كمامة 2021

أيّااااه .. ما أطول سنة 2020.. يعني معقولة السنة تكون طويلة دون حساب أيامها الباردة والدافئة..

أنا بالنسبة لي كانت أطول سنة بحياتي .. من زمااان زمان كتير كبير.. مرتي لم تفرك لي ظهري .. وقالوا لي أيضاً حتى الساعة البيولوجية لا تحدد مقياس رختر لهذيان الانسان..

مجّ آخر مجة من سيجارته .. عَطَسَ .. الحمد لله .. يرحمكم الله .. لململ ملامح وجهه من جديد وأعاد الكمامة إلى وضعها الطبيعي. واتجه الى الطابور..

جدي كان يحكي لنا عن “شايلوك” ..ويضحك حين يقول لو كان شايلوك متل أبو عمر اللحام لكان قطع كيلو غراماً واحداً بالزبط من ليّة المستدين.. هههاااا جدي قصده بلية المستدين مؤخرته..

وكان يحكي لنا عن سفر برلك، وكيف مات الجائعون العائدون من الحرب حين أكلوا كل ذبائح أبوعمر اللحام بيوم واحد.. لكنه لم يحكِ لنا أبداً عن الانفلونزا… وكيف مات بسببها الملايين .. هههااااا .. أكيد كان سيموت مرة ثانية من الضحك إذا قلنا له عندنا انفلونزا طيور ..

غبّشت نظارته وكاد أن ينقطع نفسه.. خرج من الطابور .. عطس من جديد، لملم ملامح وجهه من الكمامة وأعادها الى مكانها .. مسح نظارته بثيابه الداخلية، وعاد إلى الطابور .. فتقاذفته الأيدي والأرجل إلى نهايته..

صرت في نهاية الطابور الطويل ونظارات مغبّشة أيضاً .. ما أطول هذا العام، أقصد هذا الطابور .. هكذا إذن معناها في العام الجديد سيركبون للنظارات مسّاحات كمصابيح السيارات … أيااااه ستكون كل مسّاحة خاصة بكل انسان .. لا لا أكيد ليست شغلة نساء ورجال وأطفال .. ستكون للمناخير معايير خاصة .. اي طول المنخار زائد حجمه … والمسافة بين المنخار والكمامة … هههااااااي .. تقسيم زائد ناقص …الخ .. والقاسم المشترك كمية الزفير مع نسبة تكثّف بخار الماء مع سرعة حركة المسّاحات.

رئتك تحدد نوع مسّاحاتك.. سارع إلى قياس بخار مائك …تنفس قدر الحاجة.. مسّاحات وكمامات ونظارات صالحة لكل زفير … أيّاااي ..فيزياء ورياضيات وطب وهندسة ودكاترة وممرضات .. شغلة على البغلة ..

يبدو أنه خرج الى طابور آخر .. الرجل القصير (صغير الحجم) لم يعد أمامه .. نظر حوله .. لا أحد في هذه البلاد ينظر إلى أحد .. كل الجدران بيضاء نظيفة .. نكزه مَنْ خلفه كي يتقدم الى الامام.. ومَنْ أمامه أرجعه الى الخلف .. هكذا إذن عليه أن يبتعد متراً ونصف عما خلفه وعما قبله .. وأكتشف أخيراً أن ثمة خطوطاً سوداء وبيضاء تفصل بينه وبينهم ..ضحك بصوت عالٍ لم يسمعه أحد، وأعاد شد الكمامة على كل وجهه .. وركّز كل نظره على الخط الذي أمامه..

الخط كان متقطعاً أسود وأبيض … هههااااا صار كله أبيض غامق .. إذن المسّاحات ستكون مناسبة للمشي والوقوف والركض ..سرعة المشي والركض تتناسب مع سرعة التنفس وكمية الشهيق والزفير …ضرب زائد تقسيم ناقص … الله أعلم .. يعني كله: كم يبخُّ المنخار من البخار على النظارة من الداخل وكم على المسّاحات العمل بسرعة من الخارج…آااه صحيح : من الخارج أم من الداخل؟؟

كي استطيع “أنا” المشي والركض .. وكي أاستطيع التثائب والعطس والوقوف في الطابور دون تغبيش الخط الأسود والأبيض ودون بعْصة من الخلف أو شتيمة من الأمام.. هل يلزمني أربع مسّاحات داخلية وخارجية ؟؟

نظر إلى ساعته…

لحظة لحظة .. وأيضاً كيف تعمل المسّاحات في جغرافيا المواسم وفي البرد والحر والضباب والمطر .. وداخل البيت وخارجه .. وفي النظر البعيد والقريب.. وخاصة انني لم استطعت معرفة الوقت الآن لأنني لم أر ساعتي..

صاحبنا في الطابور من السادسة صباحاً للمرة الثالثة على التوالي .. يبدو أن حظه كبير اليوم -كما يقول- فمقاييسه لكل الأمور تبدأ من الأول كبير وصغير ، والثاني ثقيل وخفيف.. والثالث والأخير : رائحته طالعة ..

اليوم حظه كبير فقد وصل الى الطابور الذي سيبقى في المبنى الأبيض الذي ( ريحته طالعة ) كما قال، حتى ينهي كل معاملاته…

نعم .. نعم .. حين أصل إلى الموظف الألماني الكبير، سأخلع نظارتي، على الاقل لا أريد قراءته، سيسألني وأنا أجيب، وحتى السمع بدون نظّارات أكبر وأنظف بكثير ..

فجأة وجد نفسه وحيداً عند الخط الأحمر والأبيض، أشار له شخص يلبس كمامة مربعة، شكلها كبوز الخنزير على رأي صاحبنا.. يخرج منها الصوت خالياً من الهواء

-نعم ..نعم .. طيب أوكي

اتجه إلى غرفة زجاجية مليئة بالمكاتب والكمبيوترات وحسب.. وسأله ابو كمامة مربعة هل تعرف الألمانية؟ فقال له الجملة الالمانية الوحيدة التي مازال يحفظها منذ وصوله إلى ألمانية ( Kein deutch ) وبذلك يعني صاحبنا يريد مترجماً عربياً كي يتابع معاملاته، وللأسف حظه كان مع عربي مغربي، يجيد الفرنسية والانجليزية ويزعم أنه يجيد العربية.. لكنه قال له بالعربية الفصيحة جملة في غاية الوضوح (( اسمع.. عليك أن تكون صادقاً بكل شيء.. نعم تماماً بكل شيء.. الألمان لا يحبون الكذب.. ويكتشفون الكاذب سريعاً ))..

وعلى بعد مترين من المكتب :

-نعم انا .. نعم هذا اسمي الثلاثي

-ماذا تحب أن تشرب؟

-أحب أن أشرب المارجوانا .

غمزه المغربي من خلف كمامته وأعاد له السؤال بعربية واضحة أيضاً.. البرفيسور يقصد ماذا تحب

الآن.. فقال بصوت منخفض : أحب الآن أن أشرب الماء وأذهب الى المرحاض..

ضحك الموظف الألماني بسخرية عابرة وتابع تصفّحه أوراق الملف، ودردش بصوت منخفض مع المترجم المغربي.. وبعد برهة من الزمن عاد صاحبنا بكمامته دون نظارات..

-نعم .. شربت وشخّيت..

-انه يسألك من اين انت؟

-طيب ماشي اخي.. من سوريا؟

-يعرف أنك من سوريا.. من أي مدينة وكيف وصلت إلى ألمانيا؟

-من حلب وجيت بالباخرة..

-يقول لك في حلب لا يوجد ميناء؟

عطس وادار وجهه للوح زجاج حسبه نافذة.. ولملم كل تفاصيل وجهه من جديد.. وأعاد من أذنيه شد كمامته على كامل وجهه.. وبحلق في نظارة الموظف السميكة، متسائلاً بينه وبين كمامته لماذا لا يصيبها الغبش؟

-يا أستاذ.. يا أخينا..

-قول له رحت مشي على تركيا ومن هنيك سافرت بالباخرة.

هزّ البروفيسور رأسه وتأرجحت نظارته السميكة مع ابتسامته الصفراء.. وتابع حديثه ، دون كمامة تذكر، مع المترجم المغربي لعدة دقائق، حسبها صاحبنا أطول من كل هذه السنة، وأكبر من الطابور الطويل الطويل..

-يقول لك ماذا بخصوص زوجتك؟

-من زمان .. زمان اكتير كبير ما فركت لي ظهري..

ضحك المغربي بصوت عالٍ وتبعه الالماني بعد الترجمة السريعة .. وصاحبنا كالمذهول يحدّث نفسه، ويعيد جملته : يعني شو فيها إذا من زمان مرتي ما فركت لي ظهري بالليفة في الحمام .. شو يعني غريبة هالقصة..؟

-البروفيسور يقصد انك تريد لم شمل زوجتك.. وماذا بخصوص أوراقها؟

-شو يعني أوراقها .. مرتي على زمة الله ورسوله..

-نعم .. نعم .. يقصد أين عقد الزواج؟

أهّها.. اوراقها يعني أوراق عقد الزواج .. أي انا الشيخ الذي كتبت عنده العقد مات من زمان زمان كبير .. وكل القرية انمحت عن بكرة ابيها بأول الحرب .. من وين بدي اخلق أوراقها ..

-يا أستاذ يا أخينا ألم تسمع؟

-شووو؟

-عليك أن تُحضر عقد زواجك..

-وك شو تحضر وما تحضر .. ما عاد في قرية ولا مدينة.. جاي تسألني عن أوراق زواج..؟

اقترب المترجم من صاحبنا وبتعاطف حنون قال له إن الألمان لا يناقشون المسلمات كثيراً.. انهم يقدسوّن القوانين والوقت.. وبدون عقد زواج لا يمكن أن تقوم بلم شمل عائلتك .. نقطة أول السطر .. وعليك أن توّقع الآن على ذلك ..

-بس يا أستاذ الموظف التاني قال لي هويتك السورية بتكفّي؟؟

-في ألمانيا موظف عن موظف بيفرق.. وعليك أن تبصم لتسكير ملفّك..

أرعبته كلمة “تبصم” التي تبعتها كلمة ” تَسْكير ” بكل دلالاتهما وتأويلاتهما القديمة والجديدة .. رفض صاحبنا التوقيع..! ركض باتجاه ال.. (WC) .. وخلع كمامته ،كي يرى بوضوح أكبر وهو يبحث عن نظارته ..

 

عن محمود أبو حامد

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *