شرفة ذاكرة

شكّلت الغوطة، لقرون خلت، روح دمشق الشام وسوارها الأجمل، عبر ضيع وبساتين امتدت تصافح بأناملها الخضراء عتبات أحيائها مكتسبة، بدورها، أسماء تلك الأحياء، فكانت بساتين الشاغور، وبساتين الصالحية، وبساتين باب شرقي، وغيرها وغيرها.

هكذا وجد الدمشقيون أنفسهم، وبالفطرة، عشاقاً للطبيعة، يتهافتون نحوها بشغف، كملاذ روحي ونفسي هام، أقرب للحاجة منه للرفاهية بعد شتاء وانتظار طويلين، يأتي الصيف ليحل موعدنا مع بستاننا في منطقة الهامة، جنتنا الصغيرة، وملعب الطفولة، وموطن ذاكرتنا الأجمل، ونصيب والد و أعمامي من إرث جدي.

بفرح أشبه بفرح العيد يتم الاستعداد للتوجه نحو شارع النصر مركز انطلاق حافلات السكانيا الملونة التي شكلت لسنوات طويلة صلة الوصل ما بيننا والبستان.

لا أدري ما الذي كان يدفعنا نحن الصغار كي تسابق خطواتنا القصيرة خطوات الكبار وصولاً نحو تلك الحافلة، أهو الخوف من أن تغادر دوننا فينكسر الحلم ونعاود أدراجنا من حيث أتينا؟ أم ما يراودنا من رغبة تسبقنا للفوز بمقعد مجاور لنافذة تطل على الطريق، مدركين مسبقاً ما تحمله تلك المباشرة من متعة دفعتنا في كثير من الأحيان للتطاول نحو الخارج تحقيقا لتلك الرغبة؟. بعد مد وجزر يعم الهدوء وتقفل الأبواب نحو حلم يتحول إلى واقع ملموس لطريق وركاب وحافلة تشق طريقها باتجاه محطة الحجاز نزولا نحو شارع بيروت المجاور لبردى، يشاركه ضفة النهر المقابلة معرض دمشق الدولي الذي يترقب موعده وسكان دمشق ” أواخر الصيّف آنّ الكرّم يعتصر”.

ينفرج الطريق ويتسع المشهد مع وصولنا نحو ساحة الأمويين صرح بني أمية في عاصمتهم دمشق، فيتجلى قاسيون ببهائه محتضنا حيّ الصالحيّة والمهاجرين وصولا نحو حواكير الصبارة عند نهاية السفح يليه جنوبا بساتين النيربين وكيوان الشهيرة بأشجارها المثمرة مشكلة عتبة الولوج نحو طريق الربوة.

تجاري الحافلة ما يصادفها من التواءات فرضتها طبيعة المكان المحصور ما بين جبلين ونهرين، لنُفاجأ عند كل منعطف بمشهد جديد يتمم ما قبله وصولاً نحو منطقة المقسم، حيث تتوزع أفرع بردى نحو دمشق وأحيائها وبساتينها. وتتوزع المقاصف الشعبية على ضفتي النهر وتدعى بالمصطبات التي تعج منذ الصباح بمصطافين قدموا للاستمتاع ببرودة وجمال المكان الذي سوف يملأه الباعة الجوالون بعرباتهم المحمّلة باللوز الأخضر ” العوجا”، أولى فاكهة الشام كما يروج لها أولئك الباعة، فضلاً عن عربات أخرى تستهوي الأطفال مما يدعونه ب “الأكلات الطيبة”، يتشتت ذاك الإغواء وتحل الدهشة أمام الإغواء الأكبر عند سماع صافرة القطار الحجازي، ويتحول المشهد إلى كرنفال صاخب ترتعش معه الأرض والقلوب كلما اقترب القطار، ليكون الأطفال أول المستقبلين وأول من يتبادلون وركاب القطار التلويح بالأيادي، إلى أن تغيب عن أنظارهم آخر عربات القطار، ويبتعد الصفير، ويتلاشى الدخان.

تتابع الحافلة السير نحو منطقة دمّر، بمحاذاة بردى الأم الذي تتدفق مياهه بسخاء مفرط يفتقد معه القدّرة عن استيعاب مزيد من مياه تضّل طريقها خارج النهر نحو غياض الحور بقاماتها الرشيقة والصّفصاف  الباسقة لمجاورة التي تسكن تلك الضفاف منذ القدم لتشكّل مع نسمات الربيع وأشعة الشمس لوحات راقصة من الكريستال لما تحمله خلفية أوراقه الحور من زغب أبيّض.

نستعد للمغادرة الحافلة مع ظهور تلك الغياض، ويتوقف بوصولنا ذاك الشريط الساحر من المشاهد الحية.

هل للأماكن ذاكرة تتذكر؟ وهل تشتاقنا كما نشتاقها؟. ها هو بستاننا، ينتظر قدومنا عند هضبة تمتد عبر مدرجات أربع وصولاً نحو غيضة الصفصاف عند ضفة النهر.

أحلق لأرى البستان من علو، المكان بكر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لا أسوار شائكة، ولا جدران. رتلٌ من أشجار الجوز المعمرة تشكل بعفوية سوراً للمكان، تختبئ من خلفة أشجار الزيتون، والتين والرمان، والمشمش، وعرائش العنب، ومجموعة من الخضروات الموسمية، وتتلاشى ضمن هذا الفضاء الحر جميع الضوابط، ويتحول الممنوع إلى مسموح، ويفقد الآباء طواعيّة القسم الأعظم من سلطتهم، ويغدو لكل منا طريقته في تذوق هذا الجمال.

عدنا، كعودة الطيور المهاجرة نحو موطنها، مدركين ما يعنيه وما يقدّمه لنا المكان من متعة، بدءً بالمدرج الأول الذي يشكل مدخل البستان، ويضم بمعظمه أشجار المشمش بأنواعه: بلدي، عجمي، كلابي، فرنسي. ومتفرقات من أشجار الرمان، والزيتون، وشجرة تفاح عقيمة لا تجود سوى ببضع من الثمار، ومجموعة من أشجار الرمان. تحتل الجانب الأقصى من الجرف غرفتين من اللبن تتقدمهما مساحة مستوية هي “المصطبة” التي تشكل بموقعها الاستراتيجي مرصداً لمشهد يتجاوز جنوباً مساحة البستان، وصولاً نحو قمة الجبل المقابل المنتهي سفحه بغيضة السفرجل حيث يبلغ المشهد منتهاه، وثمة جسر خشبي يعلو النهر يشكل صلة الوصل ما بين غيضتي السفرجل و الصفصاف، أما بردى فيجري مثقلاً بمياه تفيض عن مجراه مشكلة بعفوية مستنقعات طفيفة، تتحول تلقائياً لبيئة ملائمة لحياة أسماك صغيرة، وضفادع تملأ الفضاء ضجيجاً، ومكاناً صالحاً للهونا وممارسة الصيد بأدوات بسيطة قد لا تتعدى علبة سردين فارغة.

أما الجرف الثاني والثالث فيتوزع في أرجائهما عرائش من العنب الجبلي الذي تتميز عناقيده بحباتها الصغيرة الشفافة ومذاق شديد الحلاوة ، تتسلق ما تطاله أغصانها من أشجار أو أحراش بعشوائية، ومتفرقات من شجر الزعبوب، والتوت، والتين وعرانيس الذرة وبعض الخضار. سيبدو المشهد مبتوراً إن لم نعرج نحو المدرج الأخير، الذي يشبه مشهداً استوائياً تشكّل بعفوية حيث تتعانق وتشابك أغصان الأشجار المتجاورة والجوز منها على وجه الخصوص، التي شكلت قاماتها الراسخة متكأً ملائماً للعرائش وحمولتها من العناقيد التي تتخذ من أشجار الجوز أمّاً لها، فيضيع حق أمومة ثمار كل منهما: أهي لشجرة الجوز أم لعريشة العنب؟!

ينابيع صغيرة تسكن أطراف هذا المدرج، تسيّجها وتظلل معظمها عرائش من توت السياج الشائكة، تختفي معها معالم النبعة ويغدو من الصعوبة الوصول نحو مياهها، لكنها لم تبخل علينا بعناقيدها من التوت اللذيذ. يتقدم تلك الينابيع نبعة النعناع المكشوفة والأكثر سخاءً وعذوبةً، والمعطرة بعطر طرابين النعناع الغضة التي تنمو عند أطرافها و في الوسط.. هنا لا حاجة لأوعية نروي بها ظمأنا، يكفي كلا منا جمع ما تيسر من مياه بأكفنا لننعم بمزيد من الارتواء والمتعة. وتشق المياه الفائضة عن النبعة طريقها بهدوء نحو مصبها في بردى، يلتقي الماء بالماء، فيئنُّ لنهر من وطأ حمولة جديدة لا ندري أين مستقرّها.. هل سيكون في بحرة بيتنا العربي عند سفح قاسيون في حي الصالحية..؟ ربما ! ..

يعلن المغيب دونما اتفاق موعد عودتنا نحو المدرج الأول حيث يتم الاستعداد لطقس جديد من طقوس المكان حيث تهيأ المصطبة و توزع الأرائك ضمن أماكنها المناسبة، ويتخذ كل منا نحن الأبناء موقعه، متجنبين موقع الصدارة المخصص للوالد، ولضيوفنا من عمّات وأعمام، وخالات وأخوال. قلما يخلو المكان من تواجدهم وعائلاتهم. وقد تتحول الجلسات مساءً إلى جلسات طرب يتزعمها الوالد بجدارة بما يمتلكه من صوت جميل وأداء متقن. أما فجراً فلهذا المكان روح لا توصف بالكلمات بل “تستقر في الأنفاس”، حين تقدم الحياة عبقها كاملا عبر حفنة من هواء قد لا تتعدى ما يتسع له حجم رئة.. طيور دوري، وشحارير، وزرازير تستهل الفجر بسمفونية فوضوية الجمال، تلقي بنا في فخ السؤال الملتبس: من يستدعي من أولاً؟، أهي الطيور أم الفجر؟. ويبقى الجواب معلقا!..، لكن ما يبدو جليّاً أن تلك الكائنات الصغيرة النزقة، تفوقنا إدراكاً لمعنى الحياة، ولما يحمله البكور من خير وجمال حين تسابقنا لنيل حصتها من ثمار شجرة توت هنا، وشجرة تين هناك.

فجأة فقدنا ذاك الجمال، وحقنا في دخول المكان وبات التجول في أرجائه حلما وضربا من ضروب الخيال. قادني وإخوتي الحنين نحوه من جديد أملا باستعادة ما تيّسر من ذاكرتنا هناك. غرباء جلسنا عند حافة المصطبة، لم نتمكن من كبح ما راودنا من مشاعر قلقة ضمن هذا المشهد القديم الجديد الذي يتسيّده الجفاء، لم يكترث بوجودنا شجر أو طير أو حجر.  مخطئ من ظن أن للأمكنة ذاكرة تتذكر !..، يبدد، بل، يؤكد تلك المشاعر صراخ أبا علي ذاك الرجل البغيض الذي استعان به والدي ليتولى الزراعة والسقاية وغيرها، مقابل ربع ما تنتجه الأرض من محاصيل البستان بقانون ريفي يدعى “المرابعة”  كان أبا علي مرابع العائلة لعقود مضت تشاركه زوجته القبيحة أيضاً وأبناءه تلك المهمة كوريث شرعي يأمر هنا وينهى هناك. أطلق أبو علي صرخته المدوية، ولم تسمح لنا المسافة بمعرفة ذاك الرجل إلى أن اقترب منا، فحيّيناه وعرفناه بأنفسنا وهو العارف : “نحن أولاد الحجي أبو ياسين”.. لنتفاجأ بنكران معرفته لنا : “مين أبو ياسين اخرجوا فوراً من البستان.

خرجنا.. لم نمتلك من الشرعية السابقة ما يبرر وجودنا هناك، فما كان منه إلا أن تبعنا بمزيد من الشتائم.

لم نعلم نحن الأبناء أن أبا علي قد طالب بما يفوق حقه قانونياً من ثمن البستان، وهذا مالم يوافق عليه الورثة، ليكون ذاك التاريخ آخر عهدنا مع مكان تركنا بين ثناياه فتات أرواحنا لغاية اليوم.

بعد سقوط “نا” الدالة على الملكية من بستان”نا” وخروجنا مطرودين من فردوس”نا” المفقود، تجنبت طويلاً الاقتراب من أرض ذاكرة لم تدخل يوماً حيّز النسيان، كنت كلما مدَّ لي الحنين جسراً للعبور أرجأته لزمن أدرك أنه قادم لامحالة. لم يخدعني حدسي حين أومأ لي أن ابتعدي، لكنني خدعته، ومضيت ضاربةً عرض الحائط بما قد ينتج عن هذا اللقاء من تبعات، لأتيقن بأني قد اخطأت وأصاب حدسي. فقد كان للبستان وما حوله من بساتين نصيباً من عملية التشويه والتصحر المتعمدة التي أصابت دمشق وريفها، حينما احتلت كتل الإسمنت أمكنة أشجار النارنج والكباد، والياسمين وبرك الماء داخل المدينة، وامتدت نحو ما يحيط بها من أرياف. وقفت على أطلال المكان وكأنها على رأسي طير..!!

” كجرة خزفية انكسر المكان”.. واستبدل بنقيضه !!هل مر التتار أعداء المدنية والحياة من هنا ليكون هذا الخراب.. وهل أنا والمكان الآن ماكنّاه في الماضي حقاً؟..

أي قانون قد شرّع قتل رئة دمشق وخزّانها الغذائي والجمالي الذي يفوق دمشق ذاتها عمراً، ولماذا؟، كم من السنوات تكفي كي نكفر عن أخطائنا عما اقترفته أيدينا بحق مدينة لم تمنحنا سوى الجمال، أما كان بالإمكان دفع تلك المجمعات السكنية نحو ما يحيط بدمشق وريفها من جبال ومساحات جرداء قبل وقوع الكارثة؟!!..

وقفت أتأمل المكان مجددا فتنبعث من بين ركام وخراب هذا المكان الذبيح صوراً لأطفال يقنصون بالحجارة ثمار شجرة الزعبوب الأحمر حيناً، وحيناً آخر ثمار الجوز، ورأيت سعير جذوع الأشجار في مجمر طاغوت يعد حفلة شوائه احتفالا بانتصاره الهزيمة. وتلك صورة أبي يتصدر المصطبة مسبحاً بحمد خالقه على ما خصّه به من جمال..  خلف تلك الكتلة الإسمنتية يلوح طيف أخي متسلقاً شجرة التوت وصوتي يناديه: “ياسين أنا خاصيتك زتلي توتة”. دوالي العنب وأشجار الجوز غابت هي أيضاً، ما من أثر يدل على غيضة السفرجل، سوى ما تبقى من جسر خشبي مكسور يعتلي مجرى النهر، وغيضة الصفصاف غدت جرداء كأن الحياة لم تطأها يوما.. أما بردى فيسير بصمت وحزن مثقلاً بحمولة جائرة من مخلفات الصرف الصحي والنفايات التي تلقي بها تلك المجمعات العشوائية المجاورة لحرمه، تؤنس وحشته دونما جدوى شجرة صفصاف هرمة طالما حنت لنا ظهرها لتكون لنا حصاناً تارة، وأرجوحة تارة أخرى، تقف اليوم كعجوز ساجدة تستجدي رحمة خالقها.

ضمن هذا الخراب المتعمد لا تموت الأشجار واقفة، بل تموت قهرا.

لملمت ما تناثر من جعبة الذاكرة من صور ومشاهد خشية الضياع، ودونما التفاتة غادرت المكان نحو طريق العودة.

ما أبعد اليوم عن الأمس زماناً.. ومكاناً.. وحنيناً.. وذاكرةً.

About سلام شربجي

Check Also

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *