ما تبقى لكم

في ضوء رواية: ما تبقى لكم، غسان كنفاني

تبدأ الرواية مع قرص الشمس. “صار بوسعه الآن أن ينظر مباشرة إلى قرص الشمس”.

الشمس التي هي أم الحقائق جميعها. فلا ضباب تحت الشمس. ثم ننتقل إلى الصحراء. الأرض الواسعة. الرحبة. التي لا يمتلكها أحد. أفق إلى مالا نهاية، وإذا كان تحت الشمس أيضا، فهو الطُّهر بعينه. هي الحقيقة التي لا لبْس فيها ولا ضباب.

“واسعة وغامضة، ولكنها أكبر من أن يحبها أو يكرهها”. هو حامد. بطل الرواية. ذو العشرين سنة. ابن يافا المحتلة. القاطن في غزة. في أحد مخيمات غزة.

“وفي قلب الجدار الأسود الذي انتصب وراء الأفق أخذت المصاريع تنفتح واحداً وراء الآخر”.عندها فقط عرف أنه لن يعود“. لن يعود إلى غزة بعد أن قصد الصحراء إلى الأردن. “طوال ستة عشر عاما لفّوا فوقه خيطان الصوف حتى تحوّل إلى كرة، وهو الآن يفكّها”. يفك الخيطان، ما هي هذه الخيطان؟ قيود الزمن. قيود العار. حامد يشعر بالعار. يشعر بالذنب. المخيم هو العار. هرب منه حامد إلى الصحراء. إلى الشمس. إلى الحقيقة.

وتخطى غسان هذه المفاهيم العامة ليبيّن لنا المثنوية، اللعنة، التي أصابت كل فلسطيني. مثنوية الدنس والطهر. العلا والحطة. الفوقية والدونية.

“زوجتك أختي مريم”. “كل الذين كانوا هناك يعرفون أنه لم يزوجها، وأنها حامل، وأن الكلب الذي سيصبح صهره يجلس إلى جانبه يضحك في أعماقه”.

تبيّن لنا الرواية بأن هذا هو السبب المباشر الذي جعل حامد يقرر مغادرة غزة. عار أخته.

“لقد كنتِ كل شيء، وأنت ملطخة، وأنا مخدوع”. هذا هو العار. هذا هو الذنب الذي يحمله الفلسطيني. الأخت الملطخة، الأرض الملطخة. العِرض الآثم. الأخت، الأم، المحبوبة، الأرض، الوطن. تتداخل المفاهيم لتوصلنا إلى نتيجة واحدة. العار. الذنب.

فتحت له ودخل. فكّ أزرار قميصها فيما تظاهرت بأنها لا تشعر بشيء”. “لقد تركته يلوثها، أعطته نفسها في ربع ساعة مسروقة منه”.

الخيانة والغفلة. هي رواية التضاد. تقابل المتضادات. تقابل اللحظات.

حامد غافل وضعيف. لم يغسل عاره. اختار الهروب والابتعاد. هي خائنة. ملوثة. مدنّسة. هو قصد الشمس والأرض والطهر.

إلى هنا نجد غسان قد تحامل على مريم. مريم التي تعني الطهر والعفة والنظافة في الأديان السماوية. هل كان لاختيار هذا الاسم معنى و قصد؟

لكن غسان مع تتابع الأحداث في الرواية يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن غسان كان يُعنى بمظلومية المرأة في مجتمعاتنا. من ينظر إلى الرواية بشكل مسطح سيعتقد بأن الرواية نسوية. لكن من يحاول أن ينظر إليها بشكل عامودي. سيجد معاني أعمق.

كان ضئيلا بشعا كالقرد، اسمه زكريا، وكان بوسعه (حامد) أن يعتصره بين قبضتيه الكبيرتين، ولكنه كان عاجزا”. لم كان حامد عاجزا؟ عاجزا أمام من لوّث شرف أخته. زكريا “النتن”. “أوقفونا صفاً واحداً. كانوا يزجروننا تارة بالعبرية وتارة بالعربية المكسّرة، تقدّم الضابط ونادى سالم، الصف بقي مستقيما وصامتا، وفي اللحظة التالية اندفع زكريا خارج الصف وقذف بنفسه راكعا وأخذ يصيح: أنا أدلكم على سالم”. هذا هو زكريا النتن الذي كان حامد عاجزا أمامه. لم يعتصره بقبضتيه الكبيرتين بالرغم من قدرته على ذلك. هو الشعور بالعجز الذي يتبعه بالضرورة شعور الذنب والخسة. الاستكانة والضعة. “لو كنت أملك خشبة وشبر أرض لأعدمته”. هكذا حاول غسان أن يختصر علينا الطريق للفهم. الخشبة، القوة، الأرض، الجبروت، الثقة. “لقد قتلوا سالما وغدا قد يجيء دور أي منا”. أجابته مريم: “أنت لم تفعل شيئا. لم يقتلونك أنت؟”. “ولم تعرف أبدا أنها حمّلتني ذلا جديدا”. ” كنت جثة تتوهج داخل ثيابي”. الضعف والشعور بالذل والهوان، هذه سمات حامد. أما زكريا الذي حرمه سالم من أن يكون خائنا حقيقيا عندما سبقه وأظهر نفسه للضابط الصهيوني، لا يشعر بالذل ولا الهوان ولا الضعة.

لا بد لنا هنا من القيام بالمقابلة بين شخصيتي حامد و زكريا. زكريا الذي ما رأيناه طوال أحداث الرواية إلا وهو يضاجع مريم أو نائما ومريم توقظة. يمكننا أن نعود هنا إلى مثنوية الدناسة والطهر. زكريا يضاجع مريم وحامد مع الأرض الطاهرة تحت الشمس الحارقة: “استلقى على الأرض وأحس بها ترتعش كعذراء”. “غرس أصابعه في لحم الأرض وذاق حرارته”. إنني أختار حبك، إنني مجبر على اختيار حبك، ليس ثمة من تبقى لي غيرك”. حامد اختار الطهر والنظافة.

وزكريا الذي ضاجع مريم بالرغم من زوجته وأطفاله الخمسة. حملت منه المرأة ثم تزوجها، ثم طالبها بإجهاض جنينها. وما انفك يتقزز من الحمل ثم الولادة والإرضاع. هو الغوص في الدناسة ثم محاولة التبرئ منها. “ستتحولين إلى امرأة مترهلة ببطن منفوش. طوال عام كامل لن تكوني امرأة. مجرد زجاجة حليب”. “ستفقدين كل شيء عدا قطعة الصراخ تلك“. ” أنت أرض خصبة أيتها الشيطانة”. هو التافه الذي لا يرى في المرأة إلا الجانب الشبقي. لا يرى من الحمل والولادة إلا الدم والدناسة والنجاسة.

ومن اللحظة التي أراد لها غسان أن تكون مفعمة بالجنس والنجاسة ينتقل بنا إلى الأرض المحترقة إذن، فهو التطهر. يافا التي تحترق. تقابُل اللحظات، تضاد المعاني.

يافا “تحترق تحت شهب مذنّبة من الضجيج الملتهب”. ويكمل غسان التطهير. يذهب إلى مريم: “كنت أريدك امرأة شريفة تتزوج ذات يوم رجلا شريفا”. “سأقول لأمك أنك متّ وأنني دفنتك في سروال رجل نتن مع امرأة أخرى لديها منه خمسة أطفال”.

غسان لم يكن ضد المرأة، ولا حمّلها الآثام كلها، بل هو أرجحنا بين اللوم والرحمة، التبرئة والتجريم. “خلعتُ خمسا وثلاثين سنة من حياتي”. “عاري الوحيد في خمس وثلاثين سنة طاهرة ومخزونة”. ” كنت أتحول كل يوم إلى مجرد أم”. ” من أين يستطيع حامد أن يفهم؟ لقد كان رجلا رائعاً. ولكنه لم يكن أبدا إلا أخي”.ما الذي كنت تعتقده يا حامد المسكين؟ أن يظل المحراث محرماً على هذه الأرض الخصبة؟”.

لا يكتفي بتبرئة مريم، بل ويتعداها إلى لوم حامد أيضا:

“ليس باستطاعتك أن تكرهني يا زكريا، فأنت كل ما تبقى لي”. “أما هو فقد مضى”. حامد مضى إلى الطهر وترك مريم ترزح تحت وطئة الدناسة.

“لو كانت أمي هنا”. تتكرر هذه الجملة مرارا في الرواية. أم حامد لم تخرج من يافا. استشهد زوجها وضاع عنها ولداها. لم تصعد الزورق لأنه امتلأ. والزورق اللاحق لم يخرج من يافا..

الأم في عرفنا العام رمز الحنان والعطاء واللطف، هي الملجأ الحاني والرمز العفيف. “لقد جعل من أمه البعيدة ملجأ يؤمه”. “فارسا غائبا على استعداد ليشرع سيفه”. أم حامد غادرت يافا مع أخيها وأسرته إلى الأردن. وبما أن غسان يتعامل مع الحالة العامة هنا باللاطبيعية واللاعادية، وما صار الذي صار، ولا حدث الذي حدث لو كان أمرنا طبيعيا وعاديا: “هل أنت واثق من أنها لم تتزوج هي الأخرى”. “لو كانت أمك هنا”. إذن فرمز العفاف لم يصمد، والفارس كان وهميا، والفرس كان خشبيا. “كان عليّ أن أختار بين أن أمضي حياتي خادمة عند خالك وأولاده وبين زوج يشتري لي كفني وبلاطتي”. هي الأرجحة من جديد بين الإثم والبراءة، بين التجريم والتبرير.

ولم يسلم الأب أيضا من اللوم والتجريم:

كل ما أذكره من والدي مجرد ذراع: مرة تضاجع أمي، ومرة مضرجة بالموت. هذا هو والدي كله”. الأرجحة بين الدناسة والمثل الأعلى. بين الحطة والعلا. الطهارة والنجاسة.

يا حامد، يا ولدي الصغير، يا ولدي المسكين، أكان من الضروري أن ترتطم بالعالم على هذه الصورة الفاجعة”.

شخصيات الرواية خمس: حامد، مريم، زكريا، الساعة، الصحراء. كما قدّم الكاتب.

تدق وتدق داخل النعش الخشبي المعلق أمام السرير“. ساعة حائط معلقة أمام سرير مريم في الغرفة. كان حامد قد سرقها. لم يشترها. علّقها بشكل مستقيم على الحائط لأن هذا النوع من الساعات لا تعمل إذا كانت معلقة بشكل مائل. هذا هو الزمن. الدقائق التي تركض. الساعات التي تسجّل. الزمن الرابض الذي يسبب القهر والذل لغسان. حامد سرق الساعة حتى لا ينسى. حتى لا يسمح للزمن أن يسبقه ولا أن يفوته. هو لا يتأخر. ويجب علينا ألا نتأخر أيضا. “لقد منحتني هذا النعش. علقته أمامي. كي أدفنك فيه”. ” ولن يُدفن فيه إلا أنا”. “هذا النعش الصغير المعلق سيحتوينا جميعا”. كان لدقات الساعة أثر مباشر ودافع حقيقي لصحوة مريم، لانتفاضة مريم.. وكان لها أثر واضح أيضا لانعطافة حامد.

أما الصحراء فقد كانت تتكلم: “هو هنا في اتجاه خاطئ، ضده، وانصب بشكل يكاد يكون مستقيما نحو الجنوب متخلياً نهائيا عن التفكير، معتمدا على حواسه”. الانعطافة تظهر بحدة. الاستيقاظ قد نهض والتفكير قد تنحى جانبا. هاهو حامد يتخلى عن ساعة يده. يتخلى عن التفكير ويعتمد على الحواس فقط. يعتمد على الشعور فقط. يقصد طريقه إلى الجنوب. لكن ماذا في الجنوب؟ هي المعسكرات الصهيونية. تخلى عن الهوان والذل. عن الذنب والحطة. قصد الأرض. قصد الشمس. الطهر والتطهر. الاستفاقة واليقظة. ” مزيج من المشاعر التي تملأ قبضتي مغامر شجاع”. إلى الجنوب حيث لا مكان للزمن، ولا أهمية لوجود ساعة تدق وترن.. قالت له مريم: “ستظل أنت فقط خارجه (النعش) تكمل رحلتك التي لا تنتهي”.

“انهدم الجدار وأصبحنا ندّين”. استيقظ حامد ونفض العار عن بدنه وتخلص من سطوة الزمن. وظهر الجندي الصهيوني أمامه. “ليس لديّ ما أخسره الآن”.

“حملت أمي السر معها وتركتنا، ما تبقى لها، ما تبقى لنا”. ها هو الذي تبقى لنا: الصراع. ولكن، ما هو شكل الصراع الذي قدّمه لنا غسان؟

عثرتُ على رشاشه الحديدي. انتزعتُه وطوّحتُ به بعيدا”. “احتفظت بسكينيَ الطويلة”. حامد لم يسمح للجندي أن يشرب الماء القليل المتبقي في مطرته، ولا شربه هو أيضا. لمَ لم يشرب؟. لمَ لم يستعمل الرشاش الحديدي؟ هل هو العدل المطلق الذي يطالب به غسان؟. العدل والمساواة؟ عدل المواجهة.

الصراع تعدى حامدا إلى مريم..

هاهو غسان يطهّر مريم صراحة. “سوف أحكم على نفسي بالموت لو سمحتُ له أن يبصق منيّه فيّ ويمضي”. أراد زكريا أن يوقف رقاص الساعة من العمل لكن مريم منعته. “إذا أملناها قليلا لا يتحرك رقّاصُها”. مريم لا تريد لسطوة الزمن أن تنام، لا تريد لدفعة الزمن أن تنعدم، هي تطلبها، وتستقوي بها.. “كانت الدقات تحوم بيننا كطلقات رصاص قاتل”. ولا يسع الانتفاضةُ والنهوضُ العملَ بغير طهارة ونظافة.

“انتفض في أحشائي. ثم هطل في فخذيّ وركبتي”. الجنين قد سقط فتطهرت المرأة ثم رفضت التقاعس والنوم فطعنت زكريا. قتلته. لا بد للدم أن يسيل.

لم نرَ حامداً يقتل الصهيوني. لكننا رأيناه: “ثبّتُّ كتفيه بكفي. وضعت ركبتيّ على ظهره”. العزيمة والإصرار والعمل.. لا مفر من الصراع.. أما النتيجة فهي ملك للتاريخ. ملك للزمن.

“وأضاء شعاع الشمس المتسرب من النافذة”.

ما تبقى لنا. الصراع. النهوض. اليقظة. والشمس.

عن ربا شاويش

شاهد أيضاً

مملكة الغرباء

الرواية: مملكة الغرباء – الكاتب: الياس خوري الناشر: دار الآداب – الطبعة الأولى عام 1993 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *