عشت كل عمري في اللاذقية، ورغم أنني – كما أقول دوماً – حصلت على دكتوراة في الضجر فيها لأنها مدينة فقيرة لدرجة البؤس، فقيرة ثقافياً وفكرياً لا سينما، لا مسرح .
المحاضرات الثقافية فيها من نوع الغزو الثقافي ومقاومة التطبيع ، أو كيف نقول لا لأميركا ، ما كان ينقذني من تلك التفاهة ، سوى القراءة بنهم والكتابة، وعملي كطبيبة عيون في المستشفى وفي عيادتي ، وكانت كل
الفرص متاحة لي كي أعيش في باريس لكني في كل زيارة إلى باريس وبعد مرور أسبوعين على إقامتي فيها كان قلبي ينفطر للعودة إلى اللاذقية، أشتاق لبحرها ولمقاهيها البحرية البسيطة التي كتبت فيها معظم
قصصي ومقالاتي، كان البحر شريكي في الأفكار، والمدى الأزرق أفرد عليه أفكاري، وهسيس الموج يوشوشني بأحاسيس وأفكار، كنت أشتاق حتى
لضجري في اللاذقية، كنت أشتاق إلى اللاذقية كروح، كإنسان، وأقول دوماً الأمكنة أرواح، وباريس رغم عراقتها وعظمتها وجمالها لا تخصني ، لا يوجد رابط عاطفي بيني وبينها.
لعل احساسي هذا أو حنيني يشبه حال ملايين السوريات والسوريين في المهاجر والشتات التي اضطروا للفرار من نظام اللون الواحد وكرسيه الذي أستبدله بوطن أسمه سورية. .
كانت علاقتي في اللاذقية كأم لديها ابن مُعاق، قربه عذاب وبعده عذاب، اللاذقية لم تعد عروس الساحل السوري إطلاقاً، فمنذ جريمة تبليط البحر وكنت وقتها مراهقة أقف مع الآلاف من سكان اللاذقية، نتفرج بذهول على
الآلات العملاقة التي تنتهك البحر وتهدم أجمل سلسلة مقاهي بحرية ساحرة الجمال، كانت رئة ومتنفساً لأهل اللاذقية، منذ تلك الجريمة ، وسحق سلسلة مقاهيها البحرية صارت اللاذقية مدينة مُنتهكة ومُغتصبة، وصارت أرملة
الساحل السوري، ولا أعرف لماذا ضعفت ذاكرتي بعد أن شهدت جريمة تبليط البحر، صرت اتسلى كثيراً، كما لو أنني أحنو على نفسي، وأريد أن أخفف الأذى والنزيف داخلي.
ولم يبقَ بيت أثري في اللاذقية، لم يعد من تعبير اللاذقية القديمة، كل بيوتها الأثرية هدمت وشيدوا بدلاً منها عمارات الفساد في شوارع ضيقة، تشعرني كأنها الجبل الجاثم على قلوب السوريين، ولم يبقَ من بناء أثري في اللاذقية
إلا زقاق البالة البائس المهترئ، ترتص فيه بسطات ودكاكين البالة التي أصبحت من أهم معالم سوريا الحديثة ، سورية الاصلاح والتغيير ، لكن بقيت تلك العبارات يابسة .
كتبتُ ذات يوم مقالاً أتساءل فيه أين اللاذقية القديمة؟ وألوم المسؤولين أنهم دمروا كل معالمها الأثرية اتصل بي أحد المسؤولين الكبار وكان في قمة الغضب والانفعال وقال لي: تفضلي إلى مكتبي، رفضت وقلت له لدي
مرضى في العيادة، فصرخ ما هذا المقال الذي كتبتيه عن اللاذقية!! ليكن بعلمك نحن اضطررنا لهدم البيوت الأثرية في اللاذقية لأن الإخوان المسلمين المجرمين كانوا يختبؤون فيها. عجبي قلت له: كان بإمكانكم
ملاحقة الإخوان المسلمين والقبض عليهم دون هدم البيوت، فصرخ متوعداً مهدداً وحذرني أن أكتب مقالاً يشبه مقالي أين اللاذقية القديمة ، كان يبدو انها ابراج وديمغرافيا الفساد الت أرادوها .
ثمة أحداث تبقى وشماً في الذاكرة وجرحاً في الروح، وجروح الروح لا تندمل وثمة وجوه تنبثق من تلافيف الدماغ، وتحضر بقوة أينما كنت سواء في اللاذقية أو أميركا أو باريس أو أستراليا ، أحس أن لذاكرتي بطانه، تماماً
بطانة فكل شيء أقوم به أو أفكر به له بطانة، أو ظل هم أحبتي أصدقائي سجناء الرأي، بكل صدق أعترف أن سجناء الرأي بطانة روحي وأنهم حاضرون بقوة كل لحظة في يقظتني ومنامي ولا أعرف لم لم أكن واحدة منهم –
ربما بالصدفة فقط – كيف أنسى حين كنا في عمر البراعم 19 سنة، وفي سنتي الثالثة في كلية الطب، وكنا في رحلة جامعية إلى صافيتا لنزور برجها توقفنا في طرطوس لنفطر، كنا أكثر من أربعين طالباً وطالبة في كلية
الطب نغني، أذكر الأغنية (يا شجرة الليمون يا عيني)، وأثناء صعود الباص اقتحم الباص ثلاثة رجال بثياب مدنية وقبضوا على أربعة من زملائي، ولم يجرؤ أحد أن يسأل، وهبط الصمت علينا ثقيلاً كالرصاص، ولم يعد بمقدور
صاحب الصوت الساحر أن يكمل أغنية (يا شجرة الليمون)، منذ ذلك اليوم شعرت أن دملاً تكون في روحي وأن إحساسي بالكرامة والأمان، أصبح مستحيلاً وأكملت دراستي وأنا أتابع وأشهد على سجن عشرات من أصدقائي كان معظمهم تحت العشرين سنة لسنوات طويلة في السجون وتعرضهم لأقسى أنواع التعذيب .
بعضهم سجن أكثر من خمسة عشر عاماً أو عشرين عاماً، ومعظم زملائي مات أهلهم من القهر، ما كان يؤلمني كثيراً تجاهل معظم الناس لقضية جوهرية هي حجر الأساس في حياة السوري قضية سجناء الرأي كانوا
يخافون حتى الاعتراف بها أو التفكير فيها، وحين كنت أقترح أمام هؤلاء أن يقرؤوا روايات مثل القوقعة لمصطفى خليفة، أو شرق المتوسط ، أو رواية الآن هنا ، لعبد الرحمن منيف، كانوا يجيبون بتجاهل وجهل : هؤلاء الكتاب
كذابين!! وحين اعتقل أحد أصدقائي بتهمة عمله في قضايا حقوق الإنسان، وكانت زوجته حديثة الولادة ، لم يدعمها أحد وانفض عنها أقرب الأصدقاء والأقرباء وقالت لها إحدى قريباتها ، يعني زوجك مجنون لينتقد القائد المفدى إلى الأبد!! .
المصدر: https://annasnews.com/archives/32219