في تلك الليلة التي كتب فيها ابن زريق قصيدته، لم يخطر بباله أنه قال فيها كل ما سيراه تحليلها. وهـذا ممكن، وربما بديهي، في كل عمل أدبي أصيل. لكنّ هذا البديهي الممكن يكـاد يدخل نطاق اللامعقول في هذه القصيدة، إذ إنها بمجرد استنطاقها تنطق بأكثر مما يعرف ابن زريق وعصـره عن طبيعتي المرأة والرجل.
المرأة، كما يراها بيير داكو بحق، أشبه ما تشبه الماء. صافية عذبة رقراقة شفافة. سلبية، تأخذ شكل الإناء الذي توضع فيه. واقعية، لا تعاكس الاتجاه، مسارها مسار التيار. ملحاحة، ما تريده تريده، لا ترد ولا تصد. لا تترك ثقباً في الجدار، مهما يكن صغيراً، أو في شخصية الرجل، إلا وتنفذ منه. عملية، تتغلغل في كل الثقوب التي في نطاقها، وتتقن التعامل مع كل الأشياء اليومية. لا تكترث بما هو خارج نطاقها سواء كان كبيراً أم صغيراً. قد تنضغط وتنكبت، لكنها لا تنفجر. فالضغط قوة لا تضعفها، بل تزيدها قوة. متى اجتازت بفعله حاجزاً أمامها، تجتاز كل الحواجز. ومع ذلك فهي مسالمة، تميل إلى الهدوء والاستقرار، بجوّانيتها تهواه.
إنها نقيض الرجل، لا تعاني من أي قلق وجودي، لذا لا تأبه بالفلسفة أو التفلسف، تركتهما له. فالرجل يعاني هذا القلق لأنه كالتاريخ، يعلم أنه عابر على هذه الأرض. كل همه أن يترك عليها أثراً ولو محدوداً، يموهه كطموح. أما المرأة فتعلم، والرجل يعلم، أنها في دخيلتها أسمى من كل ما يريد أن يكون. إنها بسلبيتها أكثر حقيقيةً وفاعليةً من كل فاعليته، من كل ترّهاته. كل همه أن يخلق حقيقة صغيرة واحدةً، عساها تتكلم على الأرض تذكّر فيه. أما هي فالحقائق التي تخلقها كثيرة، وعلاوة على ذلك تضج بالحياة: كلاهما يعلم في قرارة نفسه أن الأولاد من خلقها وإبداعها، نموا فيها وخرجوا من أحشائها، لا من مخيلتها، يصرخون. إنهم امتداد لها، فهي جذر لامتداد. وهو يريد أن يصير جذراً، ولكن هيهات.
إنها لا تعاني من هذا القلق لأنها كالجغرافيا، هادئة مستقرة ليقينها أنها راسخة. وهو كالتاريخ، يشرّق ويغرّب ليقينه أنه عابر. والعابر دوماً يعبر، هذا في أفضل الأحوال. برغم كل هذا التناقض بينهما، فهما ليسا نقيضين: إنهما طرفا تناقض في علاقة تجاذب، لأنها لا تستقر ولا يهدأ لها بال طالما أنها لا تكتمل إلا فيه، فهو بلواها. وفاجعتها فيه قد تكون أكبر من فاجعته فيها، لأنه عابر. والعابر كالميت، لا يعلم بالفجيعة. هذا التكامل في تناقضهما تفصح عنه جوّانية ابن زريق البغدادي، الذي لم يكمل امتداده، ولم ولن يصير جذراً.
كان ابن زريق مغرماً بفتاة تحبه كثيراً. غادر بغداد إلى الأندلس لمدح الخليفة، واثقاً بأنه سيعود غانماً لأنه يعرف في قرارة نفسه حقيقة قصيدته. دخل على الخليفة وأنشده إياها، فقال الخليفة: أعطوه ديناراً.
أخذ الدينار وانصرف.
وفي صبيحة اليوم التالي، دخل الخليفة مجلسه ليقول: أين هذا الشاعر البغدادي؟ ائتوني به لأجزل له العطاء. فوالله إن قصيدته لرائعة، وما قصدت إلا المزاح. ذهبوا إلى الخان الذي ينزل به، فوجدوه ميتاً، وتحت رأسه هذه القصيدة.
هذه القصة جزء من القصيدة تماماً مثلما أن هذه القصيدة جزء من القصة. وبالمقابل فإن هذه القصة باعتبارها أساساً ومدخلاً للقصيدة، لأنها بها تصيران قصة \ قصيدة، ينفي عنها كونها مجرد قصيدة، مجرد صرح من الكلمات قد يبنيه شاعر أحياناً لغاية في نفس يعقوب، تماماً كقصيدة ابن زريق نفسه في مدح الخليفة.
إذن مقدمة القصيدة كوميدية ونهاية القصة تراجيدية، وعلى الحد الفاصل بينهما يبدأ البوح. كلا! مقدمة القصة القصيدة كوميدية من زاوية الخليفة، وخاتمتها صاعقة بلا شك، ولكن لا أثر للمأساة فيها، إلا إذا لاحقه شبح ابن زريق. وبهذه الحال، لا نعرف تتالي فصول مأساة الخليفة. أما بالنسبة لابن زريق، فنهاية القصة بداية الفصل الأول من المأساة، وتتالي فصولها في السكون، سكون الظلام في عتمة الخان، يدفع بها إلى الأوج لتكتمل بتسجّي ابن زريق جسداً بارداً، بكل النار المشتعلة فيه. فالنار التي بدأت وقيداً فيه أخذت تضطرم لتنتهي سعيراً. من قلب هذه النار خرجت جوّانية ابن زريق برداً وسلاماً مجسدةً بقصيدةٍ ناعمة رقيقة دقيقة متينة كخيط الحرير، ومثله تجرح. خرجت جوانيته لتعبر عن الرجولة والأنوثة من مطلعها:
لا تعذليـه فإن العـذل يولعـه قد قلـت حقاً ولكن ليس يسمعه
جاوزت في نصحه حداً أضرّ به من حيث قدّرت أن النصح ينفعه
إذن يتحدث ابن زريق عن نفسه مناجياً حبيبته، وهو يتذكر كلماتها التي تنصحه بعدم السفر. لا.. ليس نصحاً، بل إصراراً وإلحاحاً على وجوب عدمه. كلاّ، لا إصراراً ولا إلحاحاً: إنها الماء التي لا ترد ولا تصد، كلما رددتها عادت لأنها لا تكل ولا تمل. إنها المرأة التي كلما أغلقت في وجهها باباً عادت لتطرق نفس الموضوع من باب آخر، هذا الذي يحوّل الأمر عند الرجل إلى نقيضه، تماماً بالشكل الذي يعبّر عنه ابن زريق في البيت الثاني. هذه الحال يعبر عنها بالإنكليزية بـ continuous hammering أما بالعربية الفصحى فلا أعرف، لكنها بالعامية “الزن”. هذا الزن رؤية ذكورية لسلوك المرأة الطبيعي الذي تقوم به بالبساطة التي تتنفس بها، لأنه ليس زناً من زاويتها. وبما أنه كذلك عندها، ليس زناً، فهذا دليل قاطع على أن طبيعتها لا تعرف قناع طموحه، هذا الذي يخفي الوجه الحقيقي لقلقه الوجودي.
يعترف ابن زريق في البيت الأول بصحة كلام المرأة من الناحية المنطقية، لكنه يردف بأن هذا الصحيح منطقياً لا يتلاءم وطبيعة الرجل، لأنه لا يأخذ قلقه بالحسبان. والدليل على ذلك قوله إن كلامها صحيح، لكن الرجل “ليس يسمعه”. إنه لم يقل “لم يسمعه”، بل ليس. فليس هنا تعني أنه يتحدث بالـ simple present سواء تحدث بمنطق العربية أم الإنكليزية، لأنه يتحدث عن عادة أو حقيقة. والتطابق بينهما هنا، بين الحقيقة والعادة، يجعل حقيقة ابن زريق المركّبة، حقيقة استخدامه هذا الزمن للتعبير عن حقيقة تنافر هذا الجانب في الأنوثة مع قلق الرجولة، هذا التطابق يجعل حقيقته على الأقل أكثر حقيقيّةً من حقيقة شروق الشمس وغروبها، لأن الشمس لا تشرق ولا تغرب.
يقيناً أن الكل، وخصوصاً مدرّسي اللغة العربية، سيعتبرونني أبالغ في تقويل “ليس”، أحمّلها ما لا تحتمل، ليقينهم بأنه لم يستخدمها إلا لضرورة العروض. وقد يكون رأيهم ممكناً، وحتى مرجّحاً، لو اقتصرت هذه الفكرة، فكرة معاناة الرجل من القلق الوجودي، على هذا البيت. لكنه يعود ليعبّر عنها بجلاء مرتين، في بيتين متتاليين:
ما آب من سفرٍ إلا وأرّقـه عزمٌ على سفرٍ بالرغم يزمعه
كأنما هو في حـلٍّ ومرتحلٍ موكـّلٌ بفضاء الله يذرعـه
إذن، لا يعود الرجل من سفرٍ إلا ليهجس رغماً عنه بسفرٍ آخر، وهو لا ينزعج من هذه الحال إلا لأنها بليته. فلو كانت فطرته لما ضاق ذرعاً بها، لأنها تكون شكل وجوده على هذه الأرض. هذه البلية، أو البلوى، يعتبرها ابن زريق قدراً من الله، كما لو أنه يقول للرجل: هذه الأرض لي وأنت وكيلي عليها لتقيسها لي بالطول والعرض. أو أنت وكيلي عليها، وعليك أن تظل دائم التنقل فيها لتشرف عليها كلها بالنيابة عني.
بهذا المنحى من التفكير، يوشك ابن زريق أن يظلم الله لاتهامه إياه بظلم الرجولة مباشرة، والأنوثة بالتعدي. وهو معذور، إذ أنّى له بذاك العصر مفهوم القلق الوجودي؟! فالله لا علاقة له بهذا الظلم، بل إن الرجال بمعاناتهم من هذا القلق، إنما ظلموا الأنوثة و”كانوا أنفسهم يظلمون”. ولكن على الرغم من بطلان هذا الاتهام، فإن عبقرية ابن زريق تعبّر عن “القلق الوجودي” كمفهوم قبل صياغة العلم له بمئات السنين.
قبل الانتقال إلى مفهوم الأنوثة، لابد من ملاحظة أن ابن زريق لم يفسح في المجال أمام القلق الوجودي عنده لارتداء القناع إلا مرّة واحدة، ولم يكن هذا القناع طموحاً، بل طموحاً مقلوباً، اتخذ شكل ضرورة العيش. ويتجلى هذا القناع باصطناع هذه الضرورة كسبب لسفره وترك حبيبته:
وكم تشفّع بي ألاّ أفارقه وللضرورات حالٌ لا تشفّعه
فالسبب المعلن ضنك العيش، مما يعني أنه مضطر للسفر لتحصيل رزقه. لكنّ هذه الفكرة نفسها سبق له أن نفاها فقط قبل ثلاثة أبيات، عندما عبّر عن نقيضها بقوله:
وما مجاهدة الإنسان واصلةٌ رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
فهذه الضرورة إذن مصطنعة، ذريعة يتذرع بها للتعبير عما رآه إرادة الله بتوكيله بقياس الأرض، والتي بتنا نراها تعبيراً عن قلق الرجل المتأصل فيه. فهل يعني هذا القناع أن ابن زريق يكذب هذه المرة؟ معاذ الله أن يكذب، هو أو غيره، وهو يحترق بناره وحيداً في عتمة الخان. لكنه يتخيل مشاهد الوداع التي تودعا بها هو وحبيبته، ليتذكر قسوة هذه المشاهد باعتبارها قسوته، لأنه سببها. وهو يعرف نفسه حق المعرفة، يعلم أنه يحبها بكل جوارحه، وأنه يستحيل أن يقسو عليها مثقال ذرة. لذا يتوهم الضنك سبباً لسفره الذي سبب لها ولنفسه كل هذا الألم. ودليل هذا أنه يذكر هذه الضرورة التي لا ترحمهما بين البيتين التاليين:
ودّعتـه وبودّي لـو يودّعني صفو الحياة وأنـي لا أودّعه
وكـم تشفّـع بـي ألاّ أفارقـه وللضرورات حـال لا تشفّعه
وكم تشبّث بي يوم الرحيل ضحىً وأدمعي مستهلاّتٌ وأدمـعه
هذه الحال تجعله يتوهم السفر كضرورة لتحسين عيشهما حتى يبرر قسوة الرجل فيه عليها، فهذا الوهم آلية دفاعية لاشعورية عن الذات. هذه الحال تتراكب مع حالين في الشطر الأخير من البيت الأخير، فيصرن ثلاث؛ وكل كلمات الشطر فقط ثلاث: الحال الأولى “أدمعي مستهلات”، والثانية في المعنى لأن دموعهما كانت تنهمر معاً، و “معاً” إعرابها دوماً حال.
هذه هي الرجولة، تعبر عن ذاتها بالسعي لتحقيق المستحيل لتأصيل الرجل في الأرض. وخير دليل على نقص عمق هذا الوجود محاولة تعميقه. فالثابت وجوده لا يسعى لإثباته، هكذا هي المرأة. بما أنها ثابتة العمق واقعياً، فلا داعي لمحاولة إثباته فلسفياً، لذا فهي لا تحتاج الفلسفة أو التفلسف. إنها في الحياة كالمعرفة في اللغة، لا تسعى إلى التعريف. أما الرجل، فلأنه نكرة، نراه يبذل قصارى جهده عساه يتصف بأي صفة، حتى يصير فيه شئٌ من المعرفة. وبهذه الحال، حتى إن تعرّف، فبهذا الشكل الهزيل: سيتعرف عليه علماء التاريخ كما يتعرف علماء الاثار على المستحاثات.
إن طرح السفر بهذا الشكل، بالشكل الذي يصير فيه خطاً فاصلاً بين طبيعتي المرأة والرجل، سيراه الجميع هذياناً ليقينهم بأنه غير حقيقي. فقد يكون موجوداً في القصص والحكايات، ولكن في الواقع أين هذا الرجل الذي يشرّق ويغرّب والمرأة الثابتة بانتظار عودته كالمرفأ؟ فالنساء باتت تهوى السفر، وتسافر هذه الأيام كالرجال، إن لم يكن أكثر. هل اختلفت طبيعة الرجولة والأنوثة؟
كلا لم تختلف قيد أنملة. فالحال تتبدل بتبدل الأحوال، أما الجوهري والأصيل في الطبيعة فلا يتبدل. والقلق الوجودي جوهري في الرجل وأصيل فيه، ولهذا لم ولن يكف عن الوجود. لكنّ هذا القلق ما عاد يعبّر عن نفسه بالسفر، بل كان. فالدنيا كانت واسعة جداً، ومجهولة جداً جرّاء الانعدام الكلي لوسائل الاتصال، وشبه الكلي للمواصلات. ولهذا كان الرجل كابن زريق، يتحمل كل مشاق السفر، من أهوال الطبيعة إلى مخاطر الوحوش، من الضواري والبشر، ليرى ويستكشف علّه يعثر على جديد يعمّقه في هذه الأرض. فالسياحة لم تكن معروفة، ولا حتى ممكنة اجتماعياً لقلة وقت الفراغ. وأمثال ابن بطوطة كانوا في منتهى الندرة، وحتى هو نفسه كان يستكشف. سفر تلك الأيام لا رابط يربطه بسياحة هذه الأيام، إلا بالاسم، لأن الرجال والنساء باتوا سيّاحاً، والسياح لا يستكشفون. فالدنيا باتت ضيقة ومعروفة، وبالتالي صاروا يتفرجون عليها ويستجمون فيها، وعندهم مسبقاً معرفة واسعة بما وعمّا سيتفرجون، وعن طبيعة المكان الذي يقصدون. هذه حال سفر النساء هذه الأيام، لا قلق فيهن ولا عليهن.
أما في العهود الغابرة، فكانت المرأة ثابتة كالسنديانة أو الطود. ما كان يمكنها أن تسافر سفر هذه الأيام، ولا فيها ما يدعوها لمكابدة عنائه تلك الأيام، لا لضعفٍ بل لانعدام الداعي. فهي كانت وما زالت طبيعية، تأخذ الحياة كما هي، متفهمة لها ومتفاهمة معها. بهذا التناغم مع الحياة تنساب ذاتها لحناً فيها، يندمج فيها قرار الموسيقا بجوابها في صداح الإصرار على الجواب والقرار. ينسكب هذا اللحن جزءاً من جوقة الوجود ونشيدها، بلا قلق من الفناء. انعدام هذا القلق سر المرأة الذي لا تبوح به قط، توهم أنها تبوح به بالإيحاء، لكنها توحي كي لا تبوح. بل تبوح لتغلّفه أكثر، دون أن تفصح في النهاية إلا عن إصرارها على الحياة بطريقة الحياة. هذه هي المرأة ببوحها وإفصاحها التي يستغرب منها الرجل حين يسمعها، أو يتخيلها، تهزأ منه ومن قلقه وهي تقول له:
ليـس سراً يا رفيقـي أنّ أيامي قليلـه
ليـس سراً إنما الأيام بسـمات طويلـه
إن أردت السر فاسأل عنه أزهار الخميله
عمرها يومٌ وتحيا اليـوم حتى منتـهااااه
سوف أحيا.. سوف أحيا
هذه المرأة الساخرة التي تخفي ولا تبوح، لا علاقة لها بالمرأة، بل هي رؤية الرجل للمرأة. إنها أبسط من كل تخيلاته وأوهامه عنها. يتخيلها مثله، تخفي سراً، تخفي نقطة ضعف تتستر عليها وتغلّفها. لكنها فقط كأزهار الخميلة، تعيش حياتها دون أن تفكر بالبقاء والفناء. بطبيعتها لا تفكر بالخلود، ناهيك عن السعي إليه، فالطبيعة لا تفهم لغة الخلود الفردي، لأن قانونها خلود الجنس. والمرأة مطمئنة ليقينها بأنها هي التي تخلّد الجنس البشري، تماماً كالشجرة. وهي والرجل يعلمان أنه كغبار الطلع. فمن ذا الذي يتذكر هذا الغبار إلا أحد الأسطر في أحد كتب العلوم؟!
بديهي أن هذا الغبار فاعل في الوجود، وبالتالي في الخلود، لكن الرجل يريد البرهنة على هذه الفاعلية بمحاولة تأصيله. وهنا لب المشكلة. كل همه أن يثبت لنفسه وللمرأة، وبالتالي للحياة، أهميته للمرأة وفي الحياة. هما مقتنعتان، ولكن هيهات أن يقتنع هو. هنا يستحكم التناقض بينهما، هي تأخذ الحياة كما هي وأسبابها وجيهة، وهو يرفضها لسبب أوجه: بقبوله بها كما هي يظل هو كما هو، غباراً فاعلاً. والغبار مهما فعل يظل غباراً.
هذه المشكلة لا تظل محصورة فيه، بل تنعكس عليها لتصير مشكلة بينهما. فبسببها يصيران يتكلمان لغة واحدة بمنطقين مختلفين. هي تستغرب سلوكه ولهذا تزن وتزن لتبكي أخيراً كحبيبة ابن زريق، وهو يجن لأنها لا تفهم. نعم إنها لا تفهم. والأمرّ من هذا أنها لا تفهم ما هو هذا الذي يريدها أن تفهمه، قبل أن يصير الموضوع كيف تفهمه. إن هذا الذي يريدها أن تفهمه لا يمكنها أن تفهمه قط، طالما أنها تتصور الرجل مثلها، يسير معها بالانسجام مع الحياة. لكنه عكسها، برغم أنه يعيش معها في نفس الحياة. والدليل البسيط على تعاكسهما، الملموس لكليهما، أنهما يكونان معاً وإذا بها تزعل. يضع ثلاثة أو أربعة احتمالات لهذا الزعل، ولكن يندر أن يصيب. هذا هو الرجل وهذه هي المرأة، لا خلاص لهما من بعضهما ولا من هذه المشكلة بينهما، ومع ذلك في النهاية ينسجمان.
هذا القلق عبر عنه الرجل بالسفر، كما أسلفت، وقبل السفر وأثناءه وبعده ظل يعبر عنه باهتمامه الشديد بالفلسفة التي زادته قلقاً، وبسعيه الحثيث للابتكار والخلق والابداع. لكنه يصل أخيراً إلى إدراك عبث سعيه، إلى إدراك أن الحياة لا تتعاكس. يصل إلى هذه النتيجة عندما يوشك أن يتقاعد من الحياة. فكل كبار السن من الرجال يرددون هذه العبارة وهم يتذكرون مجرى حياتهم “فارغة هي الحياة”، ولكن يندر أن نسمعها من امرأة. الحياة جميلة وممتعة، ومسكين هذا الذي لم يأت إلى الحياة. ومسكين أقل، وربما أكثر، هذا الذي فاز بيانصيبها دون أن يعيشها بكامل أبعادها. إنها ليست فارغة، الفارغ فيها سعي الرجل، قلقه النفسي الناجم عن شعوره بالضحالة فيها، الفارغ فيها محاولته تحقيق المستحيل، لا هي.
بوصوله لهذه النتيجة، فراغ الحياة، يعود ليتصالح معها، فتستقبله المرأة. تستقبله لا لكرم أخلاقها، بل رغماً عنها. نعم رغماً عنها ولو أنه لا يجبرها بقوته، فقد خارت قواه. تستقبله مضطرةً، لأنه لم يعد لينسجم معها أصلاً، بل مع منطق الحياة. لكنه بعودته للانسجام معه يجدها قد سبقته فيه، فينسجمان.
لا شك في أن هذه العودة نصر مؤزر للمرأة بكل المقاييس، ولكن ما جدواه طالما أنه، أو كأنه، لا يعود إلا ليكفّنها أو تكفّنه؟ هذا السؤال سيظل مفتوحاً، وستظل إشارة استفهامه شاخصة، حانية ومحدودبة، تنعي يقينها وقلق.
دمشق 2004