‘‘هذا ما سنعرفُه لاحقاً، بعدما ‘‘أفسدتُ‘‘- أنا الراوي / الروائي (كما تعرفون، بالتأكيد) – واحدةً من ذرى حبكتي السرديَّةِ وأسرارها التّي يجبُ الاحتفاظُ بها جيداً لمزيدٍ من التشويقِ الذي لا يُستَخَفُ به في أيّ عملٍ روائي.‘‘
فوجئتُ بهذا الاستهلالِ القصيرِ والغامضِ بقلمِ المؤلفِ كتمهدٍ للمفاجأةِ التي سأجدُني بمواجهتها، حيثُ سأكتشفُ أنَّ الأحداثَ التي أقرأُها في ‘‘هنا الوردة‘‘ كنتُ قد قرأتُها في روايتهِ الأولى ‘‘حيثُ لا تسقطُ الأمطار‘‘. إذاً هذه هي الواحدةُ من ذرى حبكته السرديّةِ التّي أفسدَها بنشرهِ للجزءِ الثاني، قبلَ الجزءِ الأوَّل.
لكنَّ سرعانَ ما اكتشفتُ أنَّ الأمرَ لم يكن كذلك، كما المؤلفُ – وهو الشاعرُ / الروائي، يعرِفُ أنَّ التأليفَ لا يسيرُ دائماً وِفقَ المخطوطِ المعدِّ له بحسبِ رؤيةِ المؤلفِ للأحداثِ قبلَ البدءِ بكتابتها، ولكن أثناءَ الكتابةِ غالباً ما تأخُذُهُ إلى طرقٍ ودروبٍ لم تكن في حِسابِه، بل تَخلَّقَت حين كتابَتِها وفرَضَت واقعها، بحسبِ مجرى الأحداثِ ومنطقِ الأمورِ والمساراتِ التّي صادفَها أثناءَ عمليّةِ التأليف. وأظنُّهُ نَصَبَ لنا فخاً.
لم يُقنعني اعترافُ أمجد ناصر ذاك، فكانَ لابدَّ من العودةِ لقراءةِ ‘‘حيث لا تسقطُ الأمطارَ‘‘ لأبحثَ عن أسبابِ ومسوّغاتِ ما حدثَ معه، وكانت رحلةً جميلةً وقراءةً جديدةً عبرَ الانتقالاتِ بينَ الروايتينِ كي أقارِنَ بينَ الحادثةِ نفسها التّي رواها ‘‘أدهم جابر‘‘ في ‘‘حيث لا تسقطُ الأمطار‘‘ ثم رواها ‘‘يونس الخطاط‘‘ في ‘‘هنا الوردة‘‘، وأظنّني عثرتُ على إجابةٍ أولى هي مفتاحٌ لقراءةِ الجزأينِ كروايةٍ واحدةٍ بالإمكانِ قراءَتُها من حيثُ انتهت رجوعاً إلى البدايات، وبالعكس، من دونِ أن تُفسَدُ أيَّةُ ‘‘ذروةٍ من ذرى الحبكاتِ السرديّةِ وأسرارِها‘‘، بل لعلَّ المؤلفَ دفعنَا لقراءةِ روايتِهِ الواحدةِ بطريقتينِ مختلفتينِ، سواءً تمَّ ذلك بقصدٍ أم من دونه، لأنَّ البطلَ ليسَ واحداً – كما قد يظنُّ القارئ- فأدهم جابر – كما نعرف- تركَ يونسَ الخطاطَ هناكَ على الحدودِ في ‘‘حيثُ لا تسقطُ الأمطارُ‘‘، بل بالأحرى لم يترُكه، بل خلَعَهُ كما يتوجبُ القول، وبدأَ حياةً جديدةً، باسمٍ جديدٍ، في المدينةِ الأخيرةِ / المنفى الأخير، التّي أسلمَتهُ لها مدنُ المنافي الأولى، ولاشيءَ يدلُّ على أنَّ ما فعَلَهُ أدهم جابر كانَ وِفقَ خطةٍ مدروسةٍ وضعها لكي يفعلَ ما فعل، بل هو السياقُ أو الخطُ الزمنيُّ الحاملُ الحقيقيُّ للأحداث، ويكاد ‘‘أدهم جابر‘‘ يكونُ أداةَ الزمنِ الناطقةِ بأفاعيلهِ ومَكرِهِ وحفريّاتِهِ، في الوقتِ الذي لم يكن لـ ‘‘يونس الخطاط‘‘ – وقد تُرِكَ وهو في فجرِ شبابهِ- كبيرٌ دخلَ فيه.
في الإثبات :
سأورِدُ مقاطعَ ثلاثةٍ من ‘‘حيث لا تسقطُ الأمطارُ‘‘، ربما تكونُ إشاراتٍ دالّةٍ لما ذهبت إليه:
المقطع الأول: نقرأُ في الصفحةِ (23): ‘‘في وقتٍ ما، كنتَ تُعتَبَرُ بطلاً، أو متآمراً. شابٌ شجاعٌ شاركَ في عملٍ بطوليّ بنظرِ البعضِ في الخارج، أو شابٌ سَمَمَت رأسَهُ أفكارٌ مستوردةٌ تورَّطَ بعملٍ متهورٍ في نظرِ آخرينَ هنا، دفَعتُما، أنتَ وقرينُكَ، أو الشخصُ الذي كُنتَه، ثمنَ فِعلَتِك. هو بَقيَ شبحاً، أو مسخاً، لا يكبرُ ولا يصغرُ، محتفظاً باسمٍ وحياةٍ قُصِفا في المهد‘‘.
المقطع الثاني: نقرأُ في الصفحةِ (30): ‘‘قلتُ له إنَّ حكايتَكَ هذه لا تكفي للقولِ إنَّ الأشياءَ متساويةً. سَخِرتُ من القصائدِ التّي رثى فيها والدَهُ، ووالدَتَهُ، وتلكَ التّي لمَّحَ فيها إلى ‘‘رُلى‘‘. قلتُ له على أيّ رصيفٍ كنتَ تتسكعُ عندما وُجِدَ والدُكَ ميتاً في محترفِهِ وعقبُ سيجارةٍ في الطرفِ الأيسرِ من فمه؟ في أيّةِ حانةٍ أو مقهى كنتَ تتجرعُ كأساً أو ترتَشِفُ فنجانَ قهوةٍ وأمُّكَ يأكلُها السرطانُ في مستشفى الحاميةِ العموميّ؟ قلتُ أيضاً إنَّ الكلماتَ، مهما كانت نادمةً أو ضارعةً لا تعوِّضُ نظرةَ أمّكَ في اتجاهِ الغربِ، الجهةُ التّي تظنُّ أنَّها ابتلعتكَ إلى الأبد‘‘.
المقطع الثالث: وهو مواجهةٌ بينَ أدهم ويونس على شرفةِ البيتِ الذي عادَ إليه بعدَ عشرينَ عاماً، ونقرأُ في الصفحةِ (226): ‘‘أردتُ أن يكونَ لي بعدَ انفصالنا الكوكبيُّ، اسماً عادياً لا يلفتُ النظرَ ولا يثيرُ شبهةً من أيِّ نوعٍ ويمكنُ تصديقُهُ، في تلكَ المدينةِ التّي يُلَعلِعُ فيها الرصاص، بسهولةٍ. اسمٌ يضيعُ بينَ الأسماءِ الأخرى، لا معنى خاصاً له، مع أنَّهُ من الصعبِ في لغتنا، أن لا تكونَ للأسماءِ معانٍ أو رموز. فمثلاً اسميَّ الأوّلُ (الذي تنفردُ به وحدَك، الآن، ولا أتذَكرُهُ إلّا على هذه الشرفةِ معك أو في الأحلام المؤرقة التي تنتابني).
المقاطعُ الثلاثةُ المختارةُ أعلاه من بينِ غابةٍ من التداخلِ بين الروايةِ المطبوعةِ على دفعتينِ وباسمينِ متبادلين الأدوار أوصلتني إلى الاستخلاصات التالية:
1) يونسُ الخطاطُ في الروايةِ الأولى – وليسَ الجزءَ الأوّل- كانَ متداخلاً في أدهم جابر، إنّه مازالَ الشخصَ / الشبحَ المستعادَ من منظورِهِ، وقد بدت حياتُه كـسردٍ متقطعٍ كما لو أنَّها في معرضٍ استعاديّ لمحطاتٍ من حياتِه القصيرةِ والمبتورة.
2) ولأنَّها كذلكَ فحياتُه لا تنتهي أبداً، طالما أنَّها اقتُلِعَت من سياقِها الزماني / المكاني، وانقذَفَت في حياةٍ أخرى في المنافي باسمٍ جديدٍ، واختفى يونسَ الخطاط بقوةِ الواقع (هكذا من وراءِ أسوارِ الزمنِ والبعد، انبثَقَ أمامكَ في المكانِ الذي لم تتوقع أن يصلَ إليه رسولٌ أو خبرٌ سارٌ من بلادك. لم يكن ‘‘يونس الخطاط‘‘ بشخصه، هذا غير ممكن. فهو لم يغادِر ‘‘الحامية‘‘ إلّا إلى الحدودِ وتوقف هناك. حيث لا تسقطُ الأمطار “صفحة 74”)
3) من هنا كان لابدَّ ليونسَ الخطاط أن يعودَ لسياقهِ الطبيعي المبتورِ بصرفِ النظرِ عن مآلاتِه، وهو يختزنُ كلّ تلك المشاعرِ الغاضبةِ- كما في المقطع الثاني- يعودُ من حيثُ تركه قرينهُ في الحافلة، يعودُ وحدَهُ خارجاً من ظلّه، ليعيدَ كتابةَ حياتِهِ أولاً، ويتصالحَ معها ثانياً، ويسدَّ الفجواتِ التي أحدثَها الانفصامُ ثالثاً.
4) ‘‘هنا الوردة‘‘ إذاً، هي المساحةُ الضروريةُ لعدالة، كان يجبُ أن يتحصّلَ عليها يونس الخطاط بروايةِ الأحداثِ بطريقةِ ‘‘الراوي كليّ العلم‘‘، كما وقعت، وليس كذكرياتٍ مستعادةٍ من قِبَلِ أدهم جابر، بعدَ مرورِ عشرين عاماً على حدوثها.
5) وإنّ كان الأمرُ كذلك فلن تُفسَدَ أيَّةُ ذروةٍ، ولن يخبَ أيُّ تشويقٍ لتتبعِ الأحداثِ ومعرفةِ مآلاتها، ولسوفَ أجدُ أنَّ ‘‘هنا الوردة‘‘ استكمالٌ لتلكَ المواجهةِ بين أدهم ويونس على شرفةِ البيتِ بعدَ العودة، في إعادةِ روايةِ الأحداثِ ببنائيتها وتسلسلِ أحداثِها ولغتها، ولكن المفارقين لرواية أدهم جابر.
في الفروق بين بنائية الزمان والفضاء الروائيين واللغة:
يجدرُ بنا أن ننتبهَ إلى الفروقِ بين بنائيةِ الزمانِ والفضاءِ الروائيينِ واللغةِ في ‘‘حيث لا تسقطُ الأمطار‘‘، و‘‘هنا الوردة‘‘، كيف يتجلى في سيرِ الأحداث والوصف، ولكي أفعلَ سأشيرُ إلى مقطعٍ من حيثُ لا تسقطُ الأمطار، وما يقابلهُ من ‘‘هنا الوردة‘ بذكرِ الصفحةِ أو بكتابةِ المقطع:
في زمنيةِ الأحداث: بطؤها أو تباطؤها، تمهلها ومكوثها طويلاً في وصفِ مشهدٍ، أو مكانٍ، أو شخصيةٍ، وأيضاً الفرق بين وصفٍ خارجي للأشياءَ للاستدلالِ على مسرح الحدثِ فحسب، وهذا لا يتطلبُ وقتاً طويلاً في القراءة ولا في الزمن الروائي، كما في وصفِ الراوي للفندق الذي نزل به يونس الخطاط في مدينة السندباد في ‘‘هنا الوردة‘‘، بعكس الوصف الذي غايته سبر غور النفس وتفاعلها ودرجة انفعالها مع استعادة الذكرى المصاحبة، وهنا يتباطأ ليسبرَ عمق العواطف ويستخلصَ أموراً عديدةً أرادها المؤلف في ثنايا المكتوب، كما في انقطاع السرد لوصف المنزل الذي ذهبَ إليه يونس برفقةِ مروان ليسلمَ الرسالة التي أتى بها من رئيسِ تنظيمه في مدينته الحامية، إلى الأمين العام للتنظيم في مدينة السندباد، فقد حضرت ‘‘رلى‘‘ – حبيبته التي كانت علاقته بها في أوّل الحبّ أيّ في ذروة توهجه- بسببِ اللمسة الأنثوية ‘‘الندية الخضراء‘‘ التي تلف البيت وتعطيه هويته، وهنا بالتحديد نعثرُ على عنوان الرواية ‘‘هنا الوردة‘‘، في الصفحة (37)، نقرأ: ‘‘كلمةُ وردة دفعت مقولةً شهيرةً أخرى، ذاتُ سياقٍ مختلفٍ إلى ذهنه. مقولةٌ يعرفها جيداً، ولا ترسمُ في ذهنه وردةً من أي نوع، بل لهباً وحرائق: هنا الوردة فلنرقص.‘‘، ثم نعرف أن العبارة قيلت في أول لقاءٍ له مع رلى. وحيثُ يكون السردُ عن المضامين الوجدانية يتمهلُ الزمن ويمكثُ لاستعادة المشهد بحركيّته وامتلائهِ بالوصف الحسيّ والوجدانيّ والمعاني المبثوثة في الهواجس والعواطف، وإذ نجدُ الذاكرةَ، في ‘‘هنا الوردة‘‘ قريبةً وطريةً وحسيةً في لغتها، في مشهدِ استكمالِ حضورِ ‘‘رلى‘‘ بعد خروجهِ من منزلِ ‘‘الأمين العام للتنظيم‘‘ (صفحة 45-49)، تكونُ في ‘‘حيث لا تسقط الأمطار‘‘ بعيدةً وانتقائيةً وحزينة، فهي تخترقُ الزمان البعيدَ لتستحضرَ الماضي بتفاصيلهِ ليصبحَ حاضراً في زمن الكتابة، وإذ تقومُ بذلكَ لا تشتغلُ بطريقةٍ أوتوماتيكيةٍ منطقيةٍ كما الـ‘‘البندول‘‘، بل تعودُ للماضي المؤثر في الحاضر، حاضرُ لحظةِ الكتابة، تنتقي الأحداثَ التي شكلت منعطفاً في حياةِ الأبطال، وآثارها على مآل البطل والشخصيات المحورية (صفحة 201-203)، هذا التداخلُ الدائمُ، والتقطيعُ في المشاهد بين ما يحدثُ الآن فعلياً، وبين الماضي المستعاد، ومابينهما من فواصل ‘‘رؤيوية‘‘ لما يمكنُ أن تكونَ عليه الأمورُ في المستقبل، تكونُ لغتُها في حيث ‘‘لا تسقط الأمطار‘‘ أقربَ إلى المونولوغات الطويلة، وتكادُ لا توجدُ في ‘‘هنا الوردة‘‘. صحيحٌ أنَّ الأسلوبَ واحدٌ في الجزأين -من دون ترقيمهما- ، وفي بنية السردِ على لسان الراوي كليّ العلم، والاستعدادِ الطبيعي الموجود في الشكل للتعبير عن الأفكار، وتمكن البنى من إنتاج حركة الانفعال، في بناء الجمل وترتيب العبارة ضمن السياق؛ لكنها أكثرَ شعريةً وشاعريةً ومأساويةً في ‘‘حيث لا تسقط الأمطار‘‘ بحكمِ النضج في التجربة، والترحالِ في الجغرافيا، وطرقِ المنافي في حفرها بالنفسِ والروحِ والعقل، لكنّها في ‘‘هنا الوردة‘‘ أقلُّ تداخلاً في الزمان والمكان، فالأحداثُ مرصودةٌ ضمن زمنٍ قصير، وجغرافيا محدودة، وكلّ ما سبق قوله لم يكن قد امتلكه ‘‘يونس الخطاط‘‘ ولا تكشَّفت له المصائر، لذلك كانت لغته: قريبةً، حسيةً، طريةً، والقيمةُ النفسيةُ للأفعالِ والتعابيرِ كانت أقربَ إلى التداول بين الناس في تلك الحقبةِ من الزمن (في وصف لقائه بالأمين العام صفحة 41).
ربما تكونُ ‘‘هنا الوردة‘‘ الروايةَ الوحيدةَ البريئةَ من أيّةِ ‘‘إيديولوجيا‘‘ كُتِبَت عن تلك الحقبة، وربما تكونُ الوحيدةَ التي اختزنَت حرارةَ الحبّ والحنو عليها، فقد حملت آمالاً عظاماً، وأحلاماً ووعوداً بالتغيير ‘‘تخرُّ لها الجبال‘‘، ولكنّها كانت حقبةً قصيرةَ العمر، مثل حياةِ ‘‘يونس الخطاط‘‘ وآمالهُ ووعودهُ التّي ‘‘قُصِفَت في المهد‘‘، وحينَ لاحَ أنّ شباباً آخرون -في زمنٍ قادم- سيحاولونَ إحياء آمالِ ‘‘التغيير‘‘ تلك، تكشّفوا عن ملايين ‘‘يونس الخطاط‘‘ العربي الدونكيشوتي، وانتهوا إلى المآل نفسه: انقصفَت حياتُهم في المهدِ مرتين.
Check Also
جداريات السوري اسماعيل الرفاعي: طقوس وحدْس وطباشير طفولة
يقول اسماعيل الرفاعي، المولود بمدينة الميادين في سوريا عام 1967: «مشروعي الفني التشكيلي التعبيري ارتبط …