يقول وزير الهجرة والدمج في الدنمارك، ماتياس تيسفايا، إن “الإسلام في أزمة”.. وذهبت يومية بيرلنغكسا لافتتاحية تؤيده في ذلك..
ربط شعارات الإسلام في أزمة ومأزق، على طريقة خطاب الفرنسي ماكرون، بمسائل الهجرة والدمج، ليست سوى شعارات انتهازية وهروب إلى الأمام من مواجهة حقيقة بينة: الدنمارك تعيش حالة إنكار العنصرية المؤسساتية والممنهجة.. والمجتمعات التي تنكر أن لديها مشكلة عنصرية يفيد التاريخ إلى أين تسير..
……………………………………………
ملاحظة على الهامش:
قبل 75 سنة هرب مئات آلاف الألمان بعد انهيار النازية، وصل بعضهم كلاجئين إلى الدنمارك.. جلهم نساء وأطفال.. ماكينة الشحن العنصري ضد الألمان كشعب (وتحت قشور الترحيب بسائحي ألمانيا في 2020 ابتسامات صفراء من كراهية مستحكمة ضد ألمانيا.. وهي حالة إنكار ثان).. أدت إلى رفض المجتمع تقديم أية مساعدة لهؤلاء اللاجئين.. بين 1945 و1950 مات جوعا ومرضا 7 آلاف طفل ألماني نتيجة رفض مساعدتهم.. قبورهم منتشرة في أودنسه (جنوب وسط).. ومعظم هؤلاء الأطفال تحت الخامسة..
قد يقول البعض “معهم حق فقد احتلهم النازيون”.. صحيح وقع احتلال نازي للبلد.. لكن، ألا يكشف ذلك وجهاً آخراً لمفهوم الأزمة؟ فالمجتمعات التي تربي أجيالا على بغضاء وكراهية وعنصرية ضد أقلية (أية أقلية كانت) وإشاعة رفض شمول مواطنيها كجزء من هويتها، لا تنتج سوى مجتمعات تعيش أزمات هوية متواصلة، فرغم مخاطر تهميش أجيال فالمجتمعات تدفع كلها أثمان الخطاب الشعبوي، وإن كان يصعب عليه بالأصل تطبيق خطابه ووصوله إلى السلطة منفردا في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية..
……………………………………………………………..
الهروب دائما من مواجهة الحقائق باختراع عدو وهمي، كاعتبار مسلمي الدنمارك “مشكلة”؛ دون توضيح تلك المشكلة، وأثرها مثلاً على المجتمع، وعلى هؤلاء لناحية الاندماج والعمل والعيش تحت سقف المواطنة والقوانين، وحتى لناحية مخالفة القوانين وارتكاب جرائم يبرز سؤال غير مجاب عليه (لأن سطحية المستشارين والمختصين تهيمن): ما علاقة الإسلام بتاجر مخدرات؟ أو مرتكب اغتصاب؟ أو نصاب وكاذب؟.. هل كل ما ينسب إلى مراهقين تورطوا في مشاكل، أو حتى أُسر تمارس ما يسمى “السيطرة الاجتماعية” (منها إجبار على الزواج أو انتهاك حقوق السيدات)، يعني أن ذلك من الإسلام؟ ثم كم عدد مسلمي مملكة الدنمارك حتى يثيروا بشكل دائم هذه الزوبعات التي لا تتوقف، وتترك البشر يواصلون العيش كمواطنين مندمجين بدل دفعهم نحو هوامش خطيرة..
لعمري لم أقرأ أن الإسلام يحض على شيء مما تقدم، أو تبرير حتى للكذب واللصوصية.. وتشكيل عصابات مخدرات وإتاوات وغيرها من ممارسات لم يعرف بها عرب الجاهلية، فما بالك بعرب إتمام مكارم الأخلاق..
السطحية، و يا للأسف، وتحتها بأسف أكبر، في العمق مواقف مسبقة، وأحكام محكومة بخيال وكراهية بلا حدود، تؤدي إلى هروب من مواجهة الواقع وتراكماته التي تسمح حتى للغة التخاطب احتواء تعبيرات وايحاءات عنصرية.. بل ويطالب أقطاب اليمين المتطرف والشعبوي بإسقاط قانون العقوبات لمواجهة العنصرية والمعروف بـ”قانون العنصرية”..
وبنفس الوقت ثمة إشكالية لدى بعض مسلمي الدنمارك، فمشكلة لعب دور الضحية هي الأخطر ولا تليق أبداً لا بهم ولا بالإسلام..
وفي العموم، ظل البعض لسنوات يحذر من طريقة تعامل البعض المحسوب على المسلمين والعرب في أوروبا عموما، عاطفياً وبردود أفعال غير منطقية، وتصرفات غير لائقة، تغذي الخطاب المتطرف والشعبوي.. وهي تضع أحيانا الأحزاب الأكثر تعقل وتفهم لمسائل الحقوق والمواطنة، كأحزاب اليسار، مثل اللائحة الموحدة والشعب الاشتراكي، ومواطنون دنماركيون عاديون ونخبٍ ثقافية واجتماعيةٍ، في مواضع ومواقف محرجةٍ بسبب تصرفات قلة قليلة تعكس صورة غير سليمة عن الأغلبية الساحقة ممن اختاروا أصلا الهجرة واللجوء بسبب غياب الحقوق والعدالة وارتكاب جرائم بحقهم، فرديا وجماعيا.. فتذهب تلك الأقلية، وبتخلفٍ عجيب، لتضع بتصرفاتها الغبية الجميع في سلة الاتهام، بل تحيل السطحية والتحايل العرقي العنصري تصرفات هذه الأقلية القليلة إلى الدين الإسلامي..
وفي كل الأحوال ثمة من يرد على هذه الانتهازية التي يسقط فيها يسار الوسط..
أنقل هنا ردين:
رد أحد الدنماركيين على الوزير ماتياس تيسفايا بالقول إنه “بدل اختراع انشغال مفتعل بمشاكل الإسلام فليركز الوزير قليلاً على مهمته في وزارته”.. ورد ثانٍ بالقول إن “تيسفايا مشغول بأزمة الإسلام بينما على بعد مئات الكيلومترات عند جيراننا في بولندا تعيش الكاثوليكية المسيحية أزمة عميقة تضطر فيها النساء القدوم إلينا لإجراء عملية إجهاض”..
الأزمة الحقيقية التي تولدها سياسات وخطابات التصنيف والتعميم، هي ما تحتاج النظر فيها أكثر من اختراع وهم أن 300 ألف مهاجر/لاجئ من خارج أوروبا ( وبعضهم غير مسلم، ويصنف بناء على الأصل الجديد لتسمية اخترعها تيسفايا عن شرق أوسطيين وشمال أفريقيين) سوف يغيرون الدنمارك، بسبب معتقدهم وسط أكثر من 5 مليون مواطن، فما هذه الركاكة التي يقدمها سطحيو السياسة والاستشارات عن مجتمعهم الذي جرى دمقرطته ودسترته منذ أواسط القرن التاسع عشر؟
دستور الدنمارك وقوانينها ليسا بهذه السطحية، لكن من المؤسف أن يعاد التاريخ بأحرفه ذاتها التي عومل من خلالها أقليات أخرى في الدنمارك وأوروبا..
في القرن الثامن عشر، والتاسع عشر أيضا، في الوقت الذي كان فيه اليهود العرب يعيشون مواطنتهم، بين البقية، كانت أوروبا تضع هؤلاء في غيتوهات محكمة الأبواب.. وتحد حركتهم وتمنع اندماجهم وتشغيلهم إلا في الغيتوهات.. سنوات وسنوات قبل أن يظهر أدولف هتلر في عصر ألمانيا النازية.. وإيطاليا وإسبانيا الفاشيتين.. وشمل ذلك غرب وشرق أوروبا على حد سواء.. بل مُنع اليهود من دخول بعض الدول إلا باستثناءات ملكية وقيصرية..
صحيح أن الشعبوية والتطرف يصعب أن تحكم أوروبا.. لكن تملق الطبقة السياسية (يمين ويسار وسط تقليدي) لخطابيهما، والعيون على صناديق الاقتراع، يزيد ويعمق من أزمة المجتمعات وتخاطبها، مثلما يعمق أزمات ومشاكل مؤسسات الدول مع أقلياتها التي تبقى تحت مطرقة الدفع بها للعب دور الضحية وتعيش شلل فريضة التفكير والعمل..
وفي الحالتين من يخسر هما طرفا المعادلة في المجتمع، الدول ومواطنيها من أقليات إثنية ودينية إلخ، سواء في الدنماركي أو الفرنسي، أو أي مجتمع يستسهل الإجابة على أزماته برميها على أكباش فداء متخيلةٍ.. فيقع فريستها أيضا من يُكرر عليه درس: أنت ضحية.. أنت كبش فداء.. أنت فاشل.. أنت لا تصلح لتكون جزءا من مجتمعنا.. إلى آخره من رسائل واضحة الأهداف.
لعل الأجوبة ببساطة تكمن في البحث عن نقاش غير سطحي، وبعيدا عن استشارات من يتشبهون بمستشرقي القرون الماضية.. وإذا كان من أزمة في صفوف المسلمين فلتناقش في سياقها الخاص بالمواطنة وتحت أسقف الدساتير والقوانين، التي تحكم العلاقة وتضمن حقوق الناس سواء تعلقت بحقوق دينية أو مشاركة سياسية، أو باختصار على أساس “الحقوق والواجبات”، دونما التأسيس على أحكام مسبقة عن المسلمين، حيث لا يميز الخطاب الشعبوي بالأصل بين اسم واسم، طالما أن الناس يعود أصلها إلى منطقة جغرافية محددة.. ولا أجد نفسي بحاجة أو مضطر للتذكير بممارسات غير المسلمين التي لا يسلط عليها.. فهذا ولأسفي حصاد سنوات عربية من التحريض على عرب أوروبا والغرب.. وعلى منابر إعلامية باتت معروفة في أهدافها وفي انجرار مجتمعاتها وراء التطبيع مع الاحتلال.. حيث يلتقي الاستبداد بكل صنوفه، التقدمي والرجعي، في الانتحال والتزوير، لأجل نيل رضا وعطف انتهازيي المصالح في الغرب.. والظهور على أنهم “أكثر تحضر” من عرب أوروبا.. الذين يُقسم شيخ حاكم مصر أن نصفَ جيلهم الثاني والثالث من “الدواعش”.. إرضاء لولي نعمته، وفي سياق النفاق العام الذي تعيشه نخب العرب.. من المشرق إلى المغرب..
(ملاحظة: ما تقدم هو رأي شخصي أمارسه كحق تعبير في يوم إجازتي، وليس بالضرورة أن يكون صائبا).