ينطلق المنهج النقدي عند يوسف سامي اليوسف نحو فضاءات جديدة، ويوظف قدراته المعرفية لكشف المستور داخل رؤية، وبأسلوبه هذا يعمل على إعادة الاعتبار لمدارات الأسئلة المنبثقة مع كل ظاهرة أدبية معاصرة، وبالذات الأسئلة التي يشغلها المشهد الشعري في إطار الثقافة العربية عموماً.
ولدى قراءتنا لإصداره النقدي: “القيمة والمعيار- مساهمة في نظرية الشعر” الصادر عن دار كنعان، وإطلالتنا على ما سبق من دراسات لليوسف في هذا المضمار نكون أمام حساسية نقدية تدخل صميم النصوص الأدبية، حين يأخذ بمنطلقات نظرية جوهرية قوامها القيمة والمعيار لأي نص أدبي مع انشغاله لسؤال الأسئلة بالنسبة للنظريات الأدبية، ألا وهو: “سؤال القيمة” عنوان الفصل الأول في مؤلفه، أضف إلى الفصل الثاني “الشعر والذائقة” والفصل الثالث بعنوان: “وظيفة الشعر”.
ومعروف عن الناقد اليوسف أنه راكم في منهجه مفاهيم أصيلة وغنية، وعمل على تأسيس بنية نقدية تساهم في تطوير نظرية الشعر ذلك من خلال إسهاماته ومتابعاته للمشهد الثقافي العربي وما يقدمه من اجتهادات معرفية متخصصة تنم عن ثقافة موسوعية، وعن مصداقية ونزاهة نقدية في إصدار حكم القيمة الناضج على النصوص الأدبية. ومع إعادة الاعتبار للمنهج التطبيقي لسؤال القيمة والمعيار نكون قد خرجنا من “صدمة” المدارس النقدية المختلفة داخل فوضى النخب المحدثة في المشهد الشعري تحت مسميات عديدة وأوهام مركبة، وكانت النتيجة التغريب والأزمة في صورة مزدوجة “أزمة النص – أزمة النقد”. وربما نتسائل هنا حين تأتي هذه المساهمات النظرية الأخيرة على قياس المشكلات التي تحيط بالأزمة والظواهر الجديدة، وتعطي إجابات واضحة لكل مسألة تدير سجالاً وأسئلة مطروحة، فهل بدأت النخبة النقدية تقترب من بلورة نظرية جديدة فاعلة مع المتغيرات المعاصرة والتي تترك آثارها الواضحة على المشهد الثقافي؟ وهل نلمس الآن ثمة تطور على هذه النظريات أكثر من أي وقت مضى؟ يأتي كتاب اليوسف وهو يقترح مشهداً نقدياً يتسم بالمرونة، أو يتحرك داخل هامش حر وفسيح بعض الشيء كما أنه يركز على إضفاء أهمية قصوى على الذائقة الفنية التي لا تقبل الاندراج إلا في المناهج الحرة، المهمومة بروح الإنسان وبقيمتها الأزلية، وبالجماليات.
ثمة تذكير يقدمه اليوسف للمزايا التي كان يتمتع بها الناقد التراثي، وهي لابد منها لكل ناقد خبير :أولاً – الذوق المرهف الحساس. وثانياً – أصالة النزوع المعياري. وثالثاً – القدرة على الموازنة. ورابعاً – غريزة التمييز بين الغث والسمين، مما يؤهله لإصدار حكم القيمة الناضج.
وعن الشعر وسؤال القيمة يقول المؤلف: “على أية حال، إن أول واجب من واجبات القصيدة هي أن تخلق شعوراً أصلياً في وجدان المتلقي، بحيث تجعله يتلمس إنسانيته على نحو يتعذر إنجازه بغير القصيدة حصراً. إذاً غاية القصيدة هي معيارها نفسه، وليس سواه” أقصد إنتاج شعور أصلي أو عميق، وهذا قول من شأنه أن يتماهى به، أما مع اشتقاق كلمة الشعر في اللغة العربية من الواضح أن الشعر هو الشعور ودون سواه كلتا اللفظتين من أصل واحد وهو الشعر”(ص14).
يصل المؤلف في منحى آخر إلى مقاربة القيمة لما يعتبره محتوى الشعر حين يستنتج: “ومما هو في حكم المؤكد أن الشعور البشري حتى في مستوياته العظمى شديد التنوع وكثير المنازع وغني بالمحتويات، بيد أن ذلك الصنف الذي يتألم أو يحن أو يكابد الحاجة إلى ما يتأبى على الاسترداد، بل ما يتعذر الحصول عليه بإطلاق هو أنبل الشعور البشري برمته”(ص 25).
ومع تبيان المؤلف التماهي بين محتوى الشعر ومحتوى النفس ومن شأن هذا أن يجعل القصيدة العظيمة شديدة الشبه بالأسطورة يقول: “لاريب من أن القصيدة والأسطورة إنما تنبثقان كلتاهما من أس واحد هو الخيال. والآن هل يملك المرء أن يتخذ من روح الأساطير معياراً لنقد الشعر أو لتأسيس قيمته، بحيث يصح الذهاب إلى أن الشعر الجيد هو ذلك الذي اندرجت في أعماقه محتويات أسطورية مستمرة تفعل، أو تؤثر، على نحو لاشعوري وحسب؟”(ص20).
وباعتبار أن الشعر واكب المشروع البشري منذ ما قبل التاريخ حتى يومنا هذا، ويأتي التأكيد بأن إنتاج الشعر ينطوي انطواء ضمنياً على احترام كبير لقيمة الإنسان وكرامته ومعناه، وعن الشعر واللغة يعرف اليوسف: “وبما أن الشعر إطلاق لاستطاعة اللغة، أو لقدرتها المتعالية، فإنه بكل توكيد فسحة حرية شاسعة ورائعة، وربما صح القول إن هذا العلو وهذه الحرية هما التفسير الناصع والمقنع لانتشار الظاهرة الشعرية في كل زمان ومكان، وينطوي هذا المذهب على أن إحالة اللغة إلى جمال أو نحتها كما تنحت التماثيل الفاتنة، هو شأن من اختصاص الشعر قبل سواه من فنون القول الأخرى”(ص34). وهنا يقترب المؤلف من اكتشاف منابع اللغة وجماليتها وتوظيف طاقتها توظيفاً في أعلى المستويات. أما عن نظرية الخيال في الشعر يورد الناقد اليوسف هذه المسألة باعتبار ذلك عنصراً لابد منه للشعر الناجح: “والآن يعلم الجميع أن الشعر الحديث قائم على مبدأ الانبثاق من الخيال، بل حتى التطرف في هذا المنزع، بحيث خرج الشعر من موقع الاستواء إلى توثين الشكل، ولا مراء أن الخيال برهة ماهوية في كل شعر نائياً عن التكلف والاصطناع. وممّا له دلالة عميقة أن يكون الصوفيون أول من فكر بتأسيس نظرية الخيال داخل إطار الثقافة العربية، وأن يكون الرومانسيون الغربيون أول من فعل الشيء نفسه في أوربا الحديثة، ولهذا فإن الخيال هو بيت القصيد في نظر الصوفيين والرومانسيين معاً”(ص35).
يركّز الناقد اليوسف في الفصل الثاني على موضوع الذائقة وهي تسهم إسهاماً كبيراً في إصدار حكم القيمة مع وجود وساطة بين الذوق والمعيار:” ولعل أهم ما في الأمر أن الذائقة ليست قوة سلبية أو حيادية تنتظر مجيء الأشياء إليها بغية التهامها والتلذذ بها، بل هي طاقة دينامية حية وشديدة القدرة على الاكتشاف والإبصار، وهذا يعني أن فاعلية معيارية تهدف إلى الالتقاء بالعناصر الجمالية الصانعة للمزية في كل نص أدبي تلامسه، أو تجعل منه شيئاً لأجلها، وعند ذلك بالضبط يصير النص شيئاً لأجل ذاته”(ص53).
ومما له دلالة واضحة في تركيز المؤلف على موضوعة اللغة: “والحقيقة أن الشعراء هم سدنة معبر اللغة، بل لا مبالغة في الزعم بأنهم هم اللذين طوروا اللغات ودفعوها من رحلتها الابتدائية أو التأسيسية إلى طورها المتاخم لحدود اللانهاية، ومما هو دال أيما دلالة أن الأديان الوثنية القديمة كتبت أساطيرها ومعتقداتها شعراً، فمن يقرأ نشيد الشمس الذي كتبه “أخناتون” في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، سوف يرى أن ذلك النص الديني العظيم لو كتب نثراً لما كان لائقاً بجلال النور وقداسته العالية”(ص72).
وثمة تأكيد أيضاً على أن الشاعر الأصيل يصادق اللغة ويكتشف طاقاتها بحيث تألفه ويألفها، ولدى قراءتنا لأطروحات الناقد اليوسف نعثر على استخلاصات هامة تقييمية وفق المعايير النقدية والرؤية التطبيقية التي جاء بها، فيؤكد اليوسف: “مما هو معلوم ان شعر الجيل الراهن ينبثق من الخيال أكثر مما ينبثق من الوجدان ومع ذلك فإن عصرنا هذا نادراً ما ينتج القصيدة البكر، والسبب أن شخصية عصرنا قد خسرت بكارتها، أوقل إن الحياة في هذا الطور الراهن قد خسرت الكثير من التلألؤ الذي كانت تتمتع به من قبل جيل واحد فقط”(ص85).
يقيناً إنه استخلاص جوهري لقراءة المشهد الشعري مع ما هو بديهي و برأي المؤلف: فإن الشعر لا يملك إلا أن يعاشر الحياة أو الموجودات العينية والوقائع وكذلك الأحداث التاريخية فهو في الحق شديد الحساسية تجاه أي حركة أوهزة تجدها على خارج السطح الخارجي أوفي جوفه العميق. ويؤكد اليوسف أيضا في منحى آخر على الاستخلاصات النقدية: “إن الشعر اليوم وهو الآخذ بالجفاف والانحدار، لا مخرج له من أزمته الحادة إلا إذا نهض بالمهمة العظيمة التي يتوجب عليه حملها بكل شرف وإخلاص وتتلخص هذه المهمة أو الوظيفة المعاصرة بتزويد الناس بجرعة منعشة، لعلها تخفف من وطأة الشعور بالإحباط والقنوط، ويتطلب الأمر أول ما يتطلب الكف الشعر عن التشاؤم المجاني وأن يتوقف عن الإحساس المعتل بكل ما هو هابط أو مرهون، اما الخطوة الثانية فخلاصتها أن يأخذ الشعر منحى ينحو صوب إنعاش الإنسان ببطولته الروحية. والمطلوب في هذه اللحظة الايحاء للناس بأن الحياة البشرية لا تملك بالأصالة ثم بالقيمة إلا إذا امتلأت بالعزة والكرامة البشرية بوصفها الغاية النهائية للوجود كله”(ص87).
ومع هذه الرؤية في صلب المنهجية النقدية لدى اليوسف لا يسعنا إلا أن نلامس هذه الفحوى مثل البلسم الشافي للجرح وهو الذي يؤكد على الحاجة الملحة إلى شعر قادر أن يتحسس حنين الإنسان، إلى ما هو صلب ومتماسك وذلك في زمن يخور ويتهافت ويتفكك.
كتاب اليوسف في منهجه النقدي يأتي في غاية الأهمية كمساهمة في نظرية الشعر ويعطي إجابات الواضحة على الأسئلة التي تطرحها الإشكاليات داخل المشهد الشعري. ترك لنا الراحل يوسف سامي اليوسف أعمال خالدة ومراجع لحكم القيمة والمعيار في حياتنا كما الشعر.