“وأقول: يا ذل ترجاني بعيون سجاني .. ولا نقبل أنا واخواني.. معانا الله.”
استيقظت في السادسة والنصف من صباح السادس من أيلول..
الخبر: “الاعلام العبري يتحدث عن تمكن 6 من الأسرى الأمنيين من الهروب من داخل سجن جلبوع عبر نفق تم حفره. “
الأسرى هم:
– زكريا الزبيدي
– مناضل يعقوب نفيعات
– محمد قاسم عريده
– يعقوب محمود قدري
– ايهم فؤاد كمامجي
– محمود عبد الله عريده “
حفروا النفق، بدؤوا الحفر في ديسمبر 2020 .. لا يشبههم أحد ، خبوا أسمائهم، وتعلقوا مثل التحف.. مثل القمر.. مثل الخطر .. استمروا عشرة أشهر في الحفر، خرجوا واعينهم تلمع مثل نجوم بلادي من النفق، كانوا ضوءه.. كانوا وهج الضوء يقول الشاعر اللبناني حسن عبدالله في قصيدته صيدا:
حفروا في الأرض.. وجدوا رجلا آخر يحفر في الأرض!!.
وكتب فاروق جويدة:
إغضب فإن الأرض تحني رأسها للغاضبين
الأرض تحمل.. فاتركوها الآن غاضبة ..
ففي أحشاءها سخط تجاوز كل حد
إن للأوطان سرا ليس يعرفه أحد.. إغضب ولا تسمع أحد.
ويحفر زكريا واخوته الأرض كلما شح أفق وضاق (بالملعقة).. بحثا عن الشمس، فيطلعون على الضوء.. على الريح وعلى الشمس، فعندما يجتمع الرجال وتطلع الشمس تعاهدهم على الحرية، ويكونوا وهجها.. هذه المرة حفر فدائيوا الأرض في المعلقة ولقنوا العدو درسا لن ينساه، المرة القادمة ستكون بالشوكة والسكين بإذن الله.. سنعلمهم اتيكيت الحرية. والأرض كل الأرض من نهرها لبحرها، بشعبها القابع تحت الإحتلال وشعبها اللاجئ بفعل الإحتلال في كل الأرض.. بحجارتها وسهولها وجبالها ووديانها وهضابها.. ببحرها ونهرها.. بسماءها، تنادي على كل بطل من أبطالها الأحرار وهي تذرف دموع الفخر: “ليديك، كم من موجة سرقت يديك.. من الإشارة وانتظاري؟!”؛ ويغني الشيخ إمامك ” يا فلسطينية “.
انطلقوا رغم العذابات اليومية لكل تلك السنين الطويلة، خبأوا أخر ما حفظته ذاكرتهم في زمن الحرية.. انطلقوا في سهل مرج ابن عامر.. يتنفسون الحرية ويأكلون صبر البلاد الذي غاب هن بعضهم أكثر من 22 سنة، والمحتل وكلاب أثره وكأنها تدوس الجمر بحثاً عنهم .. وتبعد دعسات الأبطال ، هم جبال الجليل يغنون لسحابات أعمارهم، التي تعري متى وأين وكيف تروي الوطن، لا يهمسون مستحيل .. فهم جبهة يافا وصدر حيفا. لا الريح تحاسبهم ولا الرمل الأصفر ولا أمواج ساحل فلسطين، وصلوا منطقة الناعورة ودخلوا المسجد، وتفرقوا منه الى ثلاثة مجموعات، كل مجموعة فيها اثنان.
زاحفين زاحفين فوق كل شبر من أرضنا يا أرضنا زاحفين .. صلينا .. وعبينا بقلوبنا ارادتنا وكأنها جعب تمتلئ بالرصاص .. زاحفين زاحفين .. بُسنا الزرع والطين.. نزلوا ستة رجال .. مثل الشجر واقفين.
كل القلوب قبلتها الأن بيسان.. لو بقي من الجيل القديم ” جيل ستي وستك ” احد على قيد الحياة، لدعوا عند سماع الخبر:
” يا ناصر الستة على الستين.. تحمي شباب فلسطين”!!.
يا ناصر الستة على الستين..
دعاء كان دارج على لسان ستاتنا.. عندما تريد الواحدة منهن أن تدعو لحاجة ما.. ترفع يدها وتقول: يا ناصر الستة على الستين!!.
خطر لي هذا الدعاء بعد نجاح اسرانا الستة من تحرير أنفسهم والخروج من سجنهم إلى الحرية.. وقمت بالبحث عنه وعن أصل روايته. مقولة يا ناصر الستة على الستين هي من الموروث الشعبي لطائفة الموحدين الدروز، وتقول الرواية حسب عدة مصادر درزية:
أنه في قديم الزمان عندما كان للسيف الحكم والسلطان والقول الفصل، سافر سته من الصالحين الموحدين الدروز في قافله تجاريه في الصحراء، وفي الطريق هاجمهم ستمئه من قطاع الطرق.. لم يرتجف المسافرون الستة ولم يستسلموا ثبت المدافعون، وقاتلوا بشراسة ثم رجعوا فهم قله اما كثره، والكثره تغلب الشجاعه!!.. ظنه المعتدين تكتيك!… سالوا الله العون والفرج، من اين ياتيهم الفرج والعون وهم في ارض مقطوعه؟! واستعدوا للموت، وما هي الا برهه حتى تقهقر المعتدون مولين الادبار تاركين وراءهم قتلى وجرحى. دهش الموحدون الستة من هذا النصر السريع, وحمدوا الله كثيرا. ولما سالو احد الجرحى عن سبب فرار رفاقهم , قال وهو يتلعثم من الخوف والدهشه:
” لم يكسرنا الا ذلك الفارس الاحمر خيال الفرس الاحمر, الذي كان يضربنا بسيف من نار ولا تؤثر فيه حرابنا وسيوفنا!!. “
علم الصالحون الموحدون حسب الرواية بأن الله استجاب الى دعائهم وأن منقذهم هو سيدنا ابراهيم عليه السلام. ومن ذلك الحين صار الموحد ينادي عندما يقع في ضيق :
يا ناصر السته على الستين.
هذا الفارس الأحمر والنبي ابراهيم في رواية الموحدون الدروز تشكل اليوم على هيئة فدائي فلسطيني لا يرتاب من موت ولا كفن ابحر بلا سفن بعد ان أحرق كل مراكبه التي قد تمنعه من التقدم.. نزع القيد المكبل به وشق طريق الحرية عبر نفق.. كان هذا الفارس الاجمر زكريا ورفاقه.. الذين تكاملوا في وطن الأنبياء، وقد أصبح كل واحد فيهم نبي له تابعين في كل الأرض، يضربون المثل بجسارتهم وتوقهم للحرية.. التي نالوها!!… هذا النبي الذي قابل مثله الرئيس الراحل ياسر عرفات في الهند.. ولكن ليس نبي بل اله!!، عندما دعت انديرا غاندي عرفات لزيارة الهند لإقناع هذا النبي الذسي يتبعه عشرة ملايين بان تنتخب طائفته انديرا.. هذا الاله الفلسطيني الذي جاء طالباً الى الهند فضاقت به السبل فعمل خادماً لاله معبد، توفي فورثه الفلسطيني لانه اكثر خدمه التزاماً، عندما سأل ياسر عرفات الاله عن اتباعه، اجابه بغرور عشرة ملايين.. رد عليه ياسر عرفات: أنا رئيس على شعب الواحد فيهم اله يتبعه عشرة ملايين!!.
ينطلق الأبطال فوق أرض بلادهم وتحت سمائها .. لأول مرة منذ الأسر بعد ان كانت الأرض أرضية السجن والسماء سقف من السيراميك.. الان هم أحرار يعبون هواء فلسطين وتحضنهم.. حضن العاشق. منعتهم التعزيزات الهائلة لجيش كيان الثكنة العسكرية من الدخول ابى الضفة وقراهم ومخيماتهم فيها، وحاولوا عدم الدخول الى القرى والمدن والتجمعات العربية الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 48 خشية على أبناء تلك المناطق من العقوبات التعسفية الإرهابية من قبل قوات الإحتلال الصهيوني.
هؤلاء الاطفال الذين كانوا يوما ما أطفالاً لم يألفوا إلا مشاهد الدمار.. ظن الإحتلال أنهم مع مر السنين سينسون.. ولكن.. كان لزكريا ورفاقه رأي أخر وفعل اخر.. زكريا الذي هدم بيته وهو طفل ورفعت عائلته علم فلسطين فوق الركام وهي صامدة في قلب مخيم جنين، حالها حال الألاف من العائلات التي قدمت الغالي والنفيس كرما لعيون فلسطين. زكريا التي استشهدت بعدها والدته واستشهد شقيقه، وكان جده لوالدته محمد الجهجاه من رعيل ثوار فلسطين الأول قد خرج من نفس السجن في جلبوع بنفس الطريقة في تموز من عام 1958 ، فانخرط مدافعاً عن مخيمه ووطنه في صفوف كتائب الأقصى مع بدايات انتفاضة الأقصى.
التنين الذي هزم الصياد؛ زchريا المخيم.. فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْنفق ” محراب الحرية “.
تغني نساء العراق في أول أحد من كل شعبان:
“يا زكريا ..عودي عليه .. كل سنة وكل عام .. انصب صينية.. الله يرزق كل محروم صينية زكريا “. ليلة زكريا تلك الليلة التي أضحت تقليداً لدى النساء اللاتي لم ينجبن، أو من لم يرزقن بالذكور من الأبناء، أو حتى لتحقيق أي أمنية أخرى منشودة. وتعود طقوس وعادة ليلة زكريا إلى قصة النبي زكريا عليه السلام، الذي استجاب الله لدعائه.. ورزقه بيحيى بعد أن اشتعل الرأس شيبا!!.
وزكريا الزبيدي ورفاقه ينقبون الأرض ويصعدون من بطنها، يعلنون ميلاد جديد لهم.. بعد أن أراد المحتل سلب حريتهم وجعل مسيرتهم الثورية عاقر بأحكامه المؤبدة.. فتعود أرض فلسطين تحملهم في رحمها وتنجبهم مجددا وتحضنهم في جغرافيا فلسطين.. ترضعهم حليب الأرض وبارود الرفض.
كانوا ستة رجال.. كأشجار فلسطين ونخل بيسان.. جذورهم ضاربة في الأرض وجباههم في السماء.. شقوا طريق العزة بعد أن كسروا قيد المذلة.. نسفوا سجنهم وانطلقوا عواصف عبر النفق حتى وصلوا النور. فتغني صبايا المخيم وكأنها ليلة حناء في عرس نصر فلسطيني.. يغنين أغنية العراق:
” يا زكريا .. عود عليه .. كل سنة وكل عام.. انصب معلقة.. الله يرزق كل أسير معلقة زكريا “.
الثورة تتجدد وتنطلق من عتم الزنانين في ليالي فلسطين، من رحم أرضها ومن تحت سماءها التي ينيرها قمر فلسطيني ونجوم فلسطينية .. يهتدي بها الأبطال السائرين في درب اسلافهم رعيل العاصفة الأول، الذين خرجوا من مخيم اربد ليعلنوا انطلاقة الثورة الفلسطينية، كان أحمد موسى الدلكي ورفاقه يحملون مشاعل الفداء وفلسطين كلها مقابلهم.. اليوم ولد زكريا والرفاق في انطلاقة جديدة لثورة أحمد موسى والشهداء.. فهتف الدلعونا في ليلتها لزريف الطول :
الليله عيد راس السنه الليله مروا من هنا
وصلو النفق احمد سبق
وصلو النفق احمد سبق
احمد زحف تحت الجسر اعطى الاشارة للرفق.
وتشتد العاصفة ويعلو صوت زمجرتها على شفاه اللاجئين:
“أحمد نطق بأول طلق .. وأثبت ارادتنا
أحمد شهق وصى الرفق .. تا يعلوا رايتنا.”
لبسوا الكفافي ومشوا .. وغطوا وجوههم .. تلثموا بالأرض وتسلحوا بتضحيات أجيال على طريق النصر.. هذا الطريق وهذا العرس الذي هتفت له الجماهير واصطفوا بحلقات الدبكة فرحين وتمايلت لأجله صبايا الحي والمايلات العصايب وزغردت له ام الجدايل.. حري بنا أن نحتفل به في أول اثنين من كل أيلول .. كما يحتفل أبناء العراق بيومهم في الأول من شعبان!.
وذاكرتي تنقرها العصافير المهاجرة الحزينة.. لم تنسى شيئا غير وجهك.. كيف ضاع؟! و أنت مفتاحي إلى قلب المدينة!!...
لم ينسوأ تفاصيل الماضي وحفظوا بلادهم عن ظهر قلب، خرجوا لملاقاة احبتهم، مروا بمرج ابن عامر وبوادي الفاخورة في الناصرة.. وفي أطراف حيفا في المنسية.. في حوزتهم راديو ترانزستور صغير يسمعون أخبار خروجهم للحرية وردود الأفعال من خلاله. خمسة ايام وهم طليقي الحرية، إلى أن تمكنت شرطة الاحتلال من اعتقال اثنين من الأسرى الأبطال اولا قرب اكسال في الناصرة، وفي نفس الليلة اثنين أخرين في مضارب عرب الشبلي قضاء الناصرة.
يقول أحد الأسرى محمود العارضة : ” كنت أرتدي جوارب ابنة شقيقتي طيلة الأيام التي عشتها حراً خارج السجن ” .. ومن ثم يبرق سلام لشقيقته التي تسكن في غزة. يا لهذه البساطة التي تتفجر لها قنابل من الشعر في محاولة لوصفها .. فتعجز .. يذكرني هذا الموقف، عندما كانت الدائرة الإجتماعية في منظمة التحرير توزع اكياس موشحة بالعلم الفلسطيني على أبناء المخيمات إبّان العمل الفدائي لإرسال الهدايا الى الفدائيين في قواعدهم وكانت عشوائية أي بدون معرفة مسبقة بين المرسل والفدائي وأذكر هذه الرسالة من فيلم ” ليس لهم وجود ” والرسالة البسيطة من الطفلة عايدة من مخيم النبطية أرسلتها إلى احد فدائيي فتح في القواعد.:
“خيا الفدائي الشجاع . . .
لما عرفت انه الأخوة في الشؤون الإجتماعية , بوزعوا أكياس مشان يوصلوا فيها هدايا و رسائل للفدائية من أهل المخيم , فرحت كتير لأني من زمان كنت بدي أودي رسالة و هدية لأخواني الأبطال الشجعان … أنا إسمي عايدة الشيخ , عمري ” عشر سنين ” بعيش مع أهلي بمخيم النبطية , بس إحنا أصلنا من فلسطين من الكابرة , في إلي خمس أخوة , أخوي الكبير بدرس بمصر و أبوي بشتغل عشانه , أرسل لك يا أخي العزيز , هدية بسيطة ” مـنـشـفـة ” , أتمنى أن تعجبك , كان بدي أرسل لك إشي أحسن , بس هاي اللي قدرت عليه . . .إنتوا بتستاهلوا أيها الأبطال أحسن شي في الدنيا , لأنكم ” تفدون أرواحكم في سبيل فلسطين ” . . . و أخيرا سلامي لجميع الفدائية الأبطال , و مئة الف حمل سلام من اخوتي الصغار و الكبار . . و السلام ختام .
أختك . . عايدة الشيخ _ مخيم النبطية .”
يقول أحد الأسرى، بعد ان عادوا اعتقاله: تأثرت كثيراً وأنا أستمع الى اخبارنا من راديو الترانزستور الى تلك السيدة التي قالت : ” والله انهم رجال ، الواحد بألف زلمة “. ودمعت عيناه وهو في شموخ، ويكمل: تأثرنا كثيرا عندما شاهدنا الحشود أمام الناصرة، أوجه التحية لأهل الناصرة، لقد رفعوا معنوياتي عاليا”. .. واستطرد: “أحيي كل جماهير شعبنا على وقفتهم المشرفة”.
حينما دخل الأبطال محكمة الإحتلال.. كانت جماهير الناصرة تصرخ: ” يا أسير يا بطل يا رمز المعتقل “، وجماهيرالفلسطينيون في حيفا تساندها باعتصامات غاضبة تطالب بحرية الأسرى.
هذه الحادثة ضج العالم بها، بكل قاراته .. في الهند قرأت خبراً: فلسطينيون يهربون من أكثر السجون تحصيناً في العالم بعملية تشبه فيلم ” الخلاص من شاوشنك ” الهوليودي. ودول أخرى في شرق أسيا وأروبا، مجدت العملية واصفة سجن جلبوع بسجن الكترازا الامريكي السابق والذي انهار بعد الفضائح التي لحقت به!!.. وفي إيطاليا وتحديداً في جنوبها، في بلد بركان فيزوف (نابولي).. كتب احد العاشقين على جدران نابولي:
” انتِ جميلة متل الفلسطينيين الستة الي هربوا” .
خمسة أيام والكيان الأكثر جهوزية في العالم يلاحق ستة أشخاص لا ناصر لهم الا الله ولا يتسلحون الا بإرادتهم وبإيمانهم بقضيتهم .. خمسة أيام وهيبة الاحتلال تداس بالأحذية.. خمسة أيام والشعب متوحد في كل مكان خلف الأسرى العزل!. في خمسة أيام سطر ستة أسرى خرجوا من سجون الإحتلال رغما عن أنف الإحتلال وبقرار لا يتقنه إلا الأحرار.. سطروا ملحمة فلسطينية جديدة.
ونقولها لأسرانا الأبطال، كما قال مظفر النواب : ” إن كنت حياً أيها الأسير بسجن.. وان كنت حياً، شهيداً بقبر.. فأنت بيننا حرية عارمة.. ثورة عارمة”.