لا أتذكَّرُ الآن كَمْ كان قد مَرَّ مِنْ أيام، أثناء لجأتنا الكارثية من مخيم اليرموك أواخر عام 2012 عندما سألت الأولاد عندي في البيت عن الصديق يوسف سامي اليوسف وأين صارت أراضيه في هذه الدراما المخيفة التي عصفت بنا، ورمت كُلاًّ في بلد.
فمِنْ عادة الناس في أزمنة الحروب والثورات والكوارث الطبيعية والاجتياحات الخارجية أو ما شابهها من نكبات أن تذهل حتى عن أنفسها، وعن أغلى ما لها في الحياة. ولا يكون لها من هَمٍّ سوى الارتماء في أوّلِ ملجأ يفتحُ لها ذراعيه! ولا تبدأ بالبحث عما تَبَقّى لها إلاّ بعد أن تكون قد استقِرّتَ في مكانها الجديد.
وجاءت الأخبارُ بأن يوسف اليوسف كان قد تابع مشوار النزوح عن اليرموك، هو وعائلته، أو بعضٌ منها، باتجاه أحد المخيمات الفلسطينية شمالي لبنان. ولقد تذكّرتُه فجأةً دون كثيرين، ليس فقط من أجل الصداقة التي ربطتنا زمناً، بل لمعرفتي الوثيقة بحراجة وضعه الصحيِّ، وحاجته المُلِحَّةِ للهدوء والسكينة.
فقد كان اختار في سني عيشه الأخيرة أن يعيش في عزلة نسبية عن كل ما لا يَمِتُّ إلى أهل بيته الأقربين بِصِلَة. ولقد احترمنا، نحن أصدقاءه، عزلته تلك، بالرغم من أنها وضعت حدَّاً لسهراتنا الجميلة معاً، وحرمتنا من الفوائد الجَمّة التي قد يفيدها الجميعُ من مثل تلك السهرات .
ومع ذلك، ورغم العزلة والمرض والخراب الذي رآه يوسف اليوسف يحيط بنا من كل جانب، إلاّ أنه لم يتوقف عن القراءة والكتابة يوماً. وكان آخر ما نشره من مؤلّفات كتابَه المعنون: “تلك الأيام” وصدر عن دار كنعان للدراسات والنشر بدمشق بين عامي 2005 و 2011 .
وكنتُ قد حدستُ، ومثلي كثيرون، بأن ذلك التغيير المفاجئ والعنيف في مسيرة حياته التي مالت في سنواتها الأخيرة، كما أشرت، إلى الرتابة والعزلة، والانصراف لمجابهة أمراض الشيخوخة على أنواعها، ستجهز عليه سريعاً. فكان أن قضت عليه بأسرع مما توقَّعنا. فخسرنا بموته كاتباً استثنائياً، وقامةً عالية يندر أن يجود شعبنا الفلسطيني بمثلها ثانيةُ.
ومما لا يخفى على أحد أن يوسف اليوسف لم يُطِق مخيم اليرموك في أي يومٍ من أيام حياته المديدة فيه، رغم أنه لم يعش في مكانٍ آخر من دمشق إلاّ فيه. فقد كان يعتبره على حد تعبير كلماته، واحداً من أسوأ الأماكن في العالم، وأكثرها صخباً وقذارةً واكتظاظاً بأخلاطٍ من البشر، يزاحمونك على كل شيء، وبالأخص على الهواء الذي تتنفسه!
على أن من شبه المؤكّد أيضاً أنه لا هو ولا غيرُه كان يتوقّعُ للمخيم، ولمسيرة عيشنا فيه، على ما كان فيها من منغِّصات، تلك النهاية الدرامية العاصفة التي دمّرت البشر بأكثر مما دمّرت المكان. وهو عندما أنهى كتابه “تلك الأيام” بجملة: “ولكن، ما أشَدَّ حنيني إلى الموت، في زمن العطالة هذا!” فقد كان وبكل تأكيد ينتظر انسحاباً هادئاً ومُوَقّراً، يليقُ بعطائه الفذِّ، من هذه الحياة المقيتة التي لم يختر، طوع رغبته، أن يكون واحداً من أبنائها.
هو لم يتخيّل تلك النهاية العنيفة لحياته الشخصية التي كان يراها تمّحي تدريجيّاً، وتذوب سنةً إثر سنة، وأنا لم أتخيّل أن يكون مّكْرُ التاريخ قد خبّأ لي أن أكتب عنه من دُبي، المدينة التي شاءت الأقدار أن تكون منفاي المؤقت حتى الساعة.
فعام 2009 كتبت في مجلة “الحريّة” الفلسطينية، ومِنْ شُقّتي في مخيم اليرموك، عن الأجزاء الثلاثة الأولى من سيرته الذاتية التي عَنْوَنَها باسم “تلك الأيام”. وصدر الجزء الرابع من تلك السيرة في وقتٍ ما من عام 2011. على أن التطورات الدامية التي عصفت بسوريا، واضطرارنا مجبرين لركوب المنافي المتتابعة، حال دون حصولي على ذلك الجزء أو الكتابة عنه إلاّ مؤخّراً.
وينتمي الكتاب المذكور بأجزائه الأربعة إلى أدب السيرة الذاتية. ولأن السيرة الذاتية ليوسف اليوسف تخلو، كما أشار هو في غير موضعٍ من الكتاب، من الأحداث الكبرى والمهمة، فقد جاء، وبخاصة في جزئيه الأخيرين “استبطاناً لسريرة الذات.. وطافحاً بالأفكار الوجدانية، الوثيقة الصلة بالحياة والتجربة الحيّة.. وتنقيباً في لُجج النفس والشعور.. وما يحتويه الوجدان مِنْ توتُّراتٍ محتدمة، وتساؤلات عارمة ومتباينة”.
وهذه الغاية، أو قُلْ الغايات التي أخذ الكاتبُ نفسه على تحقيقها تَشُقُّ على كثيرين، إلاّ أن يكون كاتبها هو يوسف اليوسف الذي تطوع له مفردات اللغة حتى يعجنها، ويخلق منها ما شاء، وكيف يشاء.
وبما أنه يصعب تلخيصُ أفكاره بغير الصياغات اللغوية التي تَمَّ التعبير عنها، فسأجدني مجبراً في الكثير من الأحيان على استخدام مفرداته حتى لو لم أضعها بين قوسين.
وكتابُ “تلك الأيام” شهادةٌ من الكاتب على عصرٍه، أو على طورٍ تاريخي عاشه، فرآه موغلاً في عبادة المال والقوة، عصرٍ لاهَمَّ له سوى إحكام الحصار على الروح الانساني، بما يعنيه ذلك من إقصاء لكل ما هو نبيل، وتهميشٍ لوجودنا في هذا الكونٍ، الذي هو أقرب لأن يكون أحجية أو متاهة، أو كابوس وُجدنا في داخله دون أن يستشيرنا أحد.
وقد درس يوسف اليوسف الحياة فرآها صراعاً محتدماً بين معسكرين أحدهما يمثل الخير والثاني يمثل الشر. ورغم إيمان الكاتب بحتمية الشر، واستحالة دحره، لأنه من طبيعة الأشياء وفي اللب منها، وله الغلبة ولاسيما في عصر عبادة المال والآلة، إلا أنه يرى بأنه لا يمكن للإنسان الحق، أو الانسان الخاصّ، كما أسماه، إلاّ أن يكون في جانب الخير، وضد الظلم والقُبح بأشكاله المتنوعة، وأن يجهد ما وسعه الجهد لجعل العالم صالحاً لاستضافة روح الإنسان، وهي أثمن ما قدمته المادة في تطورها، وأشدّها استعصاءاً على التوصيف. والحياة، كما يراها يوسف اليوسف، ليس لها أهمية عند الحصيف. فهي والعدم سواء. كلاهما خواء وفراغ ينداحُ إلى ما لا نهاية.
وفي الفصل الأول، من الجزء الرابع الذي هو موضوع مراجعتنا هذه، وهو بعنوان “هواجس وأفكار” حديثٌ مستفيض عن الانسان وماهيته. وتأملات يوسف اليوسف في الانسان تقوده إلى أنه كائنٌ يمّحي تدريجيا وحياته ليست غير سجال دائمٍ بين الواقع والمُضمَر، بين ما هو كائن وما سوف يكون. وهو أنانيٌّ، يعبد المال والقوة، ومهمومٌ على الدوام بغاياته الخاصة. وبالتالي فالنفس البشرية هي مصدر الشرور في هذا الكون.
على أن الحياة، كما يراها يوسف اليوسف لا تخلو من سويعات فرح، برؤية حفيدٍ نَبَتَ شاربُهُ، أو علاقة حبٍّ غامضة مع المرأة الحلم. وهو ما خَصّص له الكاتبُ الفصلَ الثالث من الكتاب وكان بعنوان :”رسالة إلى سيّدة”.
فرسالته تلك مُوَجَّههٌ إلى أنثى “من سلالة الأسرار المكتومة”. أنثى ساعدته “على استيعاب ماهيّته، وحيويَّتُها المتدفقة الرائعة، وعرّفَتْهُ أكثر بنفسه”.
ورغم أن كتاب “تلك الأيام” ليس كتاباً في النقد الأدبي، ولا تطبيقاً من تطبيقاته إلاّ أنه احتوى على قدرٍ غير يسير من الآراء النقدية المبثوثة هنا وهناك. ففي الفصل الثاني والمُعَنْوَنِ ب “الشعور والوجدان” يرى يوسف اليوسف أن الأدب، أو الفن عموماً، وبما هو شرحٌ للتجربة المعيشة، ليس سوى محاولة لرؤية الحقيقة من خلال الوجدان. وبالتالي فإن أوّل معيارٍ يُقاسُ به الأدب: قدرته على جعلنا نخبَرُ سُمُوّاً أخلاقياً رفيعاً، لا يتأتى إلا إنْ كان بالأصل تعبيراً عن مكابدة الكاتب في جعلنا نخبر ذلك السُمُوّ. وهو ما نلمسه جَلِيّاً في إبداعات الكبار من أمثال المتنبي والمعري ودانتي وشكسبير.
وفي الفصل الرابع والأخير من الكتاب وهو بعنوان ” الشعر في دمشق” إطلالة سريعة على الشعر السوري منذ بداية القرن العشرين حتى السبعينيات من ذلك القرن، مع تريّثٍ خاص عند أسماء كالزركلي وبدوي الجبل ونزار قباني. ومع فواز عيد، ممن حلّوا من الشعراء الفلسطينيين في دمشق.
وفي الواقع، فإن كتاب يوسف اليوسف على ِقلّة عدد صفحاته، 200 صفحة من القطع المتوسط يكتظُّ بالأفكار على نحوٍ لا يُمَكِّنُ من تتبُّعها في مراجعةٍ واحدة. ولا بد لي في الختام من أن أُنَوِّه بعشق المؤلف لمدينة دمشق، وبوجهٍ خاص: دمشق الخمسينات والستينات، ولغوطتها من قبل أن يفترس العمرانُ الجائرُ، وجشع تجار العقارات ما فيها من اخضرارٍ ويناعة.
وحسبي أن أختم مادتي عن يوسف اليوسف بكلماته المؤثرة والموجعة عن عاصمة الأمويين، حينما كتب: “ولستُ إلاّ صادقاً إذا ما ادعيتُ بأنّ همَّها يخرشُ وجداني، بل يُصدِّعُ كياني ويُشعِّثُ نسيجَ روحي، ولا سيما حين أراها معكورةً مثل أرملة بائسة، بل مُستباحةً حقّاً. فيا لهذه المدينة التي كانت شديدة الجمال، بل باهرة الحُسن بالأمس القريب”.
شاهد أيضاً
قضية دير مار الياس الكرمل: الديني والسياسي (1)
القسم الأول آلاف من الحجاج المسيحيين واتباع الطوائف المسيحية العربية في الوطن يؤمّون دير مار …