أبو الوليد، أعني الناقد والمتأمِّل والمفكِّر والمترجم والعلماني والمتصوِّف وغير ذلك من حلقات سلسلة يوسف سامي اليوسف كما عرفت بعضاً منها ومنه ومما لديه. أبو الوليد، أعني ذلك الرجل ذا الغمامة الموشكة كاجتراح برق، والروح النائية كحنين ناي، ذلك النهِم قراءةً واستقراءً، الممتلئ ثقافة إلى الحد الذي يتجلّى زهداً وتواضعاً، أعني صديقي الذي روَّض فجاجة السياسيّ في داخلي باخضرار وطراء الشعر وما وراءه من انبجاسات لا أحد ممَّن عرفت أو قرأت يستطيع أن يكفكفها أو يضعها في مجراها كما أبو الوليد.
في إحدى مرات هروبي من الثكنة العسكرية، اتصل بي أحد الأصدقاء، ليقول لي إن هناك مخرِجاً فلسطينياً اسمه حسين الأسمر، موجود الآن في حمص ويرغب في لقائك. كان ذلك في أواخر عام 1976، بعد أن منعتني المخابرات السورية من العودة إلى بودابست لمتابعة الدراسة، وذلك بسبب موقفي المعارض لتدخل النظام السوري في لبنان، وبالتالي تم سوقي إلى الخدمة العسكرية الإلزامية.
نزلت إلى موعد اتفقنا عليه والتقيت بحسين. كان معه رجل رمحيّ القامة، سهميّ الملاحظة والتعليق، ومتشابك الأغصان في أفكاره وتنوعها أدبياً وفلسفياً ونقدياً وتصوفياً وعلم نفس إلخ. سألت حسين عنه فأجابني باختصار: إنه يوسف اليوسف «أبو الوليد»، ناقد عميق الأغوار وستشكرني كثيراً على تعريفك إليه. كنت حينها أخضع لدورة في كلية الدفاع الجوي في حمص، وكان من السهل عليّ تدبر أمور الهرب ليلاً من الكليَّة للقاء حسين ويوسف ولمّة الأصدقاء حولهما خلال أيام وجودهما في حمص.
كان أبو الوليد علامة جليلة وفارقة في محيط ما أتيح لي أن أعرف عبر دراستي في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق أو عبر مطالعاتي الخاصة. كأن المعرفة متجسِّدة به هبطت أمامي من غامض علم الله بمظلة.
لاحقاً تم فرزي للالتحاق بإحدى كتائب الصواريخ المتمركزة في غباغب، أي قريباً مما كان يسمَّى «الجبهة»، وقد استأجرت حينها غرفة في مخيم اليرموك. كان يزورني أصدقاء كثر يعرفون يوسف اليوسف، وأبلغوني أن بيته لا يبعد عن سكني سوى أمتار. زرته مع بعض الأصدقاء، وكم غمرتني حميميته وحميمية أم الوليد وأولادهما. أسرة فلسطينية بكامل أصالتها المطابقة للنموذج الذي عرفناه تاريخياً وفي الحكايات.
كان أهداني في حمص كتابه «بحوث في المعلقات». لا أبالغ أبداً حين أقول إنه أهم كتاب قرأته في حياتي عن المعلقات، وإن شرح المعلقات السبع للزوزني، الذي اعتمدته جامعة دمشق مرجعاً لطلاب اللغة العربية، لم يكن أكثر من شروح ضحضاحة قياساً إلى غنى وعمق وشمول وجماليات بحوث يوسف اليوسف. كأني لأول مرة أصحو على حقيقة أن مراجعنا الأهم ليست في الماضي. لاحقاً قرأت كتابه «مقالات في الشعر الجاهلي». مع يوسف اليوسف تجدَّدَ الشعر الجاهلي بالنسبة لي، فلم يعد غريباً عن عصرنا وفهمه ومعارفه ولغته وأدواته. ما من أحد بين المعاصرين في ذلك الحين وحتى الآن استطاع أن يجسر الهوَّة بين لغة الشعر الجاهلي ولغتنا الراهنة كما فعل أبو الوليد بلغته ومخزوناته من المقارنة وتطور الدلالة واستنساب الآلفاظ وتناسلاتها. قد يدخل المرء إلى الشعر الجاهلي، على الأرجح أمّيّاً، ويخرج بعد قراءة كتاب “بحوث في المعلَّقات” وكتاب “مقالات في الشعر الجاهلي” صديقاً حميماً لهذا الشعر وخبيراً بعوالمه وأسراره.
ومثلما جسرَ أبو الوليد الهوَّة بين لغة الشعر الجاهلي ولغتنا المعاصرة، جسر الهوَّة ما بين لغة المتصوِّفة ولغتنا.
في البدايات بدا لي أن ذخيرة يوسف اليوسف عن الشعر الجاهلي غير قابلة للنفاد، وربما لا متسع معها لأي نقد أدبي آخر. ولكن كتاباته اللاحقة عن الشعر العربي المعاصر، والشعر العذري، وأدب غسان كنفاني، والرواية العربية والعالمية، والنفّري وابن الفارض والتصوّف عموماً، بالإضافة إلى ما كنت أسمعه منه في حواراتنا شبه اليومية لسنوات طويلة، جعلتني أدرك أن المرء قادر على أن يعيش أكثر من حياة وأكثر من عصر.
في إحدى مماحكاتي التي أختبر فيها نفسي معه، سألته مرة عن المنهج الذي يعتمده في نقده ودراساته. أبو الوليد الذي أثق أنه لا يرتاب بي، نظر إليّ بنوع من الارتياب ثم ابتسم وهو يقول: هل لك أن تكون أكثر إفصاحاً يا فصيح؟
قلت: تعرف أني من المقتنعين بالمنهج المادي الجدلي في فهم الأدب والمجتمع والحياة عموماً، وهناك من يعتمدون المنهج البنيوي أو المنهج التفكيكي أو المنهج النفسي أو المنهج الفينومينولوجي إلخ.
قال: حسنٌ.. بهذا المعنى يمكنك القول أني أعتمد المنهج المتكامل.
قلت: هل تعني المنهج الانتقائي الذي يأخذ من كل المناهج؟
قال: المنهج الانتقائي مزاجي، وأحياناً انتهازي وتضليلي في خياراته وتطبيقاته، بل يمكنك اعتباره نقيض المنهج المتكامل. ثم ألا ترى أنه ما من منهج واحد يستغرق كل جوانب الحياة؟
ألا ترى أنه قد ينجح أحد المناهج في دراسة أمر دون آخر؟
فما ينجح مع التاريخ قد لا ينجح مع العمران. أمّا الحياة، والأدب ضمناً، فبحاجة إلى تضافر كافة إنجازات المناهج.
من مزايا أبو الوليد أنه صبور على مُحاوِره، ولا سيما إذا كان المحاوِر مثلي يسير على أوتوستراد ذي اتجاه واحد، أو يعمل على بوصلة تحتاج إلى كثير من الصيانة والعناية.
مع مرور السنوات تنوعت أحاديثنا وانسربت إلى تفاصيل حياتية اجتماعية وشخصية. حدثني عن قريته لوبية، وعن مغارة العريس التي اقتضت الأعراف أن يستحمّ في نبعها «عينها» كل شاب لوباني قبل ليلة دخلته. ولكن تلك المغارة للأسف تحوَّل اسمها إلى مغارة الشهداء، بعد أن دُفن فيها سبعة وعشرون شاباً قتلتهم الهاجاناه، وهم في طريق عودتهم من العمل إلى قريتهم. وحدثني عما تعرّضت له القرية من قصف صهيوني في تلك الأيام، وكيف أُجبر الأهالي أطفالهم على الاختباء تحت الأسرّة. كما حدثني عن بطولات رجال القرية من أمثال أبو عرسان رشراش الذي تمكن ببندقيته القديمة أن يصيب برجكتور أحد القوارب الإسرائيلية في بحيرة طبريا ويطفئه، وكذلك من أمثال أبو نظمي عودة وغيرهما الكثير. حينها تشكَّلت في ذاكرتي قصيدة عن لوبية وكتبتها لاحقاً ونشرتها في ملحق الثورة الثقافي في تلك الأيام، فكرَّستني تلك القصيدة شاعراً فلسطينياً، حسب ما كتب شوقي بغدادي عن القصيدة في الصفحة المقابلة في الملحق. في ما بعد التقيت الشاعر شوقي بغدادي وعاتبته على قوله إن حرارة القصيدة مفهومة كون الشاعر فلسطينياً، وواقع الحال أني سوري. قال لي شوقي إنه سأل ثلاثة أو أربعة أصدقاء عني وكلهم قالوا له إنني فلسطيني. في الحقيقة لم يكونوا مخطئين، تماماً كما أرى نفسي غير مخطئ حين رأيت ولا أزال أن الآلاف من أصدقائي الفلسطينيين إنما هم سوريون أيضاً، وذلك منذ ما قبل الثورة وليس بعدها فقط.
بعد تلك القصيدة شعرت كما لو أن كنيتي في المخيم تغيَّرت من بيرقدار إلى اليوسف أو عودة أو الشهابي أو اللوباني بصورة عامة.
أم الصديق علي الشهابي، الذي لا يخرج من اعتقال إلا ليدخل في مثله، وللأسف هو معتقل الآن، بحثتْ «ودقدست» كثيراً عني إلى أن وصلت إليّ، ودعتني إلى وليمة يصعب أن يحلم بها شخص مطلوب ومتخفٍّ من أمثالي، ثم طلبت مني أن أسمعها القصيدة.
آمل أن تعذروني على الاستطرادات.. إنها لوبية وأنا ابنها، كما أبو الوليد ابنها، وأم علي ابنتها.
لسبب ما، ولغامض علمه، صرت جزءاً من أسرة أخي أبو الوليد، وبخاصة بعد انتهاء خدمتي الإلزامية وبقائي في المخيم. أزعم أن تلك الفترة أعادت تكويني بالمعنى الثقافي، وجعلتني فلسطينياً أكثر مما كنت، وملأت حياتي، كما حياة الكثيرين، أشجاراً وطيوراً وأحلاماً وصُوىً وخيالات وعناقيد؟
يوماً ما قال لي أبو الوليد: أفكِّر أن أبدِّل شيئاً في اسمي يا فرج، فماذا تقول؟.
في الحقيقة لم أكن مرتاحاً للفكرة، ولكني سألته عن السبب، فقال لي: إن هناك ناقداً عربياً بنفس الإسم، ولا أريد أن أتعرّض لاحتمال أن يحمِّلني بعض القرّاء مسؤولية كتاباته. سألته عن البديل، فقال: سأضيف اسم والدي الذي توفي شاباً وتركني صغيراً لنكبات لها أول وما لها آخر.
وهكذا في ما بعد صارت مقالات وكتب أبو الوليد تصدر باسم: يوسف سامي اليوسف.
تغيَّرت الدنيا في سوريا كثيراً بعد عام 1982. قلت لأبو الوليد أني سأنقطع عن زيارته، فأنا لا أريد له المزيد من وجع الرأس.. لقد أصبحتُ مطلوباً وحالي واحد اتنين تلاتة إلخ.
قال لي: لا تقلق أبداً، فهذا بيتك، ونحن أهلك، ولست أنت من يحتاج لنصيحتي في كيفية مراقبة نفسك خارجاً.. أما في بيتنا فلا خوف.. للبيت منافذ عديدة للهرب عند الضرورة.
أبو الوليد قامة أدبية من قمم ما أعطت فلسطين، بل من قمم ما أعطى التاريخ العربي المعاصر، ولم تجانب الصواب الأديبة سلمى الخضراء الجيوسي حين اعتبرته سيد وكبير النقاد العرب. لحسن الحظ والتقادير والمصادفات أنه كان من خارج أوساطي السياسية والثقافية، وهو من جيل أكبر، ولهذا يصعب أن تتوقع الأجهزة الأمنية وجود علاقة وثيقة بيني وبينه. لذلك غالباً ما كنت ألجأ إليه، فهو صديق وأخ ومعلِّم، وأشعر في بيته أني بين أهلي.
ذات ليلة هانئة من ليالي عام 1986، وكنت في بيت أبو الوليد، جاء السيناريست “حسن سامي اليوسف”، الأخ الأصغر لأبو الوليد، ليقول وهو هادئ الملامح إلى حد يشيع الاطمئنان، أن عناصر الضابطة الفدائية التابعة لفرع فلسطين موجودون في بيت أخيه الأكبر “أبو النور”، يسألونه إن كان يعرف شيئاً عن فرج بيرقدار أو مكان سكنه، وأن أبو النور نفى معرفته، ولكنه أضاف أنه لو كان يعرف شيئاً عن فرج لما دلَّهم عليه.
في الحقيقة أنا وأبو النور صديقان، فهو شاعر علاوة على كونه قائداً عسكرياً لإحدى كتائب قوات العرقوب في حركة فتح، ولكنه عاد إلى مخيم اليرموك بعد أن خرجت المقاومة من لبنان تحت وطأة الاجتياح الإسرائيلي، ثم وطأة حرب الأسد التي شنها ضد منظمة التحرير، وبالتالي إخراج فتح وعرفات من طرابلس.
كان عليّ أن أغادر بيت أبو الوليد وفق الطريق الذي رسمه لي، ثم لأتحرك بعدها بهدوء، فلا بد أن العيون مبثوثة في الحيّ، وينبغي أن تكون حركتي اعتيادية لا تلفت نظر أحد.
بعدها لم ألتقِ بأخي أبو الوليد إلى أن أُفرج عني بعد 14 عاماً.
كان أبو الوليد بعد كل ذلك الزمن متعباً.. في الحقيقة كان متعَب القلب، متوقّد الذهن والذاكرة. يا لقلبه كم تحمَّل.
في عام 2003- 2004 كنت أدرِّس الأدب الجاهلي في جامعة ليدن العريقة في هولندا، تلك الجامعة التي نشرت الكثير من كُتبنا التراثية، مع وسم “طُبِع في مطبعة ليدن المحروسة”. لم يكن لي حينها مسعِف أكبر أو أهم من كتب صديقي أبو الوليد عن الشعر الجاهلي، وكم كان ذلك يجعل حنيني إليه آهلاً بالطراوة والندى.. أعرف أن قاموس أخي أبو الوليد يميل إلى استخدام لفظة الطراء بدلاً من الطراوة، وإلى جمع لفظة بعض على أبعاض، وإلى استيعاء بدلاً من استيعاب، وغير ذلك مما بات يُعرف بالقاموس اللفظي الخاص بأبو الوليد.
الآن، وبكامل بساطة الحياة والموت، والقوة والضعف، والحلم والواقع، والحرية والقسر، والورد والشوك، أكتب عن أخي أبو الوليد. كم كان زاهداً في الشهرة، دؤوباً على ما يمكث في الأرض، مترفعاً عن دكاكين السياسة ودكاكين الثقافة، ولهذا لم تكترث مؤسسات منظمة التحرير به في حياته الإبداعية، وبالطبع لم تكترث مؤسسات النظام السوري. قد يكون أول اكتراث رسمي به جاء بعد رحيله عبر رسالة من السلطة الفلسطينية لأسرته. لا أدري إن كانت السلطة الفلسطينية قد سمعت بهذه القامة الفلسطينية والعربية والإنسانية العملاقة قبل رحيلها، ولا أدري إن كانت حاولت دعمها أدبياً أو معنوياً أو حتى مادياً.. إن كانت لم تدرك ولم تفعل سابقاً فلتتفضّل الآن بإنصاف هذه القامة تكريماً ونشراً وإعلاماً وغيره مما يليق برموز فلسطين، بل برموز الثقافة العربية الكبار.
لقد جرشتْ روحي، وأنا في السويد، أخبار أبو الوليد وزوجته واضطرارهما، بعد قصف الأسد لمخيم اليرموك بالطيران الحربي في 16 ديسمبر 2012، أسوة بغيره من مدن وأحياء سوريا، ولا سيما بعد قصف شارع الجاعونة، حيث بيتهما، وقصف غيره من شوارع المخيم، إلى الرحيل مجدداً إلى مخيم نهر البارد في لبنان.
كم تمنيت لو استطاع أبو الوليد انتظار حلم المخيَّم، أو حلم سوريا، أو حلم فلسطين.
لم يستطع قلب أبو الوليد المزيد، ولكني آمل لقرَّائه وتلاميذه ومحبيه وأمثالهم أن يستطيعوا.