في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي عقدته رابطة الكتاب الأردنيين عن أدب المقاومة وأدب السجون احتفالا بفوز الكاتب الأسير باسم الخندقجي بجائزة الرواية العربية.
كان عنوان الورقة التي قدمتها «موضوعة السجن في رواية الأسرى: كميل أبو حنيش نموذجا»، وكنت قرأت له العديد من رواياته السبع التي أصدرها حتى الآن وكتبت عن عدد منها وشاركت في ندوتين خصصتا لروايتيه «الجهة السابعة» و»تعويذة الجليلة» كما كتبت مقدمة لكتابه «الكتابة والسجن: عالم الكتابة في السجن» الصادر عن منشورات طباق في العام 2023.
ولكي تكون الكتابة عن موضوعة السجن في أدب السجناء في سياقها التاريخي، في الأدب الفلسطيني على الأقل، فقد اضطررت للعودة إلى استحضار الإنتاج الأدبي الفلسطيني قبل العام 2005 – أي تاريخ كتابة أول رواية لكميل، وعنوانها «خبر عاجل» وتعذر نشرها حتى العام 2008.
لقد تساءلت في البداية إن كان هناك أدب سجناء في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948، وأعملت ذاكرتي فيما كتب في حينه، وما كتب قليل ونادر أيضا؛ شعرا ونثرا.
في الشعر، لا يغيب عن ذهن قارئ الأدب الفلسطيني قصيدة الثائر عوض النابلسي التي كتبها في السجن ليلة إعدامه، فهي قصيدة مغناة، وهي قصيدة كتب عنها دارسو الأدب الشعبي الفلسطيني والمهتمون به، ومن أبرزهم الشاعر توفيق زياد في كتابه «صور من الأدب الشعبي الفلسطيني»، حيث كتب تحت عنوان «في ليلة الإعدام» وأدرجها مع ما كتبه، ومطلع قصيدة عوض «يا ليل خل الأسير تايكمل نواحه»، كما لا يغيب عن ذهن القارئ الفلسطيني قصيدة الشاعر الشعبي نوح إبراهيم التي كتبها في العام 1929 «في حادثة إعدام الفلسطينيين الثلاثة محمد جمجوم وفؤاد الزير وعطا حجازي «من سجن عكا وطلعت جنازة» وقصيدة الشاعر إبراهيم طوقان في المناسبة نفسها «الثلاثاء الحمراء».
باستثناء قصيدة عوض التي كتبها على جدار زنزانته، فإن ما كتبه نوح وطوقان لم يصدر عن تجربتهما الشخصية، وبالتالي فهو أدب عن الأسرى لا أدب أسرى، ومثلهما أيضا إسكندر الخوري البيتجالي في روايته «الحياة بعد الموت» التي كتبها في العام 1918 وصدرت في العام 1920 وعرج فيها على تجربة السجن التي مرت بها شخصية الرواية نجيب، حيث سجن بسبب هروبه من الخدمة العسكرية، وفيها وصف عابر للسجن الذي نزل فيه «فكان جزاؤه الحبس في محل سبحت مسطبته ببول البشر وذاق فيها الآلام ألوانا» و»وبعد أن أقام نجيب في ذلك المستنقع القذر ساعة أو أزيد، أخرج منه وهو يستعيذ وأخذ مخفورا صحبة سالم إلى دائرة أحد العسكر».
هل كتب قبل العام 1948 أدب أسرى؟ هل هناك أدباء فلسطينيون زج بهم في السجن وكتبوا بالتالي عن تجربتهم وعن عالم السجن من الداخل؟
هنا يمكن أن أتوقف أمام علمين من أعلام النثر الفلسطيني هما نجيب نصار ونجاتي صدقي.
سجن نجيب نصار في زمن الحكم العثماني فترة من الوقت ليقدم إلى المحاكمة، ووصف لنا في روايته التي ضللني عنوانها أربعين عاما (راجع مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية بتاريخ 2 / 1 / 2022) وصف لنا إقامته في السجن، آتيا على السجن وبنايته – كانت «آخور ألماني» للبهائم أصلا وفي الطابق الأول يبيت أصحابها/ خان الباشا/ سجن الديوان المعرفي – ونزلاءه الذين التقى بهم هناك وعلاقته بهم ومنهم نزلاء يهود، بل ومنهم من كانوا أشبه بـ»عصافير» يتظاهرون بأنهم سجناء ولكنهم في حقيقتهم جواسيس. لقد أرق السجن نصار حتى أنه شعر بالقلق وتساءل إن كان أصاب في معاداته للألمان ومقاومته للصهيونية ليدفع الثمن الذي دفعه.
وسجن كاتب القصة القصيرة المعروف نجاتي صدقي في سجون الانتداب البريطاني مدة عامين ما بين 1931 1933 لنشاطه السياسي في الحزب الشيوعي الفلسطيني وكتب عن تجربته في مذكراته التي دونها في نهاية سبعينيات القرن العشرين وصدرت في العام 2001 في بيروت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية مقرونة بتقديم وإعداد الشاعر والكاتب حنا أبو حنا.
في الفصل الخامس من المذكرات وعنوانه «في الطريق إلى السجن»، ويقع في الصفحات 93 إلى 108 يكتب نجاتي عضو اللجنة المركزية للحزب عن اعتقاله بسبب واشٍ انضم إلى الحزب، وعن تقديمه للمحكمة والحكم عليه، وعن سياسة حكومة الانتداب التي كانت تفصل بين السجناء السياسيين والسجناء ذوي الجنح الأخلاقية الاجتماعية خوفا من تأثير الأولين على الأخيرين، ويصف السجن وحياته، ويعدد السجون التي نزل فيها، ويخصص صفحتين لقصة السجينين اللذين أعدمتهما بريطانيا وهما أبو جلدة والعرميطي.
وأطرف ما في الفصل هو ما كتبه عن أخيه أحمد الذي أجبرته سلطات الانتداب على أن يكون شاهدا ضده ففعل.
لعل ما يستحق مقاربة أيضا هو الكتابة عن السجن في فلسطين ما بعد 1948 حتى 1967 في السجون الإسرائيلية والمصرية والأردنية، فقد يكتمل الموضوع.