لوحة للفنانة شروق اغبارية

راكان حسين: نصين . أرجوان ورَقْـْـمُ سَـــفَر

أرجوان

اسمي المعمّم على حواجز مخارج البلاد والنقاط الحدودية، جعل فكرة الهروب مستحيلة وكان عليّ أن أتعلق بأي طوق لأنجو من هذه الورطة، وإلا سينتهي بي الأمر راسية في قاع أحد الفروع الأمنية. لا أملك إلا القليل من المدخرات ومرتّب الشهر الذي خضت لأجله مغامرة الوصول إلى مركز مدينة طرطوس كي أستلمه بعد أن اشتريت تذكرة على الباخرة “فينيقيا” المتوجهة إلى مرسين.

ابتسم موظف الدائرة كعادته لدى زيارتي لمكتب المحاسبة في بداية كل شهر وعاجلني بإيماءة لطيفة، وغمز مدندناً أما خشيت من الحراس في الطرق، فابتسمت لجرأته بالحديث معي. سألني عن حالي بصوت خافت، ثم انحنى نحوي وهمس: صورتك بالبروتيل الخفيف بلا أكمام والبنطال الجينز تحتل العناوين كأنها إعلان أزياء.. كم أنت جميلة يا ماري، ولكن ليس في ذلك المكان.

– لا شيء يبشر بالخير يا صديقي، كلّ الموظفين علموا أن اسمي بات مدرجاً على اللوائح

الأمنية بعد أن ظهرت صورتي في تلك المظاهرة الوحيدة أمام بيتي حين خرجت مع من خرجوا أحمل باقة زهور.

وقوفي صامتة بعينين دامعتين على طرف الرصيف، حرض المصور المتخفي بين المتظاهرين أن يلتقط لي تلك الصورة الرومانسية و ينشرها كدليل على سلمية الثورة وإسقاط تهمة الأسلمة عنها. وفي غضون ساعات كانت الصورة المثيرة تحتل جميع الفضائيات والمواقع والبروفايلات والخلفيات الثورية وصحف المعارضة، بينما صمت هاتفي الذي يرن دوماَ، لا أصدقاء، لا أقارب، لا جيران، لا أحد يجرؤ على الاتصال بخائنة للوطن وداعمة للإرهاب بباقة ورد. أردت أن يتصل أي أحد، ليصرخ أو يشتم، لأقول له أنني لست نادمة.

باقة الورد التي حضنتها كانت رسالة حب إلى شبان بعمر ابنتي أعلنوا بدء القيامة، ثم أشهرتها في وجه القاتل لعله يعود لطبيعته التي غيبها الخوف، ولا يسدد فوهة بندقيته إلى شبان الحي. كانوا فتياناَ بعمر الزهور والبراعم الخجلة من طلوع الصباح.. ضغطة واحدة على الزناد أغرقت الشارع الصغير بدماء ربيعية، وجسدتهم أوراقا وغصوناً، وعرجت الحناجر بهتافاتها إلى السماء لتسألها لماذا نموت هكذا وإن لم نعش أحراراً لمَ جئنا إلى هذه الحياة. كانت الأرواح الصغيرة تصعد سلّم السماء شيئاَ فشيئاَ لتخبر الله بكل شيء، كل شيء دون إغفال أي تفصيل.

حديقة بيتي الخلفية تزدحم بالورود الناهضة والملتوية الأعناق، والخجولة من خطوط الشمس الأولى، كنت أقرأ بين وريقاتها معنى الاحتجاج، تنثر عبقها على الأرجاء فأطلق الأماني في حضرتها لعلها تقنع القاتل وتصيبه بالتردد عند لحظة ضغط الزناد على أبناء أمه، أو ربما تمارس معجزتها، فتكون الملاك الحارس الذي يصد الموت لحظة وقوعه عنهم، لكنني أيقنت بلحظة حزن عميق أن هذه الزهور مآلها فوق القبور، وأدركت معنى أن تكون عاشقاً.

أصوات الموظفين في المكاتب المجاورة تهمهم باسمي، فانكمشت على نفسي..

– الله يخليك، أعطني المرتب ودعني أذهب..

فتح دفتر المرتبات على الجدول، ومرر قلم البك على الأسماء وهو يردد ..ماري.. ماري… وقعي هنا!

وأشار بإصبعه إلى مستطيل فارغ أسفل الصفحة.

وقعت بسرعة وأعدت القلم المربوط بمطاطة إلى جانب الدفتر، استدار إلى الخزنة وأخرج ربطة نقود، أزال عنها الحزام الورقي للبنك، وعد أربعين ألفاً وبعض القطع النقدية ومدّها نحوي.

وضعت المرتّب في المحفظة وأنا أشكره وشعرت براحة مؤقتة، كنت خائفة ألا احصل على مرتبي إلا بعد مراجعة الفروع الأمنية. ودّعني بنظرة مشفقة وقال بصوت خافت كأنه يلقن محتضراً:

– أنت إنسانة رائعة يا ماري.. انتبهي لنفسك جيداً.

استطلعت الممر المؤدي إلى الخارج لأتأكد من خلوّه، ومضيت دون أن أرفع عيني إلى داخل المكاتب، واستقللت عربة أجرة إلى بيت “أبو هادي”.

أبو هادي اسم لمع نجمه مع استعار النيران في أرجاء البلاد، رجل نما في رقعة الدم. يقف إلى جانب الوزير مثل حصان الشطرنج، يتحرك بطرق ملتوية على المربعات السوداء، من فرع إلى فرع ومن مسؤول إلى وزير ليبرّئ هذا ويدين ذاك، حتى تحول إلى واحد من مفاتيح اللعبة الشرسة الماضية نحو هاوية مؤكدة.

ضغطت على الجرس بتردد، فتحت أم هادي الباب العريض ورحبت بي على طريقة أولاد البلد الطيبين، ولدى دخولي وقعت عيناي على إكليل زهور يقف كحارس في زاوية الصالة الكبيرة. كان الإكليل مكتظا بالورد البلدي والقرنفل ومحاطا بالبنفسج. لأول مرة أحس بالعداء اتجاه هذه الزهور، كأنها سرقت من جنازة. وعلى الجدار المقابل للكنبة انتصبت الشمعدانات والقطع النحاسية والمزهريات بشكل عشوائي، وفي الزاوية وقف فونوغراف ببوق نحاسي خرست الموسيقى فيه.

صور “أبو هادي” بقامته القصيرة ووجهه الأبيض الطافح كقرص الفطر السام وطقمه الرسمي مع مجموعة من المسؤولين والضباط كانت تغطي الجدار المقابل بأكمله. أحسست بنفسي داخل دُغل متشابك من البذخ الفائض في الأثاث، غير قادرة على النظر بعين الجمال إلى هذه الموجودات المتناثرة.

غابت السيدة الودودة لدقائق في المطبخ وعادت تحمل صينية عليها فنجانا قهوة. جلستُ على حافة الكنبة بارتباك قلق، لاحظته أم هادي فطلبت مني الاسترخاء. وراحت السيدة تتحدث عن الخوف القادم من الأصوات الهاتفة التي تجوب الشوارع ليلاً، دون أن أبدي أي ردّة فعل، وبشّرتني أن مشكلتي في طريقها إلى الحل ولكنها تحتاج مبلغاً إضافياً أيضاً.

– الباخرة ستغادر الأربعاء إلى مرسين، أرجو أن تسير الأمور على خير ويرفع أبو هادي

اسمي من قوائم المطلوبين ليوم واحد فقط.

ابتسمت وربتت على ركبتي:

– لا تقلقي الأمر أسهل مما تتخيلين. أبو هادي ساعد الكثير من المطلوبين وقد وصلوا برّ

الأمان إلى تركيا وأوروبا، ولولا حصة المتعاونين معه لما طلبت منك قرشاً واحداً، فأنا أعرف أهلك وعلاقتي طيبة بهم.

كنت منذ بداية الحديث أرد عليها بنظرات صامتة وعبارات مقتضبة.

– هل جميع المطلوبين كانوا يقفون على الناصية ويحملون باقة ورد؟

– لقد وعدني أبو هادي بحل الموضوع، ليس عليك سوى زيارة قصيرة لرئيس فرع الأمن

تقولين فيها أنك لم تكوني في المظاهرة وأن المصور التقط الصورة بغفلة عنك وأنت تحملين باقة الزهور ذاهبة في زيارة ما. قد يتطلب الأمر بعض النقود وظهورك على شاشة التلفزيون لتوضحي الأمر.

– أم هادي أرجو أن تفهميني، أنا أتيت لأرفع اسمي من قوائم المطلوبين ليوم واحد فقط، ثم

إنني حملت الزهور في المظاهرة حداداً على أبنائنا الذين قتلوا. هل تعلمين من هم هؤلاء الشبان يا أم هادي؟ أنت تعرفينهم واحداً واحداً وتعرفين عائلاتهم ولم آت هنا لأتبرأ مما فعلت.. لست نادمة على أي شيء.

أحست أم هادي بعسر الحوار معي وهي ترى دموعي تفيض مع كل كلمة، فتنهدت :

– أرجوك يا ماري، الأحلام تبقى في الأحلام. نحن نعيش على أرض الواقع. أنت لست

وحدك! في هذا المحيط ، ابنتك، أصدقاؤك، عائلتك، كلهم سيتأذون من هذه التهمة. ابنتك أرجوان فقدت أباها وهي صغيرة ولا أتمنى لها أن تعيش مقطوعة الجذور بلا والدين.

– أتمنى أن أعيش في أرض الأحلام تلك، ماذا لو أنك رأيت صورة هادي بين هؤلاء الشبان

يوماً ما؟ هل ستقبلين له أن يقضي على الأرصفة كما يحصل الآن. حينها أنا متأكدة أنك لن تكوني أماً لشاب واحد فقط.

أجابت بانكسار: لن أقبل أن يُقتل ابني، كما لا أقبل أيضاً أن يَقتل غيره.

اكتفيت برشفة قهوة ولم أرد، فأكملت حديثها بنحو آخر:

– كيف حال أرجوان؟

– إنها بخير، أتواصل معها عبر الهاتف فقط، فالطريق من دمشق لم يعد آمنا كي تأتي دائما.

لكنني سأبذل قصارى جهدي كي تلحق بي بعد أن اجتاز هذه المحنة.

فتحت حقيبتي ووضعت الأربعين ألفاً التي اتفقنا عليها على الطاولة الصغيرة جانبي..

– هذا مرتب الشهر بكامله، أرجو من زوجك أن يفي بوعده لي. واستأذنتها بالمغادرة.

نظراتها المتعاطفة لم تشفع لها أنها زوجة “أبو هادي” وأنها جزء من لعبة مثيرة للغثيان، جعلتني مضطرة لأدفع رشوة مقابل حياتي.

واستحضرت صورة أبي المشرقة وهو يقول لي إياك أن تنحني يوماً ولو أحاطت بك كلُ ذئاب الحي… لكنني الآن أنحني يا أبي أمام عاصفة الدم المقبلة، وإن لم أفعل ذلك، ستكون أرجوان هي الثمن.

حاولت أم هادي استبقائي لفترة، لكنني رفضت المكوث في هذا المكان الذي يطبق على أنفاسي وحاولت الاعتذار بود متكلف.

كانت جدران بيتها وحوشاً تزحف نحوي فتدفعني للهرب.

عند الباب نظرت إليها نظرة طويلة فلمعت بارقة صدق في عمق عينيها وقالت:

– أردت أن أحدثك أيضاً عن أشياء كثيرة لكنك ترفضين، لدي الكثير لأقوله.

– أتمنى أن أعود يوماً ونتحادث كصديقتين دون أي ارتياب.

احتضنتني وهي تودعني فاستغربت تلك العاطفة المباغتة لزوجة رجل ينتفع من مصائب الآخرين.

شجيرات الفوتينيا تسيج جانبي الطريق بأوراقها البرونزية والنارية اللامعة، فيسيل الأرجوان على أطرافها وتفتح الأسئلة على مصراعيها.

أين يقودني المجهول بعيداً عن تربتي التي نبت فيها؟ ماذا يخبئ لي الغيب من مفاجآت وخيبات؟

الطريق يمضي بي في شوارع طرطوس كالسائر في نومه. كم أعشق هذه المدينة وكأنك تعيش في زجاجة عطر.. كل زاوية ، كل مقهى، كل ابتسامة عابرة من أهلها الطيبين، كل انحناءة درب، تهمس لي بما لا أعرفه، تقول آلاف الكلمات.

اتصلت بأرجوان، وقع صوت بكائها المكتوم بين أضلاعي..

ألو ألو !.. أرجوان حبيبتي..

جاءني الصوت مخنوقاً مرة أخرى..

– حبيبتي أرجو أن تسمعيني جيداً.. أنا بخير وستمضي الأمور بخير. غداً مساء سأكون في

مرسين لا تقلقي.

أغلقت أرجوان الهاتف على الفور ولم تنبس بأي كلمة.

جلست على جانب الرصيف كي أخفف من دوران الأرض حولي.. كل شيء يدور مثل كون مجنون، كواكب، نجوم ،أجرام، حكايات الأمس وقصة غد لا أعرفه، أخاف رحيل النهار وأخشى نزول الليل وزحفه الخبيث إلى فراغ الهواجس.

أسندت منظار الطفولة إلى عيني ورأيت أبي يخوض بي معالم المدينة الآسرة بجمالها قبل أن ينهار ركن العمر ويرحل. كان يطوف بنا في أيام الإجازات بين الشوارع المحفوفة بالأعمدة الرخامية والقلاع التي عشقت البحر فشهقت بأبراجها، ومكثت جانبه لتصغي إلى هدير أمواجه الأزلي، المسارح الأثرية التدمرية والرومانية، وممالك الأبجديات الأولى للحب. بعد ذلك أسماني باسم مملكته التي يحب.. ماري.. تيمناً بعشقه الممتد من الحصون الآمنة إلى مدرج بصرى وبوابات دمشق وزرعها كشريحة تحت جلدي كي يستدل بها عليّ، وأنا حفظتها كتميمة لأستعين بها على أيام كهذه وعشقتُ ملامح أبنائها ليظل صوته يتردد داخلي كصدى الأمواج في تجاويف المحار.

قلت في نفسي أريد أن أرى طرطوس للمرة الأخيرة، لا وداع يليق بهذا العشق، ولكنها ستودعني، فالمدن كالآلهة تبقى، لا يخفى عنها شيء، تعرف أنني متهمة بباقة ورد، وسأمضي مرغمة لأنني لم أغمض عينيّ عن الأسماك وهي تطفو ميتة دون أن أقول شيئاَ.

مشيت عبر الكورنيش البحري إلى شاطئ الأحلام، كان حوض المرفأ يزدحم بالأشرعة والزوارق المتعددة الألوان والبواخر الكبيرة، وقصبات الصيادين تهتز فوق البحر الساكن، وترفع الأسماك من أقفاص الماء. كم سؤالاً نبت على امتداد هذا الشاطئ المتواطئ مع الموج والجمال بين البشر وآلهة البحر؟.. لماذا لا يعيش الإنسان بالماء الدافق الذي خلق منه؟ ربما عاش فيه إلى أن قطف تفاحة البحر وارتكب الخطيئة الأولى ليخرج عارياً من الأعماق وتوالت بعدها مواسم الدم وعودة الوحوش، لتهرب الحوريات المتخفيات بين البشر ليلا إلى البحر ويختفين في أسراره وتبقى معلقة كأسئلة الوجود. أين ذهبن بتلك القيثارة حيث خرس النغم فيها ولم يبق سوى حشرجات مغمغمة.

بعد رحلة نصف ساعة على سطح المركب دخلت أرواد من بوابة الحنين، ودبت رائحة الحياة في كل زاوية نظر. سلال الصيادين تغل بأسماك العصيفري والفريدي والبلميدا. المقاهي الشعبية، مطعم الجزيرة، القلعة المتعالية بأبراجها.. أتتبع ذكرياتي على وقع خطوات أولاد المدارس، رائحة الخبز في الأفران، الثياب المنشورة على الشرفات، أستجير بتلك التواريخ الغائرة في الصخر أن تمدني بالقوة لأودعها وداع الوفاء. في كل لحظة حزن استجير بها فيعود صوت أبي وهو يعيد تعريفي أمام ضيوفه: “ماري هي سادس بنات أرواد”. أنا البنت السادسة كاسرة الموج وجزء من أسوارها. وقفت أمام مرفأ الأرجوان.. أرجوان معنى الخلود الذي صبغت ابنتي باسمه، عشقاً وحباً. كيف تحولت هذه الأرواح الضعيفة للحلزونات إلى أصباغ تنافس الآلهة على أبديتها وتبقى ما بقي الدهر.

أرواد.. النورسة الفينيقية التي حلقت بين طيات السماء، وجلست على مائدة الآلهة وكافأتها بأن تتحول إلى صخرة ضخمة لتحرس المتوسط، وخلقت من اسمها ملاذاً وملجأ ومأوى وأنجبت أولادها فوق رمالها، هذه أرواد تجلس في خاصرة البحر لتزجر الوحوش الطالعة من أعماق الماء، ترفع الصواري، وتنفخ أشرعة السفن، تنثر الأرجوان الملكي على امتداد هذه الأرض. منارتها تلوح بأضوائها للبحارة الضالين في البحر، كأم لا تنام قبل أن تطمئن على أبنائها. أبتهل إليها بحق أسوارها وقلاعها أن تصرف الجن الذي استحضرته حناجر الشبان، فلا يراق الأرجوان ولا يتخضب بالدم فوق غروب هذه المدن التي جهدت الآلهة بتكوينها على امتداد هذه الجغرافيا الطيبة.

صباح الأربعاء فتحت غرفة نوم أرجوان وتشممت وسادتها بملء رئتي وتلمست فراشها، أدوات مكياجها، صورها وأشياءها التي تحب، ثم كتبت على مرآتها بأحمر الشفاه .. أحبك يا أرجواني، سنكون بخير يا صغيرتي .. أحبك.

ودعتُ أزهار الحديقة بأسمائها زهرة زهرة، وصافحت الياسمينة المعرشة حول نافذة غرفة نومي، ومضيت إلى الميناء، كان المرفأ يغص بأعداد كبيرة من الهاربين مثلي، وجوه يسكنها الخوف أطرقت في الأرض. كانت طرطوس تجلس قانطة كأرملة تودع أبناءها الهاربين، نساء، كهولاً وشباناً في مقتبل العمر حملوا أيامهم ووقفوا في محشر الخوف أمام حاجز المرفأ، بينما وقف رجال الأمن يفتشون جوازاتهم، يمدون قرون استشعارهم ليبحثوا في أفكارهم ووساوسهم وأحشائهم عن شياطين الجحود، تلك الوساوس التي جعلتهم يغادرون فندق الوطن كما قيل لهم. أخرجت جواز السفر من حقيبتي فامتدت نظرة رجل الأمن إلي دون أن أبدي أي ارتياب.

بحث في قوائم المطلوبين أو المتهمين بالورد فعرفتُ أن “أبو هادي” قد أنفذ وعده وشطب اسمي من اللائحة.

هز رأسه كأنه تذكرني وأومأ إلي بالصعود إلى متن السفينة وراحت الأفكار تطفو بأسى مثل أمتعة غرق أصحابها، وأنا أنظر إلى مدينتي التي غاب عنها الأرجوان.. ها أنا اقف فوق فينيقيا لأغادر دون وعد بالعودة. أحسست أن ذخيرة الذكريات لا تكفي لأودع مدينتي، فالأنهار الصغيرة تتخلى عن أسمائها حين تصل إلى البحر.

بعد أقل من ساعة انطلقت صافرة السفينة إيذانا بالإبحار، وبدأ الشاطئ يبتعد شيئاً فشيئاً دون تلويحة وداع. كل شيء كان يبعث على الحزن، شاطئ الأحلام الذي يغيب مثل قرص شمس دموي، الكورنيش البحري والمقاهي ومطاعم الأسماك، الصيادون البسطاء والهتافات المختبئة في فقاعات الماء، لا تلبث أن تتفجر كلما تعالت إلى السطح. أرواد نورسة الآلهة، والحوريات الخائفات، والمنارات التي وعدت بأن تهدي الضالين براً وبحراً، وظهرت بنت أرواد ( شقيقتي) وهي تمارس فعلها الأزلي بتحطيم الموج الصاعد وانبثقت كنوز الماء العذب من أسفلها وخرج أبطال سجن أرواد الذين قاوموا المحتل يوماً في صف واحد ليلوحوا لي، وسال الأرجوان ملوناً الماء والرمل والأفق، وطفت السفن الفينيقية الغارقة من أعماق منبتها الأروادي كلها دفعة واحدة، كانت تجذف خلفنا بأشرعتها المخططة ومقدمتها المنحوتة على شكل حصان بكبرياء الآلهة. استندت على الحافة الخشبية للسفينة فتكلست أصابعي وأنا أراها للمرة الأخيرة من عينين دامعتين. كانت مدن الساحل كلها متهمة بالورد مثلي والنورسة الفينيقية تحلق فوقنا وتقول لي أنت سادس بناتي وأجملهن يا ماري، فلا بد أن تعودي إلى بوابة السحر يوماً.

وفي لحظة الغرق بالحنين، سحبت يدي عن الحافة ومددتها إلى جيب سترتي، فتلمست انتفاخاً.

أدخلت يدي في جيبي، ثم شهقت بذهول، مرتب الشهر الذي أعطيته لأم هادي كان فيها!.. الأربعون ألفا التي وضعتها على طرف الطاولة، كانت قد دستها داخل جيبي في غفلة عني.. وتذكرت بلحظة ياسمين بيضاء كيف عانقتني تلك السيدة وهي تودعني بدموعها.

……

رَقْـْـمُ سَـــفَر

سبعون منسوجة جعلت زوار معرضي يشعرون بعطش شديد. يقف الزائر أمام المراقم والمنسوجات المدلاة كالستائر على طول الجدار، فتمتد الصحراء بسحرها وجفافها ويبدأ الزائر بتلمس حقيبته، ليبحث عن عبّوة ماء. اقترحت عليّ صديقة ألمانية أن أشغّل صوتاً لخرير الماء بدل الموسيقى كي أخفف من إحساس الزوار بالعطش.

منذ عامين وبينما كنت أتابع برامج التلفاز، مرت لقطة عابرة في نشرة أخبار المساء على تلفزيون دمشق، لقطة من خمسين ثانية في مكتب أحد الوزراء، كان يتحدث عن تحرير إحدى المناطق من “الإرهابيين”، وخلفه على الجدار صُلِبَ بساط صغير تدرجت ألوانه بين مشتقات البني والأصفر.. كان رَقم سفر علامةً فارقةً في وسطه ، نُسج على البساط الإطار الأزرق ذاته الذي اعتادت جدتي ترقيم كل أعمالها به.

المسيح المصلوب في مكتب الوزير أدمى قلبي، نزل عن الجدار ونزع المسامير من كفيه ثمّ زرعها في روحي.

حين رأيته مشت صحراء حتى أطراف الغابات الألمانية هنا وتوقفت أمام كأسي الفارغ. تشقّق زجاج الكأس وتحول إلى حطام بلمح البصر.. يا إلهي إنه بساط جدتي . أإلى هذا الحدّ استطاعت جدّتي أن تعبر بنا الصّحراء وتجعلنا نقتفي أثر الطيور التي تدل على الواحات؟

داهمني عطش يشبه العطش الذي أصابني حين شاهدت قائداً آخر حاورَته إحدى المحطات الغربية. تحدث يومها أيضاً عن تحضيرات إحدى فصائل المعارضة لتحرير المنطقة التي حرّرها تلفزيون دمشق من “الإرهابيين”.

وإلى جانب العلم الأخضر خلفه ظهرت حقيبة حيكت من الصوف، وعليها ذات الألوان المثيرة للعطش محاطة بالإطار الأزرق، ويتوسطها رقم سفر ذاته.

أنشأت على الفور صفحة على الفيسبوك، أسميتها رقْمُ سفر، وشرعت من خلالها بالتواصل مع الوزير المحتفل بالتحرير والقائد الذي ينوي إعادة التحرير.

اشتريت عبرها عشرات القطع من أماكن مختلفة، تعقبت أثرها عبر زعماء التعفيش والمهرّبين المتعاملين معهم. كنت أستردّ لوناً من ماض أورثته جدتي لأجيال ستحارب من أجله، ونجحت إلى حدّ ما بالانتصار في هذه المعركة على الطرفين المتحاربين اللّذين سرقا هذا الإرث.

قبل زمن طويل تزوجت جدتي حميدة، ابنة الجلّاوي تاجر الجمال وصاحب الحوانيت الأكثر شهرة، والأوسع نفوذاً على امتداد حدود الصحراء والماء، من تاجر قماش متجول بعد أن رآها صدفة وهو يبيع القماش لأهل بيتها. كانت تعكف على نسج لوحاتها بمزيج من الحب والجديّة في باحة البيت الوسيعة فأغرم بها، ودام الأمر سنة كاملة حتى استطاع أن يقنع الجلّاوي الذي لم يرزق بولد يحمل اسمه، بطيب مقصده، طلب منه الجلّاوي أن يعمل معه في حوانيته قبل أن يعطيه موافقته، وخلال تلك الفترة رأى فيه شاباً نزيهاً ورعاً يليق أن يكون ابناً له وزوجاً أميناً على ابنته، رغم معارضة الأقرباء لجهلهم بنسبه وأصله، فزّوجه منها وشاركه في تجارته.

زواج الابنة المدلّلة المولعة بكل فنون النسيج، جعلها تتنقل مع زوجها بين المرابع لتتعلم الأسرار الخفية لسرد حكاية الألوان وصياغة السحر من الخيوط الملونة، فطّورت أساليبها القديمة باستخدام النول، وصارت حياتها خيوطاً بين أضلاعه، تتحرك فيها بين خيط اللٌحمة والأوتاد والحفّة وعصا النيرة، وحظيت برجل أدرك جيداً عظيم موهبتها، فأعطاها من معارفه التي كسبها من تجارة أقمشة الحرير والصوف والكتان والقطن، وعلّمها كيف تميّز جودة الألياف الطبيعية، وكيف يتمتع كل صنف بألقاب السعادة وعناوين الفصول والمزاج المعتدل، حتى أنه كان يعالج اليائسين والمعتلّين نفسياً باختيار الأقمشة والألوان بدقة متناهية. أضافت إليها جدتي أيضاً لمستها السحرية بالنقوش وإيحاءات الألوان التي تصبغ الظلام بألوان الفجر والتي تجلب الحظ في البيع والشراء والزواج والحب، وتلك التي تجعل الزهور تتفتّح قبل أوانها وتستولد العشق وتستنبت الأرض الجافة.

كان جدّي يمضي في تجواله، كما عادته يغيب أشهراً في تجارته، بقافلة محملة بكل أنواع الأقمشة والجلود والخيوط، ويعود بشعر يزداد شيباً وحكايات أسفار ومغامرات، يرويها لجدتي تحت ألوان الليل، حتى يتبين لون الفجر الأبيض، فتشرع بنقش الحكايات لوناً لوناً، وقطعة قطعة، كل منسوجة تضخ سيلاً من الحب وتحفظ ذكرى وترسم حلماً، وفي كل مرة يغيب فيها، يجد زوجته قد أنجبت وأسمت الأولاد بأسماء أبطال الحكايات التي لا تنتهي، يمضي أشهراً يتجهز لرحلة أخرى والتحضير لمولود جديد، حتى ذهب ولم يعد، ولم يعرف ماذا ولدت في غيابه.

مضت سنة كاملة قبل أن يشرع الجلّاوي بتقصي أثره عبر الصحراء والقرى وبين الباعة الجوالين وحوانيت بيع الأقمشة في المدن ومدابغ الجلود، حتى انتشر خبر اختفاء نسيب تاجر الجمال في الأمصار وعلى امتداد برّ الشام، وصارت قصة الغائب تدور في المجالس وتناولها الشّعار والقواصيد في أهازيجهم، وراحت القصص ترسم خاتمة لهذا الرجل الذي غدا أسطورة المجالس، فمنهم من قال إنه مضى إلى بلاد بعيدة عبر البحار، ومنهم من قال أنه ضاع مع جماله في عواصف الصحراء والرمال المتحركة واختفى أثره، ومنهم من رأى فيه بطلاً لم يذعن للصوص الصحراء والعربان المفسدين وقطاع الطرق فقضى وهو يدافع عن كدّ سنيه كبطل من أبطال حكاياته.

اختفى الرجل الذي شغل الدنيا وتحوّل إلى أيقونة للغياب، وحلّ في حكايات الجدات لأحفادهنّ قبل النوم، وفي سير الحكواتيّة في المقاهي المكتظّة، وظلّت جدتي تحلم كل لحظة بدخوله المفاجئ عليها، فتراه في لحظات سهوها، يدخل وقد أنهكه تعب المسير الطويل، فتجهش بالبكاء وتعانق الجسد العريض حتى تنهار بين يديه وتعاتبه على غيابه الطويل، ثم تلقي برأسها على صدره، وتحضن ذراعه بقوّه كي لا يذهب أبداً مرّة أخرى، تهدأ لتتيقّن من حقيقة الحلم الجميل، وتذوب كما الأيّام السالفة، فتبحر في أحاديثه العذبة طوال الليل، ويروي لها ما جرى معه لحظة بلحظة، ثم يتسلل إلى جسدها، ينبشه زهرة زهرة، حتى يدنو القمر من جسد البحر، وتتوقف الكواكب ويتصاعد المد فوق الرمل المتعطش فتخور النجوم وتنطفئ الشموع وتبدأ حرائق الفجر بإشعال رؤوس الجبال بلونها الأحمر في الأفق.

ظلّت تحلم به هكذا كل ليلة وما أن يباغتها الصحو، حتى تعكف على نولها الخشبي مرّة أخرى لتستحضره في نقوشها وألوانها. رقْمت كل الحكايات يوماً بيوم دون أن تنسى أدنى تفصيل وبعد أن طال غيابه، نسجت الرقْم الذي أضحى موضع ذهول كل النقّاشين والنسّاجين والرفّائين، وأسمته رقْم سفر، واستخدمته في نسج البسط والتراكي ومراشح الخيل والجمال وأغطية الهوادج وحقائب الصوف التي كان يحملها الحجيج وظل الرقم ينتظر صاحبه.

توالت السنين دون أن يظهر له أيّ أثر، كأنّه لم يأت إلى هذه الدنيا ولم يلتق بها ، كأنّه مكث في بطن حوت ينتظر ساعة البعث .. أو ربما .. ربما سرقه النوم مع أهل الكهف وينتظر الإذن الإلهي كي يستفيق، وعجز السحرة وأصحاب الكرامات وقارئات الفنجان عن إيجاد حتى خيط واحد يقود إليه، وخرج الأمر من يد الجلّاوي فأوقف البحث عنه ورضخ لمصير زوج ابنته وأيقن أنه لن يعود أبداً.

لكن جدتي حافظت على حضوره ولم تيأس من عودته، فزرعته في مراقمها وغزلت أيامه فوق لوحاتها، رسمت المطر فهطل، ونسجت الأفق فامتد قوس قزح بألوان لم يرها أحد، ونسجت الفراشات فحلّقت ورقمت البلاد فخرج الغزاة وولّوا الأدبار.

هكذا شغلت النقاشّين والنسّاجين بحكاية الرقم الغريب الذي لم يستطع أحد تقليده أو تفكيك خطوطه الموشومة بماء القلب، يدخلون إلى متحفها ليسافروا معها على متن لوحة بصرية، كراوٍ يحكي بصمت، فما أن يدخل الزوار والتجار وعشاق النقوش حتى تجدهم يبكون تارة، ويضحكون تارة أخرى، يعبرون الصحارى وسط عطش شديد، حتى يلفظوا الرمل من أفواههم، وفي لوحات أخرى يصابون بدوار البحر ورهاب المرتفعات فيتمسكون بالجدران ويجثون على الأرض كما تبرك الجمال. حتى وصل صيت الرقْم الغريب إلى كل أنحاء المعمورة، وذهبت الأقاويل باستخدامها السحر وتطويع الجان لصوغ هكذا نقوش يعجز عنها البشر.

أرهقت عينيها بالبكاء والتحديق بالخيوط الدقيقة لسنوات طويلة، حتى ضعف بصرها وانحنى ظهرها فوق النول. فوزعت خالتي هند المشاعل في كل الأنحاء ليل نهار كي يتسنّى لها تمييز الخيوط الدقيقة وتدرجات الألوان، وعندما تعجز عن تمييز الخطوط كانت تروي لخالتي قصص زوجها وتقول لها :

– املئي روحك منها قبل أن تلمسي خيطاً واحداً..

تنسج وتروي، كأنها تريد أن تتمّ حكاية طويلة لا تنتهي فصولها بعمر الإنسان. امتلأ الحانوت القديم بالمنسوجات والنقوش ولم تنته حكاية جدي، رغم أن الحانوت القديم كان يكتظ بالمراقم، إلا أن حكاية الرجل الغائب لم تنته كما كانت تقول.

استفاقت ذات يوم وقد فقدت بصرها بالكامل. انتبهت هند لتعثّرها وبكت بحرقة حين سألتها جدتي لماذا الليل مازال جاثماّ بعد، وطلبت منها أن توقد المشاعل، وما إن أدركت أنها أصبحت كفيفة إلى الأبد حتى قامت وتلّمست درب الحانوت القديم، وألقت بنفسها فوق الحكايات، كانت تتمرغ على السجاجيد والمنسوجات لعلها تذوب فيها كما توارى رفيق دربها، وتنتهي في حكاية من حكايات المراقم.

هكذا ماتت جدتي ضحية الانتظار وشهيدة الملاحم التي وشمتها في قلوب كافة الأحياء وتركت للعائلة إرثاً صار متحف الصحراء الذي يقصده الزوار من بقاع شتى، صحفيّون، محطات تلفزة ، صور تلتقط هنا وهناك، طلّاب فنون ونساجون، عشّاق حالمون، وكتّاب يقرؤون تاريخ ممالك الصحراء والأمصار والبلدان والقبائل عبر رجل حلّ في ألوان ومراقم كل الحكايات.

عن راكان حسين

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *