لا أنسى العبارة التي قالها أحد أشهر القضاة في سوريا (اللاذقية): (من يدفع أكثر يربح الدعوى). لدرجة ارتبط مفهوم القضاء (والعدالة) في سوريا بالفساد. والسوريون شاهدون على
قصص فساد مُروعة للقضاء وهم عاجزون عن الشكوى، لأن لا أحد يتجرأ أن يشتكي أو حتى أن يحكي لأنه سُيعاقب بتهمة تهبط عليه وقد يختفي ويُقتل. ولأنني إبنه اللاذقية كنت ككل الأحبة السوريين بحالة ذهول من هول فساد القضاء. وسأكتفي بذكر بعض الدعاوي التي ربحها رجال السلطة والنفوذ الذين لا يجرؤ أي قانون على محاسبتهم فهم فوق القانون، والمحامين والقضاة خدم
عندهم.
– قضية رجل ثري عجوز وعازب في اللاذقية ثري جداً يملك سينما (الأهرام) وهي من أهم سينما في اللاذقية مُهملة ولا تعمل وتقع في وسط اللاذقية في أهم شارع (شارع التجار) وطبعاً لا توجد دور عرض سينمائي في اللاذقية ، فما تبقى من السينما أصبح مهملاً جداً ولا يعرض أفلاماً. سينما أوغاريت التي استقبلت جين مانسون ومطربين أجانب مهمين تحولت إلى مُعتقل يخرج منها كل مدة جثث لسوريين ، سينما الأهرام أراد أحد رجال السلطة وهي عائلة مقربة من أسرة الأسد وتربطهم بها قرابه ، أرادت تلك العائلة ببساطة شديدة أن تسطو على سينما الأهرام الكبيرة المؤلفة من تسعة طوابق ، وأن تهدمها وتحولها إلى برج سكن الرجل العجوز الثري صاحب السينما لجأ إلى محامين كثر مشهورين ، كلهم قالوا له يستحيل تربح الدعوى فهذه العائلة فوق القانون ، لكن الرجل الذي هده الظلم والقهر وجد أخيراً حلاً لدى محامي ذكي قال له : أمامك احتمالين إما أنك ستخسر الدعوى والأسرة المدعومة ستحصل على سينما الأهرام أو حل لا يوجد غيره أن تتبرع بالسينما لطائفة الروم الأورثوذكس ( هو من طائفة الروم الأرثوذكس ) وتبرع بسينما الأهرام للطائفة وهكذا لم تتمكن الأسرة المُتنفذة من السطو عليها .
– قضية رجل موظف ورث أرضاً عن والده أرض مهمه حدودها الأمامية بحر اللاذقية وحدودها الخلفية المدينة الرياضية ، كان سعيداً أنه سيترك الأرض إرثاً لأولاده ، لكن البلدية قامت باستملاكها بحجة بناء مشاريع سياحية ، كاد الرجل يموت بالسكتة القلبية خاصة أن أرضاً ملاصقة لأرضه يملكها رجل متنفذ لم يتم استملاكها ، وقدرت البلدية سعر المتر للأرض المُستملكة بثلاث ليرات. وحسب القانون السوري إذا لم تقم البلدية بإنشاء مشاريع سياحية خلال سنتين يحق لصاحب الأرض المطالبة باستعادتها ، مرت عشرون سنة والبلدية في اللاذقية لم تقم بأي مشروع سياحي والرجل المسكين يقدم دعوى تلو الأخرى ليحصل على أرضه أو ثمنها وتمكن عن طريق محامي من رفع سعر المتر للأرض المستملكة ، الخلاصة أن الوسيط في البلدية ( فلكل مسؤول عالي المرتبة وسيط يتفاوض مع المواطن للحصول على الرشاوي ) وُضع الرجل أمام احتمالين : الأول : تقول لك البلدية لا يوجد لديها مالاً لدفع ثمن الأرض المُستملكة ، أو تدفع ثلث المبلغ رشوة للمسؤولين الكبار في اللاذقية . عشرون سنة والرجل الموظف المقهور ينتظر أن يحصل على ثمن الأرض فإذا بمسؤول كبير في البلدية يطالبه بثلث ثمنها فاضطر للقبول. المقربون منه نصحوه كلهم أن يقبل بدفع ثلث ثمن الأرض للبلدية، أصبح الفساد نمط تفكير بسبب ممارسات فاسدة فاقعة لا تخفي نفسها ولا تحاول تبرير ما تفعل.
-الكثير من الأبنية الأثرية في اللاذقية التي يُحظر القانون هدمها بل على الدولة صيانتها تم هدمها وإنشاء مباني عملاقة من ثلاثين طابق وفي شارع ضيق ، حتى أنه لم يعد بالإمكان القول هناك (لاذقية قديمة) كما نقول دمشق القديمة أو حلب القديمة ، أجمل الأبنية الأثرية تم هدمها بحجة أن (الإخوان المسلمين كانوا يختبؤون فيها !!!) البناء أو الزقاق الأثري الوحيد المتبقي في اللاذقية هو شارع مُهمل يختنق ببسطات البالا ودكاكينها.
-الجريمة الأكبر كانت إزالة سلسلة من أجمل المقاهي البحرية في اللاذقية ( العصافيري – فينيسيا – رشو – لاكابان الخ ) كانت هذه المقاهي الموازية تماماً للبحر رئة ومتنفساً لأهل اللاذقية وللسوريين جميعاً ، منظر السوريين يقفون ذاهلين وهم يتفرجون على آلات عملاقة تطرد البحر وتردمه برمال وصخور كان مُروعاً ، خاصة أن هذه المقاهي كانت في قلب اللاذقية ، نُفي بحر اللاذقية بعيداً وحل محله سطح إسمنتي عملاق تعبره شاحنات لا نعرف ما البضائع التي تنقلها ، عدا عن إنشاء مبنى كبير يملكه رامي مخلوف يبيع كل أنواع الكحول والتبغ والشوكولا وبعض الأدوات الكهربائية البسيطة ، ويومياً كان رتل من السيارات تقف أمام المبنى تُحمل أطناناً من المشروب والخان والمعسل. وأمام نظر كل المواطنين. لا تتمتع اللاذقية بأية صفة كونها مدينة ساحلية فلا نجد نشاطاً تجارياً ولا سياحاً وأسعار السمك تنافس سعر الذهب ومعظم السمك مستورد من تركيا، ولم يعد فيها أبنيه أثرية. المصايف القريبة من اللاذقية خاصة المصيف الساحر صلنفة تشوه بشكل فظيع، تم قطع أشجار غابات كاملة وإقامة أبنية عملاقة من عشرين طابقاً وكل طابق عدة شقق
شارع العشاق أجمل شارع في صلنفة غيروا اسمه إلى (ملتقى الحبايب) ربما لاعتقادهم أن كلمة عشق تفسد الأخلاق وسوروا أحد جداره الذي كان من الأشجار بجدار إسمنتي قبيح. الكازينو الجميل الذي بناه الفرنسيون أيام الانتداب الفرنسي وكان تحفة معمارية تحول إلى (بلازا) يملكها أحد من أقرباء بشار الأسد، والمضحك المبكي أنه تم إغلاق الشارع المؤدي إلى بيت المحافظ في صلنفة بباب حديدي ضخم أي لا يستطيع المواطن التنزه في هذا الشارع، والمهزلة أن معظم شوارع مصيف صلنفة تحمل أسماء شهداء كلهم تماماً كلهم من أسرة رئيس البلدية. الحفة التي تقع وسط اللاذقية وصلنفة بقيت مُهمله إلى حد يثير الشفقة، طوال حكم الأسد الأب والابن لم يتم أي اهتمام بالحفة ذات الأغلبية السنية حتى أنها تعرضت للقصف بالبراميل المتفجرة بموافقة من وزير الداخلية وقتها وهو ابن الحفة.
الكثير من السوريين عدلوا عن رفع دعاوي للحصول على حقوقهم لأنه طوال خمسين عاماً من هول فساد القضاء ترسخ في أذهانهم ما قاله ذات يوم القاضي (من يدفع أكثر يربح الدعوى).
أهم المطالب اليوم لبناء سوريا حرة تسود فيها العدالة والكرامة وتحفظ حقوق المواطن هو إنشاء هيئة قضاء نزيهة مستقلة.