الجرمق, اسم أعلى جبل في فلسطين, وهو أيضاً اسم لمنطقة في جنوب لبنان حدودها من عربصاليم شمالاً إلى نهر الليطاني جنوباً ومن العيشية شرقاً إلى كفر رمّان وحرش النبي طاهر غرباً, وتشكل نطاقاً جغرافيا في إقليم النبطية تتعين فيه منطقة الجرمق والمحمودية والوادي الأخضر, ومن كان شاباً في ثمانينيات القرن الماضي لابد أنه يحفظ أشماء هذه القرى و المواقع عن ظهر قلب, فقد كانت عرضة دائمة لغارات الطيران الإسرائيلي و لاعتداءات جيش لبنان الجنوبي. ولذلك كانت منطقة الجرمق* اللبنانية تعتبر محمور عسكري هام لقوات م ت ف في جنوب لبنان وتكاد أهميتها تعادل أهمية منطقة العرقوب التي كانت تعرف باسم ” فتح لاند”, فإلى الجنوب قليلاً من الجرمق تقع تخوم دير ميميس ومرجعيون الخاضعتين لسيطرة جيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حدّاد الموالي لإسرائيل. ولهذا كانت قوات المقاومة الفلسطينية المتواجدة في تلك المواقع في حالة تأهب دائم وجهوزية عالية للقيام بصد أي عدوان إسرائيلي محتمل والقيام بالأدوار التكتيكية المنوطة بها لدعم وإسناد القوات المتواجدة في قطاع حرش النبي طاهر وقلعة الشقيف (حيث في هذه الأخيرة كان الثقل الأساسي للكتيبة الطلابية والمعروفة, يا للمصادفة, باسم كتيبة الجرمق).
في التاسع عشر من كانون الأول\ أكتوبر 1980و للقيام بالأدوار التكتيكية المنوطة بها كقوات دعم و إسناد للمجموعات الموجودة في قطاع قلعة الشقيف , بدأ الهجوم الإسرائيلي على مواقع المقاومة الفلسطينية في قطاع الجرمق, وقد كانت معركة في منتهى الشراسة وصلت فيها الأمور إلى حد الالتحام المباشر و الاشتباك بالسلاح الأبيض, وليس هذا ما يؤرخ لأهمية هذه المعركة فحسب, بل لعلها كانت من أوائل المعارك التي استخدمت فيها القوات المهاجمة (الجيش الإسرائيلي) كمّاً هائلاً من التكنولوجيا العسكرية لم نعهدها من قبل, فضلاً عن أن تكنولوجيا المعلومات والاستخبارات لعبت دوراً حاسماً سواء في سير المعارك أم في انتهائها, وقد وصل الأمر باستخبارات الجيش الإسرائيلي أنها كانت على علم بأماكن تواجد العناصر المقاتلة وحتى معرفة أسمائهم, ورغم اعتماد الجيش الإسرائيلي على عنصري المفاجأة والمباغتة, إلّا أن القوات المدافعة تمكنت من امتصاص صدمة الهجوم ونظمت نفسها في حلقات دفاعية قلّلت قدر الإمكان من خسارتها مما أهّلها للصمود لفترة أطول.
وطالما الحديث عن عنصري المفاجأة والمباغتة لابد من الحديث عن دور الشهيد سعيد صنديد عودة (ابن مخيم اليرموك) في كشف المجموعات المتسللة والتي كان هدفها تفجير الموقع, فقام سعيد بمباغتها بخط ناري كثيف أجبرها على التراجع, وكانت القوة المهاجمة (مجموعات من لواء جولاني) قد أعدّت كميناً على الطريق المؤدي لمواقع قوات المقاومة بهدف قطع الإمدادات, وقامت قوات الكمين بإطلاق القذائف الحارقة “الإنيرجا” على سيارة التويوتا التي كان يقودها قائد الفصيل إبراهيم يوسف أبو الحصين** (استشهد لاحقاً) وكان خلفه رامي الدوشكا ماجد عبد الغني خالد “أبو العز” (السوري ابن مدينة الكسوة, من سكان ابن مخيم اليرموك) والذي أصيب بعدة طلقات في ذراعه وفخذه, وبحكم ضعف حاسة السمع عند سعيد صنديد فقد أنقذ رفاقه مرتين, إذ كان يعوض حاسة سمعه بمراقبة دائمة للجو وهو رابض خلف رشاشه المضاد للطيران خشية المباغتة, كانت عيناه دليله لما يحيط به وحواسه الأخرى تقوده لما هو غريزي للبقاء حياً, وأذكر كيف باغتتنا طائرة حربية معادية وعلى علوٍّ منخفض, وقبل حتى أن نراها أو نسمع هديرها وقبل أن يتمكن الطيار نفسه من إلقاء قنابله علينا سمعنا صوت الدوشكا يلعلع والذي كان سعيداً خلفه ماسكاً بمقبضه طوال الوقت. وبعد أول رشقة انبطحنا أرضاً كإجراء احترازي وعيوننا نحو السماء وإذ بنا نرى الطائرة ترتفع عمودياً وقد خرج من بطنها حبل دخان كثيف غامق اللون, وسعيد مستمر في الرماية دون توقف, وبدأت الطائرة تبتعد وتحوّل الدخان إلى ألسنه لهب متلاحقة.
أما المرة الثانية التي أنقذنا فيها سعيد صنديد عودة فقد كانت خلال معركة الجرمق هذه, إذا كان لطلقات الدوشكا على المجموعة المعادية المتسللة دورٌ في تنبيهنا باقتراب القوات المعادية. أفرع سعيد جميع ذخيرة الدوشكا وبدأ باستخدام بندقية الكلاشينكوف التي بحوزته, في الوقت الذي ازدادت فيه كثافة النيران من جميع الاتجاهات ومن جميع المصادر, الصديقة والمعادية, وأثناء ذلك, لاحظ سعيد من مكانه سقوط اثنين من المدنيين أثناء محاولتهما الهروب, وكان آخر من قام به اندفاعه نحوهما لإسعافهما.
في صباح اليوم التالي وجدنا سعيداً يسبح بدمه وهو يحضن بندقيته الفارغة تماماً وقربه جثة المدنيين (عويّد وشقيقه).
بعد نصف ساعة تقريباً من بدء هجوم القوات الإسرائيلية, وكنّا ما زلنا في حالة من الإرباك والتشتت الذهني, انتشرنا في منطقة ضعيفة من الناحية العسكرية ومكشوفة, وهي عبارة عن وادٍ عريض, لا يسمح لنا بتتبع مصادر نيران العدو ولا رصد تحركات قواته, فلجأنا غريزياً لأسلوب الدفاع السلبي, أي الاحتماء بالسواتر, مما ساهم في عدم تعرضنا للإصابة من النيرات المتقاطعة الصديقة والمعادية على حد سواء, وأثناء ذلك كان قد وصلنا الإمداد باقتراب مجموعة تابعة للجبهة الديمقراطية تمركزت على الطريق المؤدي إلى كفر رمّان, مما سمح لنا بتكوين صورة أوضح عن ساحة المعركة.
حافظ عناصر الجبهة الديمقراطية على مواقعهم قرب تل صغير بمحاذاة الطريق العام وبدؤوا بإطلاق النار باتجاه مواقع العدو من مدفع رشاش عيار 23 مم كان بحوزتهم مما سمح لنا بتحديد مصادر نيران العدو من خلال متابعة ومضات الطلقات النارية الخطاطة, في الوقت الذي وصلت فيه مجموعة إسناد أخرى تتبع جبهة التحرير العربية فقفزوا من سياراتهم بسرعة وخفة ومهارة مثل النمور الهائجة ولحسن حظهم أنهم ابتعدوا قليل عن السيارة لأنها تعرضت لوابل من القذائف أدت إلى تدميرها بالكامل, لقد كان منظرهم مثيراً وهم يقفزون من السيارة ويتخذون مواقعهم القتالي بسرعة قبيل انفجار سيارتهم.
بعد ذلك بلحظات وصلت سيارة من نوع GMC إلى أرض المعركة, ثم أعقب ذلك وصول الرائد سعيد [صقر] فنونة قائد كتيبتنا من أجل الاطلاع على الموقف واتخاذ ما يلزم من قرارات ميدانية فتم إعطاء الأوامر المناسبة لعناصر المدفعية (كنت أنا ممن يجيدون العمل على جهاز الراكال). وقد اتضحت صعوبة الأوضاع للرائد فنونة, فما كان منه إلّا أن طلب من كتيبة المدفعية السادسة أن تتوقف عن الرماية لأنه لاحظ أن رماية المدفعية بدأت تأخذ شكل الصبيب الناري, أو ما كنا نسميه “تخليص أرواح, يعني عليّ وعلى أعدائي”, ورغم اعتراض البعض, إلّا أن الرائد تشبّث بموقفه موضحاً أنه علينا أن نتبين نقاط الاشتباك الصديقة والمعادية في البداية ومن بعدها, أي باللغة العسكرية, من بعد تقدير الموقف, نقرر طريقة الاشتباك الخاصة بنا. وبعد حوالي عشر دقائق, أرسل الرائد سعيد برقية تأذن بعودة القصف المدفعي إلى جنوب خط التابلاين, أي جنوب مواقعنا باتجاه ما تمّ افتراضه طريق تسلل العدو وما سوف يكون طريق انسحابه حتماً.
أثناء الاشتباك تحرك الأخ سعدي حسن حميدة “أبو حسن” (وهو قائد الموقع المستهدف بالهجوم), مع مجموعة من العناصر وبدون إطلاق نار حتى لا يفتضح أمرهم, وتابعوا التقدم باتجاه جسر الخردلي وخط التابلاين, حيث سيكون طريق انسحاب المهاجمين (حسب تقديرات أبو حسن) وكان الهدف إقامة كمين في طريق انسحاب المجموعة المهاجمة, وكان تقديره صحيحاً بدرجة عالية, وعند وصول القوات المنسحبة فاجأهم أبو حسن ورفاقه بسيل من النيران الغزيرة وكان الهدف التمكن من أسر بعض العناصر, تفاجأت القوات الإسرائيلية بالفعل وتغيّر سير المعركة فتحوّلوا منذ تلك اللحظة إلى الدفاع إذ باتوا تحت رحمة كمين أبو حسن بعد أن كانوا مهاجمين ويمتلكون البادرة مما أفقدهم عنصري المفاجأة والسيطرة النارية, وخلال دقائق قليلة كانت الطائرات تلقي القنابل المضيئة مع قصف مدفعي كثيف وتحليق متواصل للمروحيات التي بدأت بالاشتباك مع مجموعة أبو حسن.
لم نستطع الوصول للمجموعة إلا في الصباح وكان أبو حسن قد سقط شهيداً وبجانبه الشهيد فياض غدادة (من بعلبك) وقد نفذت ذخيرتهما بصورة شبه كاملة تقريباً.. وعلى مسافة ليست بعيدة عنهما كانت أحذية وخوذ الجنود الصهاينة تملأ المكان, بما في ذلك علب المؤن الفردية وبعض البنادق والكثير من الدماء ومعدات الإسعاف الميداني.
من مفارقات ذلك اليوم وصول سيارات الهلال الأحمر الفلسطيني إلى أقرب نقاط الاشتباك, وكنا نرى الطواقم الطبية ينبطحون أرضاً مثل مقاتلين محترفين ويعاودون النهوض من جديد “حسب الحالة”, ومازلت أذكر كيف تمكنوا من الوصول إلى ماجد عبد الغني خالد الذي كان قد أصيب قبل نحو ساعة ونصف وتوقف عن الحركة تماماً, وأذكر أيضاً كيف طلب مني ومن المسعفين الابتعاد عنه, وكنت قد زحفت نحوه حتى صرت بمحاذاته تقريباً, إذ كان يرى, أكثر منّا, كيف كمنت القوات المعادية على بعد أمتار قليلة منه, ومان إن انتهى من صراخه نحونا حتى انهالت عليه وعلينا زخات كثيفة من الرصاص, وكان هذا من حسن حظ ماجد وحظنا, إذ انكشفت مواقع العدو لنا في تلك اللحظة فكان لهم عناصر جبهة التحرير العربية بالمرصاد “بالمعنى الحرفي والفعلي للكلمة”, فأمطروهم بعشر قذائف آر بي جي على الأقل و أربع وحدات BKCمما سمح للكوادر الطبية بسحب ماجد إلى نقطة آمنة وتقديم الإسعافات الأولية المناسبة ومن ثم نقله إلى السيارة.
انقشعت المعركة في اليوم التالي (20 \ 10 \1980) واستمر الطيران الإسرائيلي في التحليق في المنطقة بكثافة, ومع ساعات ما قبل الظهيرة اختفى الطيران تماماً من الأجواء. وأعطى عبد المجيد أبو معيلق (أبو بسام) ” قائد فصيلنا الثالث بعد استشهاد كلّ من القائد الأول للفصيل إبراهيم أبو الحصين والقائد الثاني سعدي حسن حميدة “, أوامره للجميع بعدم التحرك أو لمس أي مخلفات تركها العدو خلفه وتقدم منفرداً نحو مناطق الاشتباك وقد عثر, بخبرته وحنكته, على معظم الألغام والعبوات والفخاخ المتفجرة التي خلّفتها القوات المعادية خلفها والتي وزعتها وحدات الهندسة التابعة وقد اشتملت على ألغام أرضية مضادة للآليات وضعوا أسفلها ألغاماً مضادة للأفراد, وبعض علب الذخيرة ومخازن الرصاص الفارغة, ليس هذا فحسب بل استطاع أبو بسام جمع العديد من علب ألواح الشوكولا الصغيرة وعبوات الماء, وطبعاً جميعها كانت مفخخة بطريقة ذكية, وقام أبو بسام بوضع رجوم صغيرة من الحجارة قرب كل شرك أو فخ أو لغم أرضي, علماً أن قوات الكمين المعادية التي تصدى لها سعيد صنديد تركت مخلفاتها دون أن تتمكن من تهيئتها كالغام وزرعها وتوزيعها.
….
*الجرمق اسم قرية لبنانية تقع على طريق النبطية المؤدية إلى العيشية, وهي منطقة الوادي الأخضر جنوب عربصاليم وشرق كفر رمّان, والأحداث المذكورة حصلت تماماً في البلدة المهجورة منذ الحرب الأهلية اللبنانية ومحيطها (وهي إجمالاً مساحة صغيرة نسبياً) واسم القرية لا علاقة له بجبل الجرمق الفلسطيني ولا باسم كتيبة الجرمق “الكتيبة الطلابية” التي كان لها نضالاتها في موقع قلعة الشقيف والقطاع الأوسط فضلاً عن نشاطها السياسي والفكري داخل حركة فتح وكانت من أهم وأميز كتائب الحركة بسبب تنوع عناصرها وتعدد انتماءات عناصرها الجغرافية سواء من المشرق العربي “سوريا, لبنان, فلسطين, الأردن” أو من بلدان المغرب العربي.
** استشهد إبراهيم يوسف أبو الحصين يوم 21\10\1980 . ومن شهداء معركة الجرمق أيضاً أحمد أبو عمرة وقائد السرية الرائد حامد عبد الرحمن الكحلوت, استشهدا بسبب انفجار لغم أرضي في السيارة التي كانت تقلّهما أثناء تفقدهما بعض المواقع بعد انسحاب القوات الإسرائيلية. مما ينبغي ذكره عن الرائد الشهيد حامد الكحلوت تمتّعه بحس أمني عالي وهدوء في العمل والقدرة على الاستفادة من الوضع الراهن سواء في الانتشار أو الانسحاب وكذلك رفع معنويات عناصره والبدء الفوري بعد كل هجوم بمراجعته ودراسة خطط العدو الهجومية وطرق انسحابه وأهدافه القريبة والبعيدة من أي هجوم أو اختراق أمني. وأذكر أننا وصلنا يومها إلى المكان وطلب الرائد حامد مني ومن رفيقي كامل حسين العساف” تيتو” (سوري من مدينة حماة) أن نذهب معه لمعاينة الألغام التي خلّفها العدو وراءه, والتي كان قد حدد موقعها الأخ أبو بسام كما أسلفت أعلاه. وكانت خطة الرائد حامد أن نقوم بعملية التفاف حول المنطقة لنسلك خط أنابيب التابلاين, لنصل إلى المواقع الأمامية الصديقة, عندها نقوم بتفكيك الألغام. وبمجرد وصولنا بدأنا العمل بدقة وحذر شديدين, فقمنا بتفجير بعض العبوات والألغام الذكية, وفي غضون ذلك وصل الملازم أول أحمد محمد أبو عمرة “بمحض الصدفة ودون تنسيق مسبق” وكان يحمل معه بعض المعدات والعبوات الصغيرة كمبادرة فردية منه للمساهمة في تفكيك الألغام وقد وصل إلى مواقعنا سيراً على الأقدام لوحده. لم يستغرق الأمر منّا وقتاً طويلاً حتى أنهينا عملنا بنجاح واتخذنا مواقعنا في السيارة استعداداً للعودة, وكان الرائد الكحلوت هو من يقود السيارة وبجانبه الملازم أول أبو عمرة مع معداته , وأنا وتيتو في الخلف, نسند ظهرينا ببعضهما البعض وتتدلى أقدامنا خارج السيارة. وما إن وضع الرائد حامد يده على مكبح اليد حتى دوّى انفجار هائل.. استشهد الرائد حامد والملازم أول أبو عمرة على الفور, ووجدت نفسي برفقة تيتو بعيدين عن السيارة مسافة 15 متر تقريباً ومحروقي الشعر وبعض الحروق على وجهينا وفاقدي حاسة السمع مؤقتاً.