مصطفى الحلاج.. التغريبة الفلسطينية كجوهر للإبداع

إعداد : محمود أبو حامد

ملف أدب الشتات

يُعتبر الفنان التشكيلي الراحل مصطفى الحلاج  ( صاحب أطول لوحة جدارية في العالم) من أهم رواد الفن التشكيلي الحديث، حيث يُنظر إليه على اعتباره رائداً من رواد الفن العربي المعاصر، ورغم أنه ينتمي إلى جيل التغريبة الفلسطينية،  جيل حق العودة مِن قهر الشتات، لكن شهرة الحلاج ليست قائمة على كونه فناناً فلسطينياً واعياً بُعمق قضيته فقط. بل لأنّ فنه كان جداريّات جمالية محفورة تنتقل بُعمق المعنى والقضيّة من الواقع المُعاش إلى آفاق بُعد ميتافزيقي آخر.  وهي بذلك تضُم في جنباتها ثنائيات التناقض التي تظهر في أعماله، ليس فقط بين اللونين الأبيض والأسود اللذين اعتمدا عليهما بشكلٍ رئيسيٍّ، بل إلى ثنائيات التناقض بين الحي والميت والوجود والعدم أيضاً، بالاضافة الى كونه رمزاً من رموز الفنون التخطيطية، حيث عمل في الرسم الصحفي، كذلك النحت والتصوير، إضافة إلى عمله بفن البوستر، فقد كانت له أساليبه الخاصة بالرسم مبتكراً خطوطاً جديدة في مجال عمله، كما شكلت بلاده فلسطين والشعب الفلسطيني أبرز مواضيعه التي حرص من خلالها على تلخيص تاريخ شعبه طيلة حياته وتجاربه الابداعية.

سطور وأساطير

أنهى الحلاج دراسته الإعدادية، والثانوية في مصر، حيث حصل على شهادة الثانوية في عام 1957؛ ليقرر بعد ذلك الالتحاق بكلية الفنون الجميلة في جامعة القاهرة قسم النحت، فتخرج من جامعة القاهرة في عام 1963، حيث كان أول فلسطيني يدرس النحت بشكل أكاديمي، بعد ذلك أكمل دراساته العليا في جامعة الأقصر، فدرس الفن المصري القديم، وتخرج منها في عام 1968، وركز خلال دراسته للنحت على تاريخ الفن المصري القديم، بالإضافة للفن الكنعاني والفينيقي والأساطير  القديمة، كذلك عمل في استديو هات النحت في الأقصر المصرية.

عندما كان في الخامسة والثلاثين من عمره قرر مصطفى الحلاج الانتقال إلى بيروت؛ فعاش في بيروت ثمانِ سنواتٍ معاصراً الحرب هناك، حيث يقول: “بعد ذلك لم يعد بالإمكان العيش في بيروت، فانتقلت إلى المدينة الأكثر ترحيباً وهي دمشق أم بلاد الشام”، علماً أنه خلال الحرب اللبنانية وفي عام 1982؛ خسر الحلاج مئات اللوحات بسسبب القصف الإسرائيلي لبيروت، لكنه تمكن من إنقاذ بعضٍ من الأحجار، والأخشاب التي كان يستخدمها في عمله.

عاش الحلاج في دمشق بقية حياته، حيث استلم إدارة صالة ناجي العلي للفنون التشكيلية، وكان أحد الأعضاء المؤسسين للجنة النقابية للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، كما ساعد في إنشاء معرض فني في دمشق تكريماً لفنان الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي؛ صاحب شخصية حنظلة أشهر شخصيات التحدي الكاريكاتورية بالنسبة للفلسطينيين, كما اهتم الحلاج بالسياسة من خلال لوحاته، أما عن الفنانين العالميين الذين أحبهم؛ فهم الفنان الإسباني بيكاسو، والمكسيكي دييغو ريفيرا.

فلسفته الفنية

أعمال الحلاج تستند إلى حد كبير  إلى عامل الرمزية، والرموز التي يفيض بها شكّلها وجدانه قبل أن يحولها لدلالات على سردية الفلسطيني بشكل خاص والنفس البشرية بشكل عام. وأعماله لذلك تعتبر ذا مناخات سياسية لأن الحلاج ارتبط ارتباطاً وثيقا بحركة النضال الفلسطيني،  وأعماله تعتبر نوعاً   من أنواع المقاومة الثقافية تستند إلى قدر هائل من المشاعر الرومانسية المتجاوزة للواقع المادي القائم. لذلك، فإن هذا الفهم الاستثنائي المتجاوز أزهر بدوره أساليبه الاستثنائية في الحفريات التي أتت بعمق وسعة ذات الحلاج نفسه.  تلك الذات التي تعج بمعانٍ لامتناهية.

 وبالرغم من أن أعمال الحلاج في عالم الحفر تعد معاجم بصرية ضخمة تدور في أفق الرموز غير المألوفة، إلا أنها لا تعتبر سريالية على حد ما قدمت السريالية نفسها في مانفيستو أندريه بريتون. فالسريالية بالرغم من أنها مزجت الواقع والخيال بالدمج بينهم، واعتمدت على اللاوعي والأشكال غير المنطقية، لكن تظهر حفريات الحلاج رغم رمزيتها واعية وعاقلة بكل رمز وبقدرة الرائي على فهمه وتفسيره.

الأبيض والأسود

في لوحة فلسطين، نرى الحلاج كعادته يعتمد حدي التناقض في استخدام الألوان، فلا يستخدم إلا الأبيض والأسود. نرى أيضاً، أسفل يمين اللوحة امرأة لتوها ولدت رضيعاً يركب فرسه ويحمل رمحه ودرعه المكتوب عليه فلسطين. فالفلسطيني لا يولد كأي طفل عادي. بل مُحارباً بكامل عتاده. أعلى المرأة يتقوس راجل على ذاته رمزاً للنكسة والتراجع لكن يخلفه ويخرج من ظهره ذلك الطفل الذي تتقدمه امرأة ورجلاً يتكئ على عصاه. وهم بدورهم أسلافه يرث منهم كل شيء.

وهنا، نرى أن رمزية الحلاج رمزية منطقية واعية ليست كرمزية السريالية التي تعتمد اللامنطق واللاوعي كأدوات تُشكّل بهم فضاء العمل الفني. لقد طاف الحلاج بعدة حضارات بحكم تنقله بين فلسطين والقاهرة ودمشق وبيروت. فحمل في ذاته رواسب الفرعونية والكنعانية والفينيقية.

وقد ساهم ثراء تلك التجربة في خلق فضاء تشكيلي شديد الخصوصية. فنرى الحلاج يحشد في أعماله من البشر والرموز والدلالات الكثير حتى تصير اللوحة معجما بصريّاً خارقاً. وتصبح كذلك فضاءً فلسفياً وسياسياً. فندرك ببصيرة الحلاج ماهية أنفسنا في إطار الصراع القائم  من الأزل للأبد.

رمزية المقاومة

ورغم رمزيتها وأفكارها المتجاوزة، لا تُفارق أعمال الحلاج حاضرها القائم في التعبير عن الذات الفلسطينيّة المقاومة، سواء على جبهة القتال أو جبهة المقاومة الثقافية. وعلى جبهة اللوحة نجد فلسطين في إيقاعات تشكيلية مُعبرة بدقة منطقية رغم رمزيتها عن مسيرة الحلاج كفنان ومعاناته كلاجئ سياسي .

ونرى ذلك في لوحة “معركة الكرامة” التي رسمها الحلاج بعد المعركة بعام، أي في 1969، وهي إحدى أهم رموز الكفاح لتحرير فلسطين. والحصان في المعركة رمز لاستمرار القتال والثورة. هذا غير أن للحصان رمزية خاصة في الملاحم والمعارك العربية على مر التاريخ.  وظهر الحصان لأول مرة في عمل الحلاج بعد “معركة الكرامة” ونرى أسفل الحصان امرأة مُقاتلة تحمل سلاح ثقيل ترافق حصان ضخم يقتحم السماء. ويقف على سلاحها حمامة ترمز إلى أن نية النضال هو تحقيق السلام، أي أن القتال ليس عدواناً بل إحقاق حق.

فالمحتوى السردي القوي في أعمال الحلاج مكرس بشكل كبير لخدمة فلسطين بكافة تداعياتها السياسية وقضاياها الوجودية. وتتجلى فلسطين عادة بدقة متناهية لا يمكن بسببها اعتبار أعماله سريالية. فالحلاج يستخدم أدواته، سكاكين ومسامير ، ليحفر في ذاكرة اللوحة وذاكرة التاريخ تجربة نضال واعية منطقية.

ووعي الحلاج بقضيته كلاجئ فلسطيني ليس وعياً ذا بُعد واحد، أي بالذات الفلسطينية فقط، بل وعي متعدد الأبعاد. وهذا التعدد مكنه من الربط بين التساؤلات الوجودية التي يمر عليها الإنسان في حياته بشكل عام وبين تجربته الشخصية في المَهجر. فهو يُبصر رحلة الإنسان ذهابا وإيابا بين الحياة والموت. ويصوّر تلك الرحلة في طرح فني فلسفي: أين كُنا وإلى أين نحن ذاهبون؟!

وفاة شيخ الفنانين

داخل مرسمه وبين لوحاته التي كان يدافع عنها؛ التهمت النيران جسد مصطفى الحلاج في عام 2002 بعد أن اشتعلت في مرسمه بسبب ماس كهربائي ناجم عن حريق هائل ساعدت على اشتعاله أسطوانات الغاز، والأوراق، والخشب، وغيرها من المواد التي كانت موجودة في مرسمه بصالة ناجي العلي في دمشق، لتنتهي مسيرة فنان كان بإمكانه أن ينقذ نفسه، لكنه فضل الدفاع عن لوحاته التي كانت شقاء عمرٍ بأكمله.

بهذا القدر مِن المأساوية رحل شيخ الفنانين مصطفى الحلاج، في 17 ديسمبر 2002، بعد أن حمل وطنه كهوية أفرد لها فضاء واسعاً في تجربته التشكيلية.

دفن الحلاج في مقبرة الشهداء داخل مخيم اليرموك بمدينة دمشق، بعمر الأربعة والستين عاماً. لكن إرثه مازال حياً، كما أقيمت العديد من المعارض، والمهرجانات تخليداً لذكرى الفنان مصطفى الحلاج المعروف لدى الفنانين الفلسطينيين بشيخ الفنانين الفلسطينيين. الذي قال يوماً: “نحن الفنانون الفلسطينيون أوركسترا.. نحن جوقة موسيقية واحدة؛ لدينا الكثير من الأصدقاء والكثيرون ماتوا، أجسادهم دُفنت في الأرض؛ لكننا نحملهم في داخلنا.. نحن مقبرة متحركة؛ تحمل في داخلها كل الأشخاص الذين غادرونا..” كطائر الهدهد يحمل أمه الميتة مدفونة في رأسه؛ كما تقول الحكايات الشعبية على حد وصف مصطفى  الحلاج.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (38) العنف والإجرام عند الطفال والمراهقين .

كل مدة نسمع عن جريمة مروعة قام بها مراهق ( أحياناً أطفال 8 سنوات مثلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *