لارا مارلو
ترجمة : محمود الصباغ
عندما توفي الصحفي البريطاني روبرت فيسك إثر إصابته بجلطة دماغية في مستشفى سانت فينسنت في دبلن في الثلاثين من تشرين الأول من العام 2020، كنا قد انفصلنا -هو وأنا- منذ نحو 11 عاماً، وقبل ذلك لم نكن نعش مع بعضنا البعض لفترة أطول من ذلك. وقد عدنا للعيش معاً في العام الذي توفي فيه، عدنا لبعض مرة أخرى بذات كثافة السنوات التي جمعتنا على وجه التقريب. وكنت قد شرعت، في الشتاء الماضي خلال فترة الإغلاق بسبب كورونا، بكتابة المسودة الأولى لهذه المذكرات التي أعطيتها عنوان “حب في زمن الحرب” في قرية هوث من ضواحي مقاطعة دبلن، واستغرق مني إعداد المخطوط الأولى حوالي ثلاثة أشهر ونصف تقريباً، على أن حرصي على كتابة هذه المذكرات لم يكون مدفوعاً بالوباء، بل تأثري العميق برحيل روبرت كان الدافع الحقيقي وراء ذلك بكل تأكيد. لقد كانت رحلة طويلة وشاقة لاشك.. وهكذا، وحيث أن لكل شيء بداية، فسوف تبدأ حكايتي بُعيدَ دفن روبرت في مقبرة كيلترنان في مقاطعة دبلن، حين بعثت مقالاً لصحيفة “ويك إند ريفيو إيريش تايمز Weekend Review of The Irish Times”، فاتصل بي وكيل أعمالي، جوناثان ويليامز، ليقول إن نيل بيلتون، الناشر الإيرلندي لـ Head of Zeus التي مقرها في لندن، وموزع الكتب الإيرلندي سيمون هيس، يبديان اهتمامهما بنشر مذكراتي على ذات منوال ما ورد في مقالي. وقد رفضت الأمر، في البداية، وقلت له بالحرف الواحد: “لا”. فكنت مازلت أعاني من وفاة روبرت، واعتقدت أن كتابة مذكراتي سوف تكون غاية في الألم. ولكني وجدت نفسي، ذات صباح وأنا أمشي في حدائق التويلري في باريس، أقوم بتأليف الكتاب في رأسي، وهنا أدركت أنه لن يهدأ لي بال حتى أنتهي منه، وهذا ما فعلته فعلاً، فاتصلت بجوناثان مرة أخرى، ثم أمضيت أسابيع أجمع المذكرات وكتب روبرت وكتبي والمراسلات والصور الفوتوغرافية والمقالات التي كتبتها بين عامي 1988 و 2003 ، وهي السنوات التي عملنا فيها معاً، روبرت وأنا.
وما إن انتهيت من هذا حتى وجدت نفسي أطير من باريس إلى دبلن وبحوزتي لا يقل عن 50 كغ من المحفوظات والمواد الأرشيفية، ثم قمت بفرزها بترتيب زمني. وكان من البداهة، بالنسبة لي أن تكون بنية الكتاب مشغولة على البدء بلحظة وفاة روبرت وأن تنتهي بصدفة لقائي الثاني والأخير به في العام 2019.
وكذا فقد تراكم أمام ناظري على سرير غرفة الضيوف أربعة عشر رزمة من الوثائق: اشتملت على فصلي المقدمة والخاتمة و 12 فصلاً آخراً تلخص حياتنا كصحفيين وعاشقين عشنا عمراً في لبنان والعراق وإيران والمملكة العربية السعودية والجزائر ويوغوسلافيا السابقة.
كان أول لقاء لي مع روبرت في دمشق قبل نحو أربعة عقود. وأنا لستُ، في العادة، من الأشخاص الذين يرغبون التحدث عن الماضي، لكن تأليف هذا الكتاب جعلني أقدر حقيقة مقولة ويليام فوكنر: “الماضي ليس ميتاً.. بل أنه ليس ماضي حتى”. وما كان عليّ سوى إلقاء نظرة على الرسوم الكرتونية التي تركها روبرت على مكتبي، وفاتورة “القبعة الطائشة” التي اشتراها لي في روما في العام 1987، وإيصال باقة زفافي في نايتسبريدج بعد 10 سنوات، حتى أقر بمقولة فوكنر.. فكل هذه الأشياء جعلت قلبي يخفق بقوة شديدة. لقد عاد لي ذلك الماضي مرة أخرى، بقوة لا تخفت ولا تتضاءل.
بقيت رسائل روبرت في مكانها، كما هي على حالها دون أن ألمسها لعدة عقود، لكن قراءتها من جديد أعادتني إلى العام 1987 في مانهاتن، وإلى باريس في أوائل القرن الحالي. وإذا كان الكاتب شخصاً مقدّراً لحياته أن تنتهي بكتاب، فإن هذه التجربة حوّلتني، لا ريب، إلى كاتبة.. إلى مثل هذا النوع من الكُتّاب. وقد بدأتُ في إعداد بعض الفصول وأنا في حالة من الذعر تقريباً مخافة نسيان أمر من هنا أو هناك، غير أنني حالما بدأت أقرأ أرشيفي وأنا أتجول على شاطئ البحر الأيرلندي، بدأت الصورة تكتمل في ذهني، تماماً كما لو أنها مرسومة وفقاً لترتيب مسبق حسب الأرقام والرموز. فكنت أرى نفسي في نهاية كل فصل.. أجل كنت هناك: أتجول في الجزائر العاصمة مع روبرت، بحثاً عن العناصر المتشددة من تنظيم الجماعة الإسلامية المسلحة الذين يجزون الرقاب؛ كنتُ، معه هناك، تحت القصف في بيروت وبلغراد وبغداد. ففي نهاية المطاف، لم يضعف مرور عقود الزمن ذاكرتي. بل لعلها جلبت لي قدراً من الانفصال وميزة التبصر والإدراك المتأخر بما يشبه المنظور التاريخي. ومع مرور الوقت، عدت إلى باريس في أواخر نيسان، وشعرت كما لو أنني لم أمضِ ثلاثة أشهر بل ثلاثة عقود ونصف. كنت أرتحل عبر الزمن، وأعود إلى نقطة البداية. كانت التجارب التي عشتها خلال تلك الفترة، قوية للغاية، حتى أنها كادت تمسح ذاكرتي العقلية، لدرجة أني نسيت رموز باب المبنى حيث أسكن وأرقام التعريف الشخصية الخاصة ببطاقات الائتمان. كان علي منح نفسي دورة تنشيطية في السياسة الفرنسية التي أغطيها لصالح الصحيفة.
لم أحاول كتابة سيرة ذاتية لروبرت، رغم اعتقادي أن الكتاب يقدم صورة دقيقة عنه. فهو يحكي قصة عقدين يمتدان بين أول لقاء لي معه في بداية ثمانينيات القرن العشرين وغزو العراق في العام 2003 الذي كان آخر حرب غطينا أخبارها معاً. أردت من هذا الكتاب أن يكون قصة عقدين من الحب والمغامرة، وهو كذلك جزئياً على طل حال. ولكن الظلم والمجازر والمعاناة التي سجلناها في الشرق الأوسط ويوغوسلافيا السابقة، وكذلك طلاقنا وزواجنا مرة أخرى، أحذت تلك القصة مراراً نحو بؤرة مأساوية. ولطالما خشيت من كره روبرت لي لو يعلم بتأليفي هذا الكتاب. ليس جميعه؛ كان من الممكن أن يسعده حين يسمعني أقص لكم حكايات عن شجاعته الاستثنائية وعبقريته الصحفية. لكنه ربما كان سيعترض على فقرات عن حياتنا الخاصة وعن الألم الذي تسببنا به لبعضنا البعض. غير أن ما يجعلني أشعر ببعض الراحة والطمأنينة أن ظهور روبرت، بشكل بارز، في مقالاته الصحفية. بمعنى أن موهبته الأدبية، جعلت من كتاباته قطعاً نثرية رائعة بشكل لا يمكن لأي قارىء مقاومتها. وكثيراً ما كان يستحضر طفولته ووالديه، وخاصة دور والده في الحرب العالمية الأولى. روبرت، في الحقيقة، شخص لا يمكنه مقاومة إغراء سرد قصة جيدة، حتى أن حياتي نفسها كانت معه أكثر من قصة رائعة تستحق من يرويها ويكتبها.. وهذا ما نويت القيام به حقاً. كانت علاقتنا والأحداث التي عشناها بمثابة قطعاً متشابكة، بحيث لا يمكن سرد جزء دون جزء، والحديث عن قطعة وإغفال أخرى. لم يكن وجودي في بيروت في السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية منطقياًـ إذا لم أفهم كيف استطاع روبرت إقناعي بترك مانهاتن -وزوجي الأول- للانضمام إليه في العام 1987.
ورغم عملي كصحفية قبل التعرف على روبرت، إلا أن سنواتي الأولى معه كانت بمنزلة فترة تدريب مهني في العمل كمراسلة حربية، وهو ما أطلقت عليه بمزاح “مدرسة فيسك للصحافة”. على أنني، لم أكن لأجد نفسي في الخطوط الأمامية في لبنان والخليج ويوغوسلافيا السابقة لو لم أحبه. وما إن حان موعد سفرنا، معاً، إلى بغداد في العام 2003، لتغطية الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، كان زواجنا قد بدأ يتعثر. وكثيراً ما كنت أمازحه بالقول أننا شركاء في الصحافة أكثر منا زوج وزوجة. وقد مكنتنا تلك الشراكة، في واقع الأمر، من إنقاذ ما يمكن إنقاذه من صداقة واحترام متبادل، بصورة أفضل مما قد تقدمه علاقة زواج محطم أو يكاد. كان روبرت يدفعني في بعض الأحيان للارتباك والغضب، وقد جرحني بعمق وشدة. نعم هو كذلك، فأنا لا أكتب هنا سيرة مقدسة. لكن الصعوبات والمتاعب الشخصية التي كنا نواجهها لم تقلل من إعجابي به كصحفي. وكما قال شقيقي بوب بعد وفاة روبرت، “لقد كسب روبرت نجاحه يجهده الشخصي”.
يقول باتريك كوكبيرن، الخبير البارز في شؤون الشرق الأوسط، وصديق روبرت، في خطابه الاحتفالي بكتابي، كان روبرت أفضل مراسل عرفه على الإطلاق. وأثنى باتريك على كتابي بقوله “يُظهر كيف كان روبرت كذلك”. وفي الحقيقة، امتلك روبرت موهبة التواجد في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. وبالإضافة إلى امتلاكه حدساً لا يخطئ ويقرب من الكمال، فكان يكمن وراء حظه الجيد المشهور، أسلوبه الجاد في العمل والخبرة المتراكمة عبر عقود. لقد كان مستعداً للتخلي عن النوم والطعام وجميع وسائل الراحة من أجل “القصة”. لقد تعمق في كل قصة بشكل أكثر بعداً وعمقاً وإصراراً مما فعل كان يفعل منافسيه. لم يكن هناك شيء يمنح روبرت متعة أكثر من تسجيله سبق صحفي، أو الفوز بجائزة صحفية أخرى. كان يقول إن الجوائز الصحفية تحميه من أعدائه، وقد نال منها 18 على الأقل مرصوفة على رفوف مكتبته في ديلكي \ دبلن.
اتهم روبرت بمعاداة السامية، بسبب تصويره اللاذع لمعاملة إسرائيل للفلسطينيين واللبنانيين، كما شكّك النقاد، لعدة عقود، في صحة تقاريره بحجة أنه عدم رؤية ما يرويه ويصفه. لقد تمكن من الوصول إلى مدينة حماة السورية عندما كانت تحاصرها القوات الحكومية في العام 1982. ومع ذلك ادعى الصحفيون الغيورين أنه يكذب. وعندما قابلنا عماد مغنية، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، في طهران في العام 1991، ادعى رئيس وكالة أنباء غربية في بيروت أننا اختلقنا هذه المقابلة، ولو لم يلتقط صورة مع أسامة بن لادن في أفغانستان، لكان بلا شك موضع اتهام بتلفيق ذلك أيضاً. وسوف نتذكر روبرت، باعتباره الصحفي الذي أجرى ثلاث مقابلات مع بن لادن، وظهرت هذه المقابلات بعد لقائنا مع الصحفي السعودي جمال خاشقجي في الجزائر العاصمة في كانون الثاني1991. وكان روبرت قد أدرك، قبل عشر سنوات من هجمات 11 سبتمبر الفظيعة، أهمية بن لادن. وسوف يُقتل خاشقجي، لاحقاً، على يد أتباع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في تشرين الأول 2018.
مما لا شك فيه أن وفاة روبرت، كانت ستكون مدعاة لمهاجمته من قبل عدد قليل من زملائه الحاقدين، وقد أتى كتابي هذا كنوع من الدفاع، ولو جزئياً، عن إرثه الصحفي، فضلاً عن كونه تكريماً لمهنتنا التي لطالما أسيء استخدامها والتي لطالما كانت موضع شبهة واتهام. ونحن لا ننسَ موت ثلاثة مصورين تلفزيونيين عملنا معهم -وهم أوليفييه كيمينيه وجوزيه كوسو وتاراس بروتسيوك- أثناء تغطينا للأحداث في أماكن متفرقة.. في الجزائر العاصمة وبغداد. وكثيراً ما كان روبرت يقتبس قول الصحفي البريطاني نيكولاس تومالين، الذي قُتل بصاروخ سوري في إسرائيل خلال حرب تشرين 1973: “الصفات الوحيدة الأساسية للنجاح الحقيقي في الصحافة هي امتلاك دهاء الفأر، أي أسلوب العمل المقنع والقليل غير المتكلف في استخدام القدرة الأدبية”، كان روبرت شخصاً مسالماً ومتحمساً للسلام في أي مكان، كانت أعظم صفة يمتلكها كصحفي تكمن في تعاطفه العميق مع ضحايا الحروب التي يغطيها، وغضبه تجاه الحكومات التي تهاجم شعوبها. وكثيراً ما كان يردد بأن الحرب شريرة بطبيعتها، وتعبر عن الفشل التام للروح البشرية.
لم يكن روبرت من النوع الذي يدع قصة تهرب منه قط. وكان حتى وفاته، في العام الماضي، قد أمضى 45 عاماً -ما يقرب من ثلثي سنين عمره- في بيروت. عاد مرات عديدة إلى صبرا وشاتيلا، مسرح مذبحة العام 1982 التي راح ضحيتها حوالي 1700 لاجئ فلسطيني على يد ميليشيات لبنانية مدعومة من إسرائيل.
في 18 نيسان1996، كنا قد وصلنا إلى مقر الكتيبة الفيجية العاملة في إطار قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان وذلك بعد دقائق من وقف إسرائيل لقصف مدفعي استمر 17 دقيقة أسفر عن مقتل 106 مدنيين لبنانيين. لقد كان شهد ذلك اليوم أسوأ ما رأيته في حياتي. كانت الجثث المشوهة المتناثرة تملأ المكان وأطراف وأشلاء اللحم البشري مشتتة في الساحة المحترقة يفعل القصف. لقد استقلت من مجلة تايم وانضممت إلى مجلة إيريش تايمز لأن محرري المجلة في الولايات المتحدة كانوا يخشون انتقاد المجزرة التي تسببت بها إسرائيل. وبعد تلك المجزرة، والتي باتت تعرف باسم مجزة قانا، عاد روبرت إلى جنوب لبنان بشكل شبه يومي حتى حصل على فيديو، صوّره جندي من فريق الأمم المتحدة، يثبت استخدام الإسرائيليين لطائرة بدون طيار في السماء ويمكنهم، بالتالي، مراقبة ما حصل أثناء وقوع المجزرة. وقد أجبر هذا الفيديو الأمم المتحدة على إصدار تقرير يستنتج أن المجزرة من غير المرجح أن تكون حدثاً عارضاً حصل طريق الصدفة المحضة. وبعد عدة سنوات، سوف يثبت فريق من الصحفيين من نيويورك تايمز، أن صاروخ “هيلفاير” الذي أطلقته طائرة أمريكية بدون طيار في كابول في الشهر الماضي ( أيلول 2021) لم يقتل “إرهابياً”، بل قتل سبعة أطفال وعامل إغاثة يبلغ من العمر 43 عاماً ورب أسرة يسمى زماري أحمدي. وما وصفه البنتاغون بـ “الضربة الموفقة والمبررة أخلاقياً” تبين أنه خطأ إجرامي آخر من جانبنا “نحن”، مثل تلك الأخطاء الإجرامية التي رأينا، روبرت وأنا، كيف كانت ترتكبها الولايات المتحدة في يوغوسلافيا السابقة وفي العراق.
ولا يسعني نسيان تحقيق روبرت عن الهجوم الإسرائيلي بصواريخ هيلفاير في العام 1996 على سيارة إسعاف في جنوب لبنان. لقد أثبت روبرت أن سيارة الإسعاف كانت تحمل مدنيين فارّين وليس مقاتلين من حزب الله. وقد تتبع روبرت الأرقام التسلسلية التي على غلاف الصاروخ ليصل إلى الشركة المصنعة له في الولايات المتحدة، ووضع شظية الصاروخ وصور النساء والأطفال الذين قتلوا على طاولة المؤتمرات المصقولة لمجموعة بوينغ Boeing Defense & Space Group في دولوث، في ولاية جورجيا الأمريكية. ولطالما كان روبرت
يذكّرني فيقول: “أنتِ شاهدة على التاريخ”. ونعم، كان الأمر كذلك، نحن شهود عيان، لقد رأينا بأم أعيننا ولثلاث مرات “تحرير” العواصم على يد القوات الأمريكية: انسحاب العراق من مدينة الكويت 1991؛ طرد الصرب من بريشتينا 1999؛ سقوط صدام حسين 2003.
تشكلت رؤية روبرت من خلال فهمه العميق لتاريخ أوروبا والشرق الأوسط، وكذلك تاريخ إيرلندا. وكان قد أخبرني، عندما أبرمت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية اتفاقيات أوسلو في العام 1993، أن هذه الاتفاقيات لن تنجح، ولماذا. وأن الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق سوف ينتهي، كما توقع، بكارثة. وأذكر أننا أجرينا مقابلة مع يشعياهو ليبوفيتش، المحرر السابق الراحل للموسوعة العبرية، والأستاذ في الجامعة العبرية في القدس، بعد أيام من اتفاقيات أوسلو. كان ليبوفيتش من أشد المنتقدين للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وقال لنا: ” ليس ثمة ضرورة في التاريخ”. ليس من ضرورة لأن أمر ما يتعلق بما يجب أن يحدث – وهو في هذه الحالة، الدولة الفلسطينية- حتى يحدث”. والشيء بالشيء يذكر، وأثناء قصف قوات الناتو لصربيا في العام 1999، كتب أحدهم عبارة “أنا أكره التاريخ” على جدار وزارة الدفاع في بلغراد. كانت السخرية التي تنضح من هذه الكلمات بارعة بقدر ما هي مأساوية، لأن الصرب كانوا، مثل كل الشعوب التي كتبنا عنها، سجناء التاريخ. كتب روبرت في الصفحات الأخيرة من مؤلفه الضخم ” الحرب العظمى من أجل الحضارة”: “أعتقد أنه يتوجب علينا، في نهاية المطاف، الإقرار والقبول بأن مأساتنا تكمن دائماً في ماضينا”
فاليأس، في وقتنا الحاضر، هو القاسم المشترك بين البلدان التي عشت وعملت فيها مع روبرت. فلبنان على وشك الانهيار التام، حيث يعيش 78 % من سكانه تحت خط الفقر. أمّا غزة، فهي معزولة عن العالم بسبب الحصار الإسرائيلي منذ العام 2007. ولا تزال الضفة الغربية تحت الاحتلال، وتوقف الحديث، فعلياً، عن الدولة الفلسطينية. كما عزز المتشددون سلطتهم في طهران، وتزيد العقوبات المفروضة من إفقار البلد أكثر فأكثر، وتسير محاولات إحياء الاتفاق النووي الإيراني بشكل سيء. وفوق هذا، تهيمن إيران على العراق المقسّم بين الشيعة والسنة والأكراد. وبلغ اليأس لدى الشباب الجزائري حداً عالياً أكثر من أي وقت مضى. وتقبع البوسنة وكوسوفو وصربيا في غرفة الانتظار في أوروبا. وعجّلت فظائع الحادي عشر من سبتمبر من حروب جورج دبليو بوش على الإرهاب واستمرار عقدين من الهجمات المتطرفة.
كان مطلع هذا القرن، قاسياً تزامن مع التفكك البطيء لزواجنا، وروبرت وأنا. في نهاية العام 2001، تعرض روبرت للضرب المبرح من قبل اللاجئين الأفغان في باكستان، ثم بعد ذاك قطع رأس دانييل بيرل على يد عناصر من تنظيم القاعدة، وكان دانييل مراسل صحيفة وول ستريت جورنال، وكان هو من عالج روبرت رفقة زوجته ماريان من جروحه التي تسبب بها ضرب اللاجئين له، ثم تلى ذلك انتحار خوان كارلوس غوموسيو، الصحفي البوليفي ورفيق روبرت من أيام الاختطاف في بيروت.
“ما فعلنا طوال حياتنا حتى ننال كل هذه القسوة؟”.. هكذا كنت اسأل نفسي..
“ماذا فعلنا لنستحق كل هذا”؟.. هكذا كتب لي روبرت ذات يوم. وأعرب عن الحنين إلى ما أسماه “سنوات السعادة الغريبة والبراءة المتهورة وسط المخاطر” عندما كان هو وخوان كارلوس قريبين وعلى تواصل.
ولا أنكر، إني شعرت، بدوري، بالحنين إلى سنواتنا الأولى التي أمضيناها معاً، عندما شعرنا بصمودنا وصلابتنا ضد أي دمار أو تدمير. وبوضعي هذا الكتاب، لابد أنني عشت من جديد تقدمنا بالعمر من سن الشباب المفعم بالشغف والحماس إلى منتصف العمر المتحرر المفعم بالراحة والمتحرر من الوهم. لقد شاهدت الحب يزهر ثم يتعثر ويتلاشى.
وها أنا الآن أدرك أنها لم تكن مأساة. كانت حياتي، وكانت حياة جيدة.
أتذكر كل شيء علمني إياه روبرت. فثمة شيء يبقى.
….
ملاحظات