قراءة في رواية “على رصيف العمر” للكاتب حسن سامي يوسف
وليد يوسف
صدرت في دمشق، منذ حوالي ثلاثة شهور، عن دار ورد للنشر والتوزيع، رواية “على رصيف العمر” للسيناريست والروائي حسن سامي يوسف، في غلاف جميل و أنيق. وكانت مؤلفة من واحد و ثلاثين جزءاً، مع أن الكاتب لم يفصلّها فصولاً أو أجزاءّ أو مشاهد، إذ أنه استخدم الأرقام فقط.
قبل أن أبدأ، أخشى إن أعطيت رأيي الحقيقي بالكاتب و بالرواية، أن يتم اتهامي بالتحيّز، و بأن شهادتي مجروحة بالرجل. لكن الجواب على تهمة التحيّز هو النجاح الذي حققته أعماله السابقة. ففي رصيد الرجل أكثر من عشرة أفلام سينمائية، و مثلها مسلسلات تلفزيونية (قد يكون أكثر بكثير، لكني لم أرد المجازفة) وأظن سبع روايات. وهو لا ينتظر شهادتي، فأنا ناقد غير مختص و غير محترف. وما أسجله هنا عبارة عن ملاحظات أو انطباعات أكثر مما هي مواقف نقدية تحمل حكم قيمة نقدي. والقارئ هو الحكم الحقيقي.
بطل الرواية أو الشخصية الرئيسية للعمل، هو أمجد عبد السلام، وهو كاتب روائي وكاتب سيناريو للأفلام السينمائية وللمسلسلات التلفزيونية. بالإضافة إلى الشخصيات الأخرى التي وظف الكاتب وجودها توظيفاً مثالياً، بحيث تم استدعاء الشخصيات عند الحاجة لها بتوقيت ظهورها اللازم بدقة. ومن هذه الشخصيات زوجته وداد التي اختارت أن تتركه بعد زواج هاديء لحوالي ثلاث سنوات و نصف طمعاً في وظيفة في دبي، ثم زوجته الثانية سلمى التي توفت بعد صراعها مع المرض و تركته يعاني وحدته، ثم هناك أصدقائه الذين كان أغلبهم أصدقاءه منذ أيام الطفولة، و يوجد بعض الأصدقاء الآخرون أيضاً مثل سيدرا التي يبث لها همومه من خلال الرسائل.
ينطلق العمل من رسالة بعث بها الراوي أمجد إلى صديقته سيدرا التي تعيش في مصر، ومن هذه الرسالة نعلم ما يعانيه من ألم الفقد، فقده للناس الذين كانوا حوله وبالقرب منه، لكنهم هاجروا بسبب الظروف التي تعيشها دمشق وفقده لدمشق نفسها التي كان يعرفها على نحو جيد ثم تغيرت كثيراً الآن. ويبث لنا بعضاً من معاناته مع الوضع الجديد الذي أصبح يعيشه، وحنينه لماضيه أو لذلك الطفل الذي كان عليه عندما كان متشرداً، ويعمل مرة عتّالاً ومرة ماسح أحذية من أجل حفنة قروش بالكاد تسد الرمق. ثم نراه يعيش صراعاً داخلياً من كونه كاتب روائي وكاتب سيناريست بآن معاً، و سبب الصراع أنه يحب الروائي أكثر، لأن مساحة حرية الروائي أكبر منها عند كاتب السيناريو المحكوم بالقوانين والتقاليد والأهواء، وكيف أنه مضطر لعمل السيناريست كي يعيش عيشاً كريماً، لأن كتابة الروايات لوحده كمهنة، لا تشبع كاتبها، وسوف يجوع حتماً.
لابد من الإشارة هنا أن الكاتب (وهو القادم من صناعة السينما والدراما بالأساس) قد افتتح رسالته لسيدرا بكلمات الحزن، بل والدم عندما قال: “رسالتك الأخيرة أدمت قلبي المحزون يا سيدرا”. أي يفتتح “الستارة” لو صح التعبير، على صدمة للقارئ. وهو تكنيك تعتمده السينما وبخاصة الواقعية منها. و لطالما صرحّ الكاتب عن نفسه إنه مغروس بحبل الواقع. فكلمات مثل الحزن والدم لها صدىً قوياً في النفس، فعند سماع كلمات مثل هذه تستنفر الحواس ويتوقد التفكير. ثم يقودنا الكاتب فنذهب إلى حيث يأخذنا دون انتباه منا، لأننا نلاحق أو نتابع مصدر هذا الحزن والدم. فلانجد أنفسنا إلا متورطين مع الكاتب ونصه أو في أحداثه التي اختلقها. وهو شعور جميل يوهمنا أننا نعيش مع الكاتب أحزانه وأشجانه. فنجد أننا كلما قرأنا أكثر فإننا بحاجة إلى قراءة المزيد. وهذا فعلاً ما فعله هذا النص الروائي العجيب. فلا تجد نفسك إلا في منتصف حدث ما قد جعلك به الكاتب شريكاً له، وما أن تخرج منه حتى تدخل مأزقاً جديداً تريد له الخلاص، فتصبح أنت وصفحات الرواية كما لو أنكم في مطاردة. هي تهرب منك و أنت تتبعها.
عندما كانت تتقدم الرواية مع الوقت كنت أشعر بنفسي قد تورطت مع أمجد، أريد أن أستعجله بما يريد قوله. إذ حسبما فهمت من قرائتي لها، هي رواية أفكار مثلما هي رواية أحداث، مع أن الأحداث تقع كثيراُ على كامل مساحة الرواية، وعلى طول خطها الزمني أيضاً. فالزواج و الطلاق والتعارف والمشي في الشوارع وفي الحدائق وتناول الطعام سواء في البيت أو في المطعم، كلها أحداث. و بهذا المعنى كانت أحداث الرواية كثيرة. و أغلبها أو بعضها على الأقل جرى قبل الزمن الذي انطلقت فيه الرواية (الذي هو رسالة أمجد إلى سيدرا)، فزواج أمجد و طلاقه من وداد تم قبل ذلك وأيضاً زواجه الثاني من سلمى وموتها لاحقاً. لكن ما أقصده بالأفكار لنأخذ مثلاُ تعارفه على البنت الروسية كاتيا، فهو حدث قديم أيضاً، تم قبل كتابة الرسالة لسيدرا بحوالي عشرين عاماً. لكنها لماذا نصحته بقراءة دوستويفسكي باللغة الروسية حصراً؟ سألته: هل تعرف دوستيوفسكي؟ قال: نعم أعرفه. فأعادت السؤال : هل قرأته بالروسية؟ قال: لا، بل مترجماً إلى العربية. فأجابت: هذا يعني أنك لم تعرفه. هنا يقدم لنا الكاتب فكرة. فقط فكرة. لكنها تخدم الرواية في شكل ما، ثم أضافت كاتيا أن يقرأ قصة الليالي البيضاء بالروسية حصراً (و هذه فكرة أخرى). و هذا ما فعله أمجد، ليحصل على جواب كان قد سألها إياه هو: هل تنتظرين أحداً؟ و هكذا تتكرر في الرواية هذه المثنوية بين الحدث و الفكرة، إلى أن وجدتُ أن الكاتب قد أضاف للرواية من الأفكار ما يجعلني أوصفها بالرواية الفلسفية أو الرواية الفكرية إن جاز لي التعبير. فتجد الأفكار في الحب والحرب والسفر والنقود والنساء والثقافة والصداقة وحتى الفساد والعشوائيات. يعني باختصار وجدتها تتحدث عن الحياة، عن كامل الحياة.
حسب معلوماتي المتواضعة، فإن كل رواية أو قصة تتألف من ثلاثة عناصر، وهي الأشخاص و الحبكة و الأسلوب. أما بخصوص الأشخاص، فقد تحدثتُ عنهم أعلاه، ولا داعٍ لإعادتهم مرة أخرى. أما بخصوص الحبكة، لم أجد خلال مساحة الرواية ذلك المفهوم الكلاسيكي لمعنى كلمة حبكة في العمل، بمعنى أن هناك حدثاً قد جرى ثم يتشابك مع أحداث أخرى فيذهب الكاتب باتجاه تفكيكه وحل الصراعات أو الخلافات إن وجدت. فهذا لم يكن موجوداً، بل جاءت على شكل مجموعة من الأحداث التي تتوالى ويتم حلها آنياً، أو لنقل هي استعراض لذكريات تملأ القلب والروح. لكن إن كان لنا أن نستخلص لب الحكاية كلها (أو الحدوتة التي تشكل جوهر الرواية) فيمكن أن نكثفها في كلمة واحدة أو اثنتين: الحنين و الذاكرة. نعم هو الحنين فالكاتب يحنّ إلى كل ما مضى من حياته. يحنّ للولد الفقير الذي كان عليه، كما يحنّ إلى أصدقائه الذين بعثرتهم الحياة في أربع جهات الأرض، وهذه البعثرة ما هي إلا الفقد مرة ثانية. فَقْدُ الزوجة، وفقد الأصدقاء وفقد الشباب الذي ولّى إلى غير رجعة. وللفقد أسبابه المتعددة، قد تلعب الحرب دوراً هاماً فيها. وموت صديقه سامر كان نتيجة الحرب، وانتحار وداد سببه الحرب بشكل غير مباشر. و أظن حسب فهمي المتواضع، كان لابد من انتحار وداد كتعبير عن هذه الحال التي وصل إليها السوريون. طبعاً هي ليست دعوة للانتحار لنعبّر عن حالتنا المأساوية كنتيجة للحرب و الوضع السياسي الذي فرض نفسه على الناس بشكل مباشر. لكن كلنا سمعنا عن انتحار الكثير من السوريين سواء داخل بلدهم أو حتى خارجها. وما حالة وداد إلّا واحدة من مئات، وربما آلاف، من السوريين الذين أنهوا حياتهم بهذه الطريقة، وذلك كتعبير عن رفضهم لواقعهم الذي أصبحوا عليه. وأخيراً وجدناه هو نفسه قد هاجر هروباً من الجحيم الذي كان يعشيه في بلده.
أما بخصوص الأسلوب الذي مارسه الكاتب علينا، أظن أنه استخدم حيلة التوريط قد يكون بقصد أو بغير قصد، لكنه هو ذلك الخبير بما تنطوي عليه النفس البشرية من تعقيدات في داخلها. أي أنه جعل القارئ متورطاً معه في المشكلة التي أمامه، و يجعله يبحث بنفسه عن حل ما، فدائماً ما كنت أسأل نفسي:” ماذا بعد؟ أخبرني أكثر، احكيلي”. لا أعلم كيف مارس الكاتب هذا السحر علينا ووضعنا في حالة تنطلي علينا الحيلة، لكن غير التوريط، إن أردنا أن نقونن الأسلوب أو المنهج الذي سارت عليه الرواية، فأظن ولا أبالغ إن قلت إنه “المنهج المتكامل”، أو إن كان في ذلك بعض المبالغة، يمكنني التوكيد أن واحد من الأساليب هو الفهم العميق للبعد السيكولوجي للشخص المتلقي أو القارئ وحالاته العاطفية والشعورية. ثم الاستخدام الجيد لترابط البعد الاجتماعي للأحداث مع البعد التاريخي منها.
أما بخصوص علاقة عنوان الرواية بمضمونها، بقي أن لا أنسى، أن اختيار اسم الرواية “على رصيف العمر” يبدو له أسبابه و مبرراته. منها أن الكاتب نفسه ذكر خلال الرواية أنه جلس على الرصيف الكثير من المرات في حياته. وأهمها عندما كان لا يزال طفلاً صغيراً ويعمل كماسح للأحذية. فكان مكان عمله هو الرصيف. ثم يتكرر مشهد الجلوس على الرصيف حتى بعد أن كبر ونال نصيباً من الشهرة. لكن برأيي أن سبب اختيار “رصيف العمر” يمكن معرفته عندما نجيب عن السؤال: ماذا نفعل عندما نجلس على الرصيف ؟ لا شك نجلس هناك عندما نقرر أننا سوف نشاهد ما حولنا أو ما هو أمامنا. فعملنا هناك يصبح أننا نشاهد و نراقب. أي أن الكاتب قد راقب عمره في الرواية و البالغ منتصف العقد الخامس تقريباً. ومن هناك يعطينا حصيلة تجاربه التي صقلتها السنون و الأيام.
أما بخصوص لغة الرواية، لا شك أنها جاءت انسيابية كالماء في طريقه النازل. لغة كثيفة وأفكار سلسة وواضحة لدرجة تظن معها أن هذا المكتوب هو حديث القلوب إلى القلوب. فالكثير من المشاهد أو الأجزاء تخيلت أنه كتبها دون أن ينظر إلى ما الذي يكتبه، لأنه تركه يخرج من القلب دون تدخل العقل. لأن تدخل العقل قد يوقف القلوب عن حديثها الفيّاض حباً و لهفة.
أخيراً، فقد صرّح الكاتب مرة، إن هذه الرواية في طريقها إلى أن تصبح سيناريو، و بهذا التصريح أظن أننا يمكن أن نراها على الشاشة الصغيرة خلال عامين من اليوم تقريباً. و في الحقيقة هناك الكثير من أجزائها أو مشاهدها تشعرك عند قرائتها كأنك تقرأ سيناريو و ليس رواية. فمن الآن إلى اليوم الذي نرى العمل على الشاشة، أتمنى أن تبقوا بخير جميعاّ.