عند نهاية العام 1968، ذهبت مع أحد أصدقائي، إلى “دار الثقافة الجديدة”، وسط القاهرة، فوجدنا شابًا أشقر، بعينين زرقاوتين، ظنناه ألمانيًا؛ فلم نحادثه، أو نطرح السلام عليه، لكنه باغتنا، حين سألنا: “ماذا فعلتم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة؟!”.
ما أن تخلصنا من صدمة المفاجأة، حتى انطلق كلانا يتحدَّث في الموضوع الذي سأل عنه المتحدِّث. وأنهينا كلامنا بسؤاله عمن يكون؟! فأجاب بأنه غالب هلسا، من الأردن. وكنا قد قرأنا له، كروائي، وقاص، فرحبنا به، وبادلنا الترحيب، واستمرت علاقتي بغالب على خفيف.
ذات يوم من صيف العام 1975، ذهبت إلى مقر شهرية “الكاتب” القاهرية، فوجدت غالبًا، يجلس وراء مكتب عليه آلة كاتبة، وقد احتقن وجهه الطفولي، فبادرته بالسؤال عما به، ليرد عليَّ بأنهم طلبوا منه مغادرة مصر، في الحال. هوَّنت عليه، وأبلغته بأن يترك الأمر لي. فرد عليَّ، ساخرًا: “مش لما تطلَّع نفسك من القائمة السوداء؟!” قلت له: “صحيح أنا لم أزل على القائمة السوداء للأمن، لكنني أمين سر اتحاد الكُتاب والصحفيين الفلسطينيين في مصر، وعلاقة الاتحاد بالأمن المصري، لا تزال سمنًا على عسل، فلنُجرِّب!”، وافقني، مستبعدًا، وأردف: “خالد محيي الدين، ولطفي الخولي، فشلا، يعني أنت هتنجح في اللي فشلوا فيه؟!” رددت: “ربنا يسهِّل”.
جلست إلى الآلة الكاتبة، وكتبت رسالة إلى السيد وزير الداخلية، أتمنى فيها عليه أن يسمح لعضو اتحادنا، غالب هلسا، بالإقامة في مصر، وقد مضى عليه نحو عشرين عامًا في هذه الإقامة، وطويت الرسالة، وانطلقت إلى مبنى “إذاعة الثورة الفلسطينية”، باحثًا عن الطيب عبد الرحيم، رئيس فرع الاتحاد، فقالوا لي: “إنه في غُرفة كذا، مع أبو أحمد”. رددت: “عال، قُضيت!”. دخلت عليهما، فرحبا بي، أما أبو أحمد فلم يكن سوى العقيد كامل داوود، مشرف فلسطين في أمن الدولة. ناولت الرسالة للطيب، الذي سألني، بدوره: “هو غالب هلسا عضو عندنا؟!” رددتُ عليه: “طبعًا”! عاود السؤال: “ولكنه أردني!” أجبت: “النظام الداخلي لاتحادنا يُعطي للأردني نفس الحق الذي يعطيه للفلسطيني، للاتحاق بالاتحاد”. وقَّع الطيب المذكرة، وناولها للعقيد كامل داوود. الذي فاجأني بضحكة مجلجلة، وقال لي: “أنا مرضاش بتوقيع الطيب! غالب شيوعي، وأنت شيوعي، وقِّع المُذكِّرة أنت، وأنا أقبلها في الحال!” ظننته يمزح، لكنه عاد فأكَّد لي الأمر. ما جعلني أُمزِّق المذكِّرة، وأنطلق إلى غُرفة الآلات الكاتبة في الإذاعة، وأُعيد طباعة المذكِّرة. ولكن بتوقيعي، هذه المرَّة. وما أن أنهيت طباعتها، حتى وقَّعتها، وقدَّمتها للعقيد كامل داوود. وانصرفت، وأنا أُرجِّح أن الأمر مجرَّد مُزحة، ليس إلا.
إلى أن كنا مُجتمعين في مقر الفرع، بدار الأدباء، وسط القاهرة، وإذا بغالب هلسا يقتحم علينا الغُرفة، ويصرخ، فرحًا: “يا عبد القادر، يا ابن ستين في سبعين، ضربتك ضبطت، وسمحوا لي باستمرار الإقامة في مصر!”.
غدا غالب من يومها، أنشط أعضاء الفرع، وذات يوم دخل الفرع ولجنته منعقدة، لمناقشة ترتيبات ندوة ضخمة، عن “الأطماع الأمريكية في الوطن العربي”، وما أن انتهينا من الترتيبات، حتى فاجأنا غالب، مُعترضًا على إدارتي للندوة الموعودة، لأنني سأفضحهم، حينها، “إذا ما استمرت جلسات الندوة إلى العاشرة مساءً، حيث سينام عبد القادر على كتف اللي جنبه!” ووافقته على ما قال، واقترحته لإدارة الندوة، ووافقت لجنة الفرع.
بدأت الندوة مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 1976، في مقر الاتحاد العام لطلبة فلسطين ـ فرع القاهرة، وسط البلد، واستمرت لستة أيام متتالية، منذ المغرب، وحتى منتصف الليل، وقد غصَّت القاعة، على اتساعها، بالحضور، وغالبيتهم من اليسار المصري.
حاضر في الندوة كل من: أحمد صادق سعد (الأطماع الاقتصادية)، الحزب الشيوعي السوداني (كوارث نظام نميري)، الجبهة الوطنية البحرينية (الحركة الوطنية البحرينية)، أحمد بهاء الدين شعبان (أنصار الثورة الفلسطينية)، فريدة النقاش (الأنشطة الأمريكية في المجال الأدبي)، محمود المراغي (الأطماع الاقتصادية)، سامي السلاموني (الأطماع الأمريكية في مجال السينما)، د. لطيفة الزيات (الأنشطة الأمريكية في مجال الفكر)، عبد القادر ياسين (النشاط الأمريكي في المجال الصحفي: دار أخبار اليوم نموذجًا).
لقد فاتني القول بأن الأخ/ صخر بسيسو، رئيس الاتحاد العام لطلبة فلسطين، اشترط قراءة المحاضرات، قبل السماح لنا باستخدام القاعة إياها. وقد كان!
نزل اليساريون المصريون بكل ثِقلهم في هذه الندوة، سانحتهم، التي قد لا تتكرر، للتنديد بنظام السادات، وبشاعات أجهزة الأمن. الحقيقة أن غالب كان يترك المتحدِّث، حتى يُكمل حديثه، قبل أن يطلب غالب من المتحدث ضرورة الالتزام بعنوان الندوة، وعدم الخروج عليه!
خلال أيام الندوة، انعقد مؤتمران، أولهما في “قاعة عبد الناصر”، بجامعة القاهرة، شارك اتحادنا في تنظيمه، وألقيتُ فيه كلمة الاتحاد، وألقى أحمد فؤاد نجم رائعته: “بيان هام”.
أما المؤتمر الثاني، فعُقِد في مسرح البالون، لإدانة التدخُّل السوري في لبنان. وكان المؤتمران، والندوة مهرجانًا للتنديد بالأمريكان، وأنصارهم، والتأييد للقضية الفلسطينية، وشعبها في كافة الوطن.
بعد ستة أيام من الندوة الكاسحة، أنهاها غالب هلسا، وركب السيارة مع المفكِّر اليساري المصري، حلمي شعراوي، وذهبا سويًا إلى منزل الناقد الأدبي، الأستاذ الجامعي، د. عبد المنعم تليمة، وحين وصلا إلى بيته، قرب منتصف الليل، اتضح بأن سيارة لأمن الدولة تلاحقهما، ومنع من فيها غالب من دخول منزل تليمة، واقتادوه إلى مبنى أمن الدولة، في لا ظوغلي.
مساء اليوم التالي، علمت بالخبر، وكنت في مقر الفرع، وعندي الأديب الفلسطيني، يحيى يخلف، نظيري في فرع سوريا بالاتحاد. فاتصلت هاتفيًا بأبي أحمد. وسألته عما إذا كان صحيحًا بأنهم اعتقلوا غالب، فرد عليَّ بالإيجاب، وأردف لأنه اعتُقل بسبب اتفاقه مع “حزب العمال الشيوعي المصري” على عقد هذه الندوة. فرددت عليه بأني صاحب فكرة الندوة، وعليَّ الطلاق أنني لا أعرف أحدًا من أعضاء هذا الحزب، وإذا كنت لا تُصدِّقني اعتقلني أنا. وقصصت عليه كيف أخذ غالب على عاتقه إدارة الندوة، وأقصاني. وأنهيت كلامي بوعد قاطع بأن لا نقترب ـ من الآن فصاعدًا ـ من الإمبريالية الأمريكية، فرد العقيد كامل، من فوره: “الندوة كلها انصبَّت على النظام في مصر. وحين طالبت بضرورة الإفراج عن غالب، فاجأني أبو أحمد بأن قرار وزير الداخلية قد صدر بترحيل غالب، ومعه شُبان فلسطينيون آخرون، ليس بينهم عضو واحد في فرع الاتحاد، وهم: د. عبد الرحمن البرقاوي (عضو لجنة إقليم “فتح” في مصر، عضو لجنة فرع اتحاد الأطباء الفلسطينيين)، وهاني المصري، الطالب في السنة النهائية بجامعة عين شمس، ووجيه مطر، رئيس اللجنة التحضيرية في اتحاد الطلبة الفلسطينيين (فرع القاهرة)، وأحمد عبد الرازق، عضو الهيئة التنفيذية لاتحاد الطلبة الفلسطينيين. وبعد أن أُفرج عن الأخير، تم ترحيل الثلاثة إلى لبنان، عن طريق البحر، من ميناء بورسعيد.
بعد نحو ثلاثة أيام، تم ترحيل غالب إلى العراق، ولنلحق به، بعد نحو عام وشهر. ولهذا قصة تُروى.
المصدر