ما كان لهذا السؤال أن يطرقني ويحاصرني لو تنطح الفنانون العرب للكتابة عن الفنان برهان كركوتلي الذي توفاه الله بتاريخ 28 / 12 / 2003 .
وحيث إنني لا أستطيع ادعاء المعرفة بالفن ، لهذا تبقى الكتابة عن برهان الفنان غير واردة مطلقا .
إنما الجانب الذي عرفت به برهان هو الجانب الأساس في صنعه كفنان ، برهان الانسان ، ذو القلب الكبير المليء بالحب والظرافة والمغامرة ، مما يجعل منه شخصية روائية بجدارة .
شخصية إشكالية لا تستطيع أن تحيط بهواجس انتمائها بقدر ما تحدد انسانيتها وعفوية تعبيرها. شخصية لا تكتشف دمشقيتها إلا من خلال اللكنة المليئة بالملاحة والظرافة ، بينما تقرأ فيه فلسطين دائما ، لذا عرفه الناس فلسطيني يتجول في أنحاء العالم ، يرسم فلسطين ويحدثهم عن الشرق الذي يبدأ بالزيتون والبرتقال ورغيف الخبز الذي يتقاسمه الناس هناك بحب وأمل .
وبرهان كان يحب هذا الانتماء ويعتبره من أجمل الأوسمة التي حملها ، وبقدر إشكالية القضية ، كان برهان يتماها في الانخراط بها. يشد رحاله مهاجرا ، يحمل أشيائه يطبق عليها بكل قوته منطلقا برحلة ، الشقاء فيها هو الجمال ، والعذاب فيها هو الحب .
ابن دمشق القديمة كان يهرب دائما من ضجيج المدينة إلى غوطة دمشق من أجل أن يرسم الجمال في الطبيعة، ويلهث وراء حلم يهرب منه دائما، ويصر برهان على مطاردته مما يثير غضب الوالد عليه. فليس هذا ما يريده الأهل لأبنائهم في ذلك العصر ، وما مهنة الفنان أمام المحامي والدكتور والمهندس. إلا ان الانسان في برهان هو الذي يحدد المصير ، فكل القضايا الجميلة تبتدأ فكرة ، ولا فكرة دون خيال وتجسيد عوالم من الحلم ، ويكتسب الحلم جماله عندما يكون ينبوعه الواقع ، الأرض ، الوطن ، الرغيف ، الإنسان ، وأن يحدد الفنان هذه الأشياء على بساطتها والإصرار أن تكون نظيفة كلوحة جميلة ، عليه أن ينذر حياته وقفا على شرفها وسيادتها ، بنبل ورجولة ، وكان ذلك. فالرحلة التي خاضها برهان من أجل عالم نظيف طويلة وشاقة بقدر أشيائه البسيطة الصعبة ، وبقدر قساوة الواقع وتعقيداته ، كان بسيطا ونقيا كطفل بريء .
من القاهرة مركز دراسته الأول للفنون إلى اسبانيا ثم إلى المانيا حيث أنهى دراسته الأكاديمية ثم النمسا إلى المكسيك التي أستقبله مثقفيها وفنانيها بحفاوة عالية حيث أهداهم عمله الجميل ” التآخي ” وهي لوحة تجسد ” زيباتا ” قائد الثورة المكسيكية وعبد القادر الحسني قائد معركة القسطل في فلسطين. يعود ويعمل في فن الكاريكاتير مزوداً بها صحف الثورة الفلسطينية والصحف العربية ويطرز شوارع العواصم الأوربية بمعارض فكتبت عنه كثير من الصحف الأوربية وعن لوحاته التي كان يبيعها على شكل بطاقة معايدة post Karte“ ” في شوارع فينا وبرلين وأثينا .
لم يسعى برهان للثروة بقدر ما كان ثائرا وسفيرا من أجل قضية الإنسان ، ولم تأسره المؤسسة بقدر ما أسره الوطن بكل تفاصيله الصغيرة الجميلة .
لقد كان لي شرف معرفة برهان الذي سمعت عنه كثيرا ، إلا أنني تعرفت عليه كحكواتي عندما دعيت ذات مرة إلى منطقة ال Ostsee في شمال ألمانيا من أجل ليلة أقضيها مع تجمع من الأهالي احدثهم فيها عن الليل العربي ضمن برنامج التبادل الثقافي وكان علي أن أتحدث عن ” السهرية ، والمضافة ، والقهوة العربية ، والقصائد والربابة. فاجأتني المشرفة على البرنامج و قدمت لي بلكنة ألمانية برهان كركوتلي الحكواتي. كان لوقع الاسم علي شيء كبير ، التفت إليه من جديد معانقا ومرحبا شاكرا الظروف التي جمعتني به .
ودخلني بلا استئذان ، كان الرجل ” زغرت ” كما يحب هذا التعبير وسحرني أسلوبه في سرد الحكايا التي كانت تشد الألمان وتنقلهم إلى وطني الجميل الذي يحب الآخرين ويتقاسم معهم رغيف الخبز ومسحورا بحلم لم يأتي ، ولكننا نبحث عنه ونناضل من أجله .
كانت ليلة جميلة ، وكان برهان وحكاياه الجمال بذاته ، تبادلنا الهواتف والعناوين ، وعرفت منه بأسى كيف سرقوا الفكرة والحلم فقرر أن يقص الوطن حكاية وعندما سألته عن الرسم , أشاح بوجهه عني ثم عقب سأحدثك عن ذلك مرة ، ولمحت المرارة في عينيه .
كنا أصدقاء نتبادل الهواجس ويفاجئني بالزيارة ، يسأل عن الأصدقاء يخبئ لهم النكات والطرف ويذوب حبا ووفاء ، كنا نحب أن يكون بيننا دائما وكان مسكونا بالسفر.
كنا كاتحاد مثقفين في برلين ننوي افتتاح معرض تكريمي للفنان الشهيد ناجي العلي في ذكرى وفاته وودنا لو يفتتح برهان المعرض ويتكلم كصديق عرف ناجي من خلال اتحاد الفنانين التشكيلين الفلسطينين ، لم يتردد جاء من غرب ألمانيا وتحدث عن ناجي كما لم يتحدث أحد ، تحدث حديث عاشق وصديق وفنان ، فما كان من الجمهور إلا أن عانقوه وقبلوه ، وأمضينا معه أيام قليلة أعطانا فيها الكثير لم يبخل بشيء الخبرة والتاريخ والشاهد والفنان بشكل أساسي . وكان هذا لقاؤنا الأخير يوم 18/08/2003.
غادرنا برهان عن 71 عاما فكان خسارة. خسارة لأننا لا نحفظ أعماله ، وخسارة أن يدفن كغريب خارج الوطن ، وخسارة لم ينصفه الفنانون العرب وفنانو سوريا وفلسطين بشكل خاص ولم ينعوه .
وداعا أيها الصديق الطيب فلقد مت في الزمن الصعب .
زكريا السقال / برلين / 4 / 1 / 2004