجلة ” فصول “المصرية . ويقابل النقد الذي ينشر فيها النقد الذي ينشر في الصحف والمجلات وغالبا ما يوجه لقراء الصحف متوسطي الثقافة ويجد فيه هؤلاء متنفسا .
مثل مجلة فصول ومثل النقد الذي نشره فيصل دراج النقد البنيوي الشكلاني ؛ التنظيري والتطبيقي الذي يصدر عن أساتذة جامعيين في المغرب العربي – المغرب وتونس إلى حد كبير . وإذا طلب مني أن أحدد فأشير إلى نقاد أجلهم وأقدرهم وأفيد شخصيا منهم ، وعلى رأسهم محمد مفتاح وسعيد يقطين .
صحيح أن ما يكتبه هذان الناقدان مهم وجديد وتنظيري وتأسيسي ، ولكنه نقد تكاد تقتصر قراءته على طلبة الدكتوراه – إن استوعبوه – وعلى نخبة المتخصصين – إن استوعبوه استيعابا كاملا ودقيقا .
وإذا ما قارن المرء بين متلقي نقد طه حسين والعقاد وحسين مروة ومحمود أمين العالم وبين متلقي نقد سعيد يقطين ومحمد مفتاح يرى الفرق واضحا .
إن متلقي نقد الفئة الأولى كان من قراء المجلة ؛ متخصصين وغير متخصصين ، في حين أن قراء الفئة الثانية هم نخبة النخبة .
هل يثير أي كتاب جديد يصدر لنقاد الفئة الثانية ما كانت الكتب الجديدة لنقاد الفئة الأولى تثيره ؟
القسم الثاني :
هل يسهم النفد في تسويق الأعمال الأدبية ؟
أود إيراد الملاحظات والأسئلة الآتية :
– لماذا يهدي الكتاب نسخا من كتبهم للنقاد؟
– لماذا تهدي دور النشر نسخا من كتبها الصادرة حديثا للصحف والمجلات ؟
وغالبا ما تحيل هذه الصحف وتلك المجلات الكتب المهداة إليها إلى كتاب الأعمدة المتخصصين ومحرري الصفحات .
– كم من كتاب اشتريته أنا أو اشتريته أنت بعد قراءة دراسة أو مراجعة نقدية له ؟
الآن أنا شخصيا أخوض تجربة جديدة في النقد الأدبي تتمثل في تسخير وسائل التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك ) للتواصل مع القراء ، فماذا ألاحظ ؟
أشير ابتداء إلى أن ما أكتبه من نقد على صفحات التواصل الاجتماعي هو ضرب من مواصلة كتابة النقد الصحفي بل والنقد الذي ينشر في مجلات ، ويمكن أن أوضح ذلك لمن يستفسر .
كتبت على صفحات التواصل الاجتماعي عن روايات عربية فازت بجائزة الرواية العربية وجائزة مان بوكر العالمية للرواية ؛ كتبت عن روايتي ربعي المدهون ” السيدة من تل أبيب ” و ” مصائر “وروايتي يحيى يخلف الأخيرتين ” راكب الريح ” و ” اليد الدافئة ” وعن رواية واسيني الأعرج ” مي . ليالي ايزيس كوبيا ” وعن رواية الياس خوري “أولاد الغيتو ٢ : نجمة البحر ” وعن رواية جوخة الحارثي Alharethi Jokha ” سيدات القمر ” التي فازت بجائزة مان بوكر العالمية ، كتبت عن هذه الروايات ، وغيرها ، بصورة يومية وعلى مدار أسابيع ولاحظت تفاعل القراء مع الكتابة تفاعلا لافتا ومغيدا ، فقد أفدت الكثير من ملاحظاتهم ، وعرفت مدى تأثير ما أكتب في ترويج الأعمال الأدبية التي كتبت عنها ، فهناك قراء كثر سألوني عن الرواية وإمكانية الحصول عليها ، وحين سألت بعض أصحاب المكتبات إن باعوا نسخا من الروايات المكتوب عنها ، أجابوا بالإيجاب . لقد حقق ال ” فيس بوك ” ما تحققه الصحيفة في هذا المجال .
والسؤال هو :
– لو سألنا دور النشر عن طباعة كتب النقد وتوزيعها ، فماذا تقول ؟
إن إجابة دور النشر يمكن أن تعطي مؤشرا إلى اتجاه النقد وأين يسير .
مرة في عمان أخذت اسأل عن كتب دراسات عن أشعار الشاعر مظفر النواب ، فقد كنت مشرفا على رسالة ماجستير حول طبعات أعماله وتلقيها نقديا ، وسألت في المكتبات التي أتردد عليها فلم أعثر ، وقيل لي إن كتب الدراسات سوقها ضعيف والاهتمام أكثر ما يكون بالكتب المقررة والروايات ، وكان علي أن أذهب إلى المكتبات القليلة التي تركز على كتب الدراسات .
في مكتبات نابلس مثلا سألت عن المهتمين بمجلة ” فصول ” المصرية ، فأجابني صاحب المكتبة بأن خمسة قراء فقط يقتنونها أنا أقتني نسختين منها ، ولكن من يقرأ ما ينشر في هذه المجلة سوى المتخصصين . في نابلس جامعة فيها قسم لغة عربية وقسم لغة انجليزية يتجاوز أعضاء الهيئة التدريسية فيهما الأربعين ، وإذا أضفنا إليهم حملة الماجستير والدكتوراه في المدينة فإن عددهم يتجاوز المائة ، هذا إذا لم نذكر عدد المهتمين بالأدب من شعراء وقصاصين وروائيين ، ومع ذلك يباع من المجلة العدد المذكور .
إن اعتمدنا توزيع مجلة “فصول ” مقياسا لازدهار النقد واحتضاره فيمكن القول بلا تردد إن النقد يحتضر . ولكن هل النقد ينشر في المجلة فقط ؟ ثم إن مجلة ” فصول ” ليست المجلة الوحيدة التي ينشر النقد على صفحاتها . هناك مجلات أخر ، وإلى جانب المجلات هناك الصحف الورقية التي مازالت تصدر ، وعلى صفحاتها نشر نقاد كبار مقالات نقدية حققت انتشارا واسعا .
قد يقول قائل الآن إن الصحافة الورقية في طريقها إلى التلاشي ومع احتجابها سيتراجع النقد الأدبي في الصحافة وقد يختفي . قد .
ولكن كما أن الكتاب الالكتروني يحل محل الكتاب الورقي ، فإن النقد في الصحف والمجلات الالكترونية سيجد له مكانا ومتسعا ، وهناك مجلات أدبية متخصصة في النقد تصدر الكترونيا ومنها مجلة ” الكلمة ” التي يصدرها الناقد المصري صبري حافظ .
سوف أتحدث عن تجربة شخصية أخذت أمارسها من أعوام قليلة وهي كتابة النقد في ال “فيس بوك ” .
أنا أنشر مقالا أسبوعيا في جريدة الأيام الفلسطينية ، ومنذ ثلاثة أعوام أخذت أنشر مقالا ثانيا في موقع ” رمان ” ، وهو موقع الكتروني ، وعملت على إعادة نشر المقالين على صفحتي ، وعلى الرغم من طولهما إلا أنني لاحظت إقبالا من القراء على قراءتهما ، وحقق انتشارهما حضورا معقولا ، ولم أكتف بهذا ، فقد أخذت أقرأ روايات معينة وصرت أدون رأيي النقدي فيها يوميا على مدار شهر أو أربعين يوميا ، ثم قمت بجمعها معا لتشكل دراسة نقدية لها سماتها الخاصة ، وغالبا ما يطلبها مني الدارسون لقراءتها ، وقد قمت بإدراجها على موقع جامعة النجاح الوطنية ، وغدا الموقع مرجعا للمهتمين .
ما أود قوله هو إن النقد الأدبي مازال يحقق حضورا حتى لو كانت مؤشرات دور النشر تقول عكس ذلك .
وأعتقد أنه مادامت هناك جامعات وطلاب يدرسون الأدب ، ومادامت هناك نصوص أدبية فإن النقد سيظل يلازمها وسيظل قراء الأدب ودارسوه بحاجة إليه .