أرى أنّ علم الأثار مازال تخميناّ وأيديولوجيا، ومفتوحاً على احتمالاتٍ وفرضياتٍ عديدةٍ، بسبب منهجه وقواعده اللّغوية الوضعيّة الخاطئة، أدّى إلى تشويه قراءات النٌصوص الأثريّة، ما جعل هذه الدّراسات، غير ذات فائدة، ولم تقدّم لنا شيئاً غير الأوهام، فكانت مشوّهةً بعيدةً عن الحقيقة، وشكّلت هذه التّشوهات أساساً لكتابة التّاريخ، ما أدّى إلى أنْ يكون هذا التّاريخ على الصّورة اللاعلميّة المشوّهة لعلم الآثار، إضافة لجعل اللّاهوت شريكاً له، وكلّ ما بُني على باطلٍ فهو باطل.
ولست هنا بصدد دراسةٍ نقديّة منهجيّةٍ واسعةٍ لعلم الآثار، المليء بالأدلّة التي تشير إلى المزاعم والأباطيل، وسأتناول شاهداً واحداً بالتّفصيل، كما سأذكر بعض الشّواهد بشكل عام وباختصار وعجالة، والشُاهد المفصّل هو: “ظاهرة تصويت اللّغات القديمة” المُتّفق عليها بين جميع الاتجاهات المختلفة لعلوم التّاريخ واللّغة والآثار، فقد زعم الأكاديميّون الفحول: أنّ اللّغات القديمة أَهمَلتْ إلى حدٍ كبير تدوين حروف المدّ الطّويلة ” ا، و، ي”، كما أنّها أهملت نهائيّاً تدوين حروف المدّ القصيرة ” الفتحة والضٌمة والكسرة”, وسأترك موضوع حركات المدّ القصيرة لدراسةٍ لاحقة، لأنّها تتعلق بالشّعر والوزن والعروض.
بسبب هذه السّمة المزعومة، بإهمال تدوين حركات المدّ الطُويلة، توّجب على قُرّاء النّصوص القديمة استعادة وإضافة الحروف النّاقصة هذه، ليصبح النّص قابلاً للقراءة و الفهم، ولا يكتفي أصحاب هذا الزّعم بالتّصويت، بل يزعمون أيضاً وجود مشاكل أخرى في التّدوين، منها إضافة وحذف حروف صامتة إلى تلك النّصوص سآتي على ذكرها في فقرات لاحقة ، ويتبادر إلى الذهن السؤال عن كيفيّة إجراء التّصويت، وكيف يتمّ تحديد أيّ الحروف؛ مثلاً سنضيف إلى كلمة “ك ت ب”، هل تصبح كاتب، أم كتاب، أم تبقى فعلاً ماضياً “كَتَبَ” أم هي جمع :”كُتب” ….، وهناك احتمالات كثيرة لتصويتها، كما أنّ هناك احتمال أنْ تكون ليست بحاجة إلى تصويت، ويضع هؤلاء شرط اتساق المعنى عند التّصويت، وأفترض أنّنا عثرنا على عبارة مدوّنة حسب اللغات القديمة وقد أُهمل تصويتها، مكوّنة من هذه الحروف: ” ع م ر و س م ر”، فكيف يتمّ تصويتها، علماً بأنّ هناك احتمالات كثيرة لها، منها هذه التّكوينات :[عمر و سمر، عمر و سامر، عمر و سمير، عامر و سمر، عامر و سامر، عامر و سمير، عمار و سمر، عمار و سامر، عمار و سمير، و يمكن أنْ تكون عمرو سمر و عمرو سامر، و عمرو سمير..]. أنا على يقين أنّ كلّ هذه الاحتمالات الممكنة لن تستهوي أكاديميّاً مفتوناً في التّوراة، وسيرى أنّ المقصود في هذه العبارة “عمري وشامير” !، ويقيني هذا يستند إلى أمثلة كثيرة جداً، فقد اعتُمد كثيراً خياراً من مجموعة الاحتمالات، لم يكن أساس هذا الاختيار إلّا أنّه متسقا مع التّوراة، من هذه الأمثلة التي لا تعدّ ولا تحصى هذه المفردات، فقد وردت كلمة (س ك ن) فكم تحمل من احتمالات في حال التّصويت ؟ (سكن، ساكن، سكون، ..) ألا انٌ هؤلاء لم يعجبهم إلا أن تصبح سيكاني، وسيكاني مملكة ذكرتها التّوراة، كما أن هناك كلمة (ز ك ر), ويمكن أن تكون زاكر وزكار وزكريّا أو أنْ تبقى على حالها، لكنّهم وجدوا أنّ الاحتمال الممكن الوحيد هو تصويتها لتصبح زكور، ومن زكور هذا إلا ذلك الملك الًذي ذكرته التّوراة! وهناك مئات القراءات التي استَخدمت هذا المنهج لعبرنة النصّ الاثريّ، ومِن هنا جاءت تسمية علم الآثار التّوراتي، المبني على قراءة النّصوص الأثريّة كما تتسق مع التّوراة، تماماّ كما يتمّ تفسير اللّقى الأثريّة لتكون شاهدةً وأدلّة على صحّة حدث توراتيّ ما .
إضافة إلى مشكلة التصويت المزعومة، فهناك مشاكل تمّ اختلاقها، ومشكلة حقيقيّة واحدة، تتمثّل بعدم وجود إشارات أو فواصل بين كلمات النّصوص، وتُكتب حروفاً منفصلة، متساوية الأبعاد فيما بينها، هذه الظّاهرة تؤدي إلى احتمالات في فرز الكلمات، فعلى سبيل المثال فالنقش المسمّى “مشع”، مطلعِه على الشٌكل التٌالي: “ا ن ك م ش ع ب ن ..”، فأيّ هو التقسيم الصحيح، هل نعتبرها “انك مشع” كما قرأها إسرائيل ولفنسون، أم هي “انكم شعب”؟ ولأن التوراة ذكرت أحد ملوك مؤاب باسم “مشع”، فقد كانت هذه القراءة المعتمدة الوحيدة عند جميع من تناول هذا النّقش الأثري، (وسوف يحلُّ غضب الآلهة من السّماء إذا اختلف أحد مع اختيار هذا الاحتمال)، كما أن مطلع النّص الّذي أُطلق عليه “نقش تبنت”، جاء على الشّكل التٌالي: “ا ن ك ت ب ن ت ك ه ن ع ش ت ر ت..” ، تمّ تقسيم كلماته إلى: ” إنٌك تبنت كهن عشتار..) ، ومعنى انك: أنا، تبنت: اسم علم وهو اسم الكاهن، فهل يستطيع أحد أن يقسّم هذا المطلع مثلاً إلى : انكتب نت مهن عشتار؟ انكتب (صيغة المبني للمجهول في المحكيٌة، وعند العرب يتمّ همز الكلمات التي تبدأ بحروف ساكنة، وكلمة نْت، هي انت، والمعنى كتب الإله أن تكون أنت كاهن الإلهة عشتار.
وبالعودة إلى التصويت، فإن أساتذة الجامعات، يقومون بتدريب الطّلاب، ومن يرغب بقراءة النّصوص القديمة، ويقدمون لهم تمرينات تقوم على محاكاة نمط التدوين الذي يعمل تدوين الحروف الصّوتية، وينصح د. محمد بهجت قبيسي، بوضع تمارين مبالغ فيها، بحيث يُحذف منها حرف “ي، و” من كلمة يوم، وحرفي “ا، و” من كلمة كانون، وجاء هذا تحت عنوان فرعي: “قاعدة التّدريب على القراءة”, وجعل منها مثالاً وحذف منها الحروف الصّوتية وأصبح التّمرين على الشكل: “ق ع د ت ت د ر ي ب ع ل ق ر ا ت” (1)، كما أنّه وضع نصاً آخراً للتدريب مكوّناً من 4 سطور. فهل سينجح الطّلاب بقراءة النصوص بالشّكل الصحيح ؟ ومن يرى أنّ هذه العمليّة ممكنه، فعليه أن يقرأ نصاً بسيطاً على نمط هذه التدريبات فلينظر أدناه(2).
وأجد استحالة في قراءة النصوص، في حالة المزاعم الكثيرة والمشاكل التي وُضعت، لأسباب مهمة جداً يصعب البرهنة عليها إلّا من خلال مقارنة بين لغة النص الأثري والعربيّة والعبريّة، أجريتها وسوف أعرضها في دراس مستقلة لاحقاً.
ومِن بعض الصّعوبات التي زعم أصحاب هذا النهج بوضعها، قاعدتين متعاكستين، الأولى: أنّ تخلّل تدوين اللّغات القديمة وجود حروفا تمّ تدوينها بدون داعٍ دلاليّ، وقد أضيفت زيادة عليها، أطلقوا عليها اسم “قاعدة الإقحام” (3)، ويستوجب على الباحث حذفها لفهم المعنى، وهذه القاعدة تخصٌ الحروف: “ء، ع، ي، ر”، فهل يسمح لنا حذف حرف العين من كلمة كنعان لتصبح كنان وفق قاعدة العنانى، أم هذه القاعدة سلاحاً يُمنع على البعض ويُسمح للبعض استخدامها؟
وهل يمكننا اعتبار حرف الرّاء مقحماً في كلمة حرب، ونتخلص منه لتصبح الكلمة “حب”، ونحول كل تاريخنا من حروب وقتل وموت إلى حياة وتاريخ ساده الحب والوئام ؟
هناك أيضاً قواعد الأبدال والقلب المكاني تزيد الطين بلّة، ولكنني سأتحدث عن قاعدة أو مشكلة أخيرة، وهي على عكس الإقحام، ويرى هؤلاء هذه المرّة أنّ النصّوص القديمة، قد أسقطت حروفاً صامتة ولم تدوّنها، أطلقوا عليها قاعدة السقوط أو الاسقاط(4)، والحروف التي تتعلق بهذه القاعدة هي: “ء، ي، ع، ح، م، ل، ب”، وفي حالة الإقحام يقوم الباحث باستئصال حروف من النص بينما هنا يقوم بإضافة حروف، وهكذا يضع المنهج بين يدي الباحث 14 حرفاً من أصل الأبجدية القديمة البالغة 22 حرفاً مكّنه حذفها أو إضافتها، وأتساءل هنا: لماذا هذا التقييد الشديد، لماذا لا يتركوا للباحث حرّيته الكاملة باستبدال 22 حرفاً ؟
وعلى وجه السّرعة ؛أتناول نقش شاجبار(5) الذي عثر عليه في النّيرب\ حلب مثالاً عن سقوط الأحرف الصّامتة، وهذا النّص مدوّن على شاهدة قبر، يرد فيه هذه العبارة: [ ب ، ع ي ن ي، م ح م ز ه، إن ه، ب ن ي، ر ب ع، ب ك و ن](6)، وكان التفسير الذكي: بعيني كنت مبصراً، أبناء الجيل الرابع بكوني، والنص بصيغة المتكلم “الميّت”، وقد عرف كم جيل من بعده ظلّوا يبكونه، إلّا أنّ شاهدة القبر عبارة عن قصيدة رثاء جميلة، المتكلّم فيها هو الأب، وتصويت ر ب ع إلى رابع تم تقدير وجود كلمة جيل، وهو يقول بُني “ابني” وليس أبناء وجيل مقدّرة غير موجودة وربع تم تصويتها لتصبح رابع.. وهي عبارة بسيطة، ويعني: بعيني : في عيني، محُزة: جرح، إنّه : حرف مشبّه بالفعل والهاء ضمير مفرد غائب، ي ، ربع: يا أبناء عشيرتي، بكون: يكون (وهي في المحكيٌة هذا بكون ابن عمي)، وفي السطر الثّامن من هذا النّص ترد هذه الحروف الأربعة: ” م ن ا ت “، ويعتبرونها كلمتين: “مَنْ أت”، وبتطبيق قاعدة الإسقاط “العبريّة في الأصل”، فقد سقطت النّون من أت، وتصبح: مَن أنت، فكيف تسقط النون من الضمير أنت، ولا تسقط من اسم الاستفهام من؟ وما هذه الحروف إلا الآلهة مناة المعروفة، ومنها المنيِة وتواجدت في مكانها المناسب على شاهدة القبر، وما هذا الإسقاط إلّا بدعة لحرف معاني النص وتزييفه وفق قواعد لم توضع إلا من أجل هذه الغاية .
كثيرةٌ هي الدراسات والكتب التي تناولت التاريخ التوراتي وعلم الأثار التوراتي، كان أشدّها تأثيراً، ما صدر خلال العقود الثلاثة الأخيرة، منذ أعمال الدكتور الرّاحل كمال صليبي، ومن سار على نهجه في نقد الجغرافية التوراتيٌة، أمثال د. أحمد داود ود. فاضل الرّبيعي وغيرهما، الذين أثبتوا حضورهم في ساحة صراعٍ كان لاعب وحيد يصول ويجول فيها، و يُعاب على هذه المدرسة النقديّة، استخدام ذات منهج المدرسة التقليديّة، وإن كانت توصلت إلى نتائج مغايرة تماماً لما هو سائد، فذلك بسبب المنهج الذي يفسح المجال رحباً أمام احتمالات عديدة، فاختارت المدرسة التقليديّة القديمة ما يلائمها، كما اختارت المدرسة النقديٌة الحديثة ما يتناسب مع أطروحتها، وإنّ استخدام المنهج ذاته الذي أعطى نتائج متناقضة، هو دليل إضافي على عدم صحة هذا المنهج المستخدم من كلا الطرفين، وأذكر هنا مثالاً بسيطاً ورد في نقش مشع، فيه وردت كلمة “ك م ش” فقد صوٌتت المدرسة التوراتيّة الكلاسيكيٌة هذه الكلمة بما يناسبها وعلى هواها، فقرأها إسرائيل ولفنسون وأتباعه “كمّوش” وهو إله توراتي، بينما صوّتها الدكتور كمال صليبي لتصبح “قماشة” واعتبرها اسم مكان في عسير – لتتناسب مع طرحه بأن جغرافيا التوراة في الجزيرة العربيّة، إلا أن التصويت عملية وفرضية غير صحيحة، والكلمة تبقى على حالها: كمش بالمعنى المعروف أمسك، وهي فعلٌ ماضٍ وليست اسم مكان أو اسم إله، وقد تكرّرت في النص، والعبارات التي رافقتها تدل على هذا المعنى، فمثلا وردت : كمش، ب، أرضه، كما وردت: كمش ب حرمتو وأقحم شمالي، وحرف الجر الباء لصيق بالفعل أمسك وكمش، ومعنى العبارات واضح لا حاجة لتفسيرها .
وأخيراً فإنه مٍن المؤسف حقاً، أنْ أعثر متأخراً وبعد أكثر من ١٥عاماً على من عدم قبولي لمنهج التصويت هذا، على دراسة لباحثين ألمانيين “دونير” و”روليغ”، قرأا فيها مجموعة من النصوص دون الحاجة إلى إضافة أو حذف حروف، وهي الطّريقة المُثلى والأنجع، ولا أعرف لماذا أهمل باحثونا العرب هذه المدرسة الألمانيّة، واتبعوا من “يخوزقهم”.
يقول الدكتور محمد بهجت قبيسي عنهما(7) : ” لقد أتى دونير وروليغ، على ترك النصوص الأثرية دون تصويتها”، وسيكون الجزء الثاني من هذه الدراسة، تقديم أدلة جديدة على المنهج الخاطئ المتّبع، ومحاولة إظهار طريقة جديدة، نستطيع من خلالها قراءة النّصوص بصورة صحيحة.
_____________________________________
الهوامش :
1- د. محمد بهجت قبيسي، ملامح في فقه اللٌهجات العربيٌات، دار شمأل – دمشق، الطبعة الثانيٌة، 1990، ص 286 .
2- على سبيل المثال: ق ل م ل ك ل م م ل ك ك ل م م ل ك ك ق ل ق ل م ق م ك ب ن ن س ف ل ت ه ز ف ه .
3- د. يحيى عبابنة، اللٌغة الكنعانية – دراسة صوتيٌة صرفيٌة دلاليٌة مقارنة، دار مجدلاوي للنشر، عمان – الأردن، الطبعة الأولى 2003، ص 163.
4- المرجع السابق، ص 173
5- د. فاروق اسماعيل، اللٌغة الأردنية القديمة، منشورات جامعة حلب، مديرية الكتب و المطبوعات الجامعيٌة، حلب 2001، ص 317.
6- المرجع السابق، ص 319.
7- قبيسي، مرجع سابق، ص 286