هل من إنصاف للمترجمين؟؟ مظلمون من الجميع.. ومن بعضهم البعض

فقط التفتْ.. سترى وتدرك كم أن المترجمين مظلومون عامة، وفي عالمنا العربي خاصة.. ورغم ما يشهده العالم من تطور علمي وتقني، انعكس على كل مجالات حياتنا، ومنها الفكرية والثقافية، ظل المترجمون مظلومين من القرّاء والنقاد ودور النشر، ومن بعضهم بعضاً أيضاً للأسف.. وبكل بساطة لا يمكن لأي قارئ عربي، يستعرض شريط ذاكرة قراءاته، أن يتذكر من ترجم رواية «زوربا» أو «ليلة لشبونة» مثلاً،  أو أي كتاب كان، إذا لم تربطه بمترجم الكتاب علاقة خاصة، أو حادثة ما، أو يكون زميلاً له في المهنة، فالقراء بشكل عام لا يلتفتون للمترجم، بل يهتمون بعنوان الرواية واسم مؤلفها وحسب.

دور النشر

تلعب دور النشر العربية دوراً رئيسياً في ظلم المترجمين، يبدأ من غلاف الكتاب ويتنهي  بالحقوق و”الملكية الفكرية”، ولو استعرضنا بعجالة مجموعة من الأغلفة، سنرى تقصير دور النشر في إبراز اسم المترجم على الغلاف، فغالباً ما يكون بخط صغير وبأطراف الغلاف، ولا تقوم أي دار بتخصيص تعريف موجز بسيرة المترجم الذاتية  أو تسليط الضوء على أعماله التي ترجمها..

يقول المترجم سعيد بوخليط عن علاقة المترجمين مع دور النشر : ” .. بل حتى هذا الجانب على بؤسه، لازالت تشوبه اختلالات كثيرة تقوض روح الطمأنينة المفترضة بين الناشر والمترجم، غير محكومة حقاً بروح التعاقد القانوني والفكري وقبلهما الأخلاقي. لذلك، يقتضي ما يحدث ثورة ثقافية نوعية، تضع لامحالة الترجمة في قلب التفكير المؤسساتي للمشاريع المجتمعية “.

ولم يتوقف ظلم دور النشر على ذلك وحسب، فإضافة للبخس المالي في شراء حقوق المترجمين، تقوم دور النشر بطباعة الكتاب الواحد لعدة مترجمين، وأبسط مثال على ذلك «أهالي دبلن» لجيمس جويس، التي ترجمها أسامة منزلجي أولاً، وصارت خلال عدة سنين على رفوف المكتبات، وفي معارض الكتب، بعدة نسخ لعدة مترجمين.. يحدث ذلك في وطننا العربي خاصة، لأنه لا يوجد ما يسمى «الملكية الفكرية» ولا يفكر أحد أصلاً بالعودة إلى صاحب الكتاب الأصلي، أو مسؤول تسويق كتبه لشراء تلك الحقوق.

وهذا يقودنا إلى أن المترجمين يظلمون بعضهم بعضاً أيضاً، في ظل غياب الرقابة المؤسساتية والإعلامية عامة والنقاد خاصة، فالنقاد والصحافيون لا يسلطون الضوء على تلك التجاوزات من جهة، ولا يهتمون بنتاج المترجمين من جهة ثانية، فقلما نقرأ لناقد ما، تناوله لكيفية الترجمة ودقتها، والجوانب الإبداعية بين مترجم وآخر، والترجمة من لغة ثانية، وأمانة الترجمة.. ولا حتى تسليط الضوء على سرقة مترجم لأعمال مترجم آخر، كما حدث مؤخراً، حيث قامت إحدى دور النشر بالسطو على أعمال الأديب أمين معلوف، وطباعة كتبه بدون الرجوع إلى الترجمات الأصلية، ولا حتى إلى الكاتب ذاته.

ويلّح هنا السؤال: هل لايعرف المترجم أن زميلاً له قد ترجم العمل الذي سيقوم بترجمته؟ وإن كان يعرف إلا يخجل من زميله، أم هل سيضيف جديداً إبداعياً على الترجمة الجديدة، ألا يفكر بوجود نقّاد أو صحفيين سيعقدون مقارنات بين الترجمتين؟؟

ربما لترجمة عدة مترجمين لكتاب واحد ايجابية مهمة، وهي إضافة أدوات جديدة للنقاد  لعقد مقارنات بين مستويات المترجمين وتفضيل عمل مترجم عن آخر.. إلا أن هذا لم ولن يحدث في بيئتنا الثقافية، وذلك لعدم اهتمام النقاد بذلك أصلاً، وسيطرة الهدف الرئيسي، وهو جشع دور النشر والبحث عن السلعة (المترجم) الأرخص للأسف.

الظروف المعيشية

الظلم الأكبر للمترجمين هي حالتهم المادية وظروفهم الاجتماعية والمعيشية التي تساهم في تحديد اختياراتهم للمكتب ما بين المهني والابداعي.. يقول المترجم أسامة منزلجي في حوار لي معه: “يجب أنْ تضع في ذهنك إنني أتحدث من سوريا، التي تمرّ وأهلها بأشدّ ما يمكن تخيله من سوء في الظروف. نحن هنا لا تتوفر لدينا إلّا بعض الكتب التي صدرت قبل سنوات، والكتب الأجنبيّة لا وجود لها البتَة، بطبعتها الورقيّة، أقصد، إمّا نسخ الـ PDF المتوفرة فلا طاقة لديّ على اللجوء إليها لقراءتها، وأفضّل حتماً الطبعات الورقيّة التي لا وجود لها في أسواقنا”.

ومع أن صعوبة الحياة والظروف الشخصية عامة  تحدد نوعية الكتب التي يختارها المترجم، لكن ثمة بدايات تفرض أيضاً  حرية هذا الاختيار، حيث لا يمتلك المترجم المستجد في عمله ترف الاختيار بين نص وآخر، بل يقبل غالبية العروض أو جميع الخيارات المتوفرة، وليس بسبب الضغوط المالية والاقتصادية المعتادة فحسب، بل قد يفضل المترجم الخوض في تجارب جديدة لاكتساب الخبرة التي  ستساعده لاحقاً في التوجه نحو المجالات التي يفضل العمل عليها. في حين ثمة من كانت بداياتهم  لها علاقة مباشرة مع دراستهم الأكاديمية، وترجموا ما مر معهم من كتب جامعية أو حتى مدرسية.

خيارات المحترفين

تلعب دور النشر دوراً كبيراً في تحديد خيارات المترجمين، وهذا من ظلمهم أيضاً، لكن ثمة من يعتمد في خياراته على ذائقته أو حبّه شخصياً لكاتب ما، ومعرفته به وبمؤلفاته، أو عبر قراءاته عن أدبه وفكره، أو يعتمد على اعتقاده بأنّه كاتب مبدع ولكنه لا يأخذ حظّه من الترجمة إلى لغتنا العربية.

وهناك مترجمون محترفون، يرفضون سطوة دور النشر، ويحددون خياراتهم تبعاً لتخصصهم ومرجعياتهم الفكرية والثقافية وفهم الخاص لدور الترجمة في نقل المعرفة والتثقاف والتنوير..

فالسيدة رندة بعث تؤكد أنها لا تختار إلا الكتاب الذي ستمثل ترجمته إضافة إلى المكتبة العربية، ولها شخصياً. وإذا لم تكن له مثل هذه القيمة، تعتذر عن ترجمته.. والمترجم عدنان حسن يؤكد أن اختياره لكتبه  يتم وفقاً لمعيارين: الأول هو جدة الموضوع أي أن يكون موضوع الكتاب غير مطروق سابقاً وأن يقدم الكتاب خدمة معرفية وتثقيفية للقارئ، أما المعيار الثاني فهو المعيار الأيديولوجي, أي المنهج الفكري الكامن وراء تأليف الكتاب. ويرى أسامة إسبر أن الترجمة سفر دائم، لتقديم كتاب ممتع ومختلف وتنويري، وبسوية لغوية رفيعة للقارئ العربي.

القارئ أخيراً                                             

مما سبق نلاحظ أن حركة الترجمة في الوطن العربي مازالت خارج العمل المؤسساتي، أكان الحكومي أو الخاص، وظل الاطار المزاجي والفردي والسلعي، كمقاييس سائدة للخيارات، بعيداً كل البعد عن القارئ العربي، الذي في المحصلة هو من سيشتري الكتاب ودفع بذلك أجرة المترجم.. وكما يقول المترجم سعيد بوخليط ” ما نعاينه حالياً يظل فقط مجرد هواجس فردية معزولة ونزوعات شخصية أساسها شغف صاحبها أو أساساً لأنها مصدر رزق بالنسبة للعديد من المترجمين في إطار عقود أبرموها مع بعض دور النشر..”.

وإضافة للجانب الربحي والتجاري لدور النشر، وحاجة المترجمين المادية والمهنية، ظل القارئ بعيداً حتى في محاولات التثاقف والتنوير المعرفية والفكرية، التي خضعت للانتقائية وحتى للعصبوية الأيدولوجية..  يقول الدكتور أحمد برقاوي في كتابه العرب وعودة الفلسفة: ” غير أنَّا يجب أن نلاحظ هنا أن الترجمة قد أخذت طريقين: الاستمرار في نشر الأفكار عبر الترجمة، والترجمة لذاتها والتي فرضها تطور الحياة الفلسفية.. في الحالة الأولى نجد أن التيارات الفلسفية الأوربية صارت جزءاً من الوعي الفلسفي. فراح الفيلسوف العربي، أو المشتغل بالفلسفة وذو زاوية رؤية محددة، يترجم ما ينجذب إليه من التيارات الفلسفية. فإذا بالوجودي يترجم للوجوديين الأوربيين، أو ما ينسب إلى الوجودية، والماركسي يترجم لأنماط الماركسية السائدة، فضلاً عن مؤلفات مؤسسيها، والوضعي والعقلي كل يسعى لتأكيد تبنيه الفلسفي”.

ظلم عالمي

ظلم المترجمين لم يتوقف على وطننا العربي وحسب، بل العالم بأسره يشهد حوارات وسجالات حول المترجمين وحقوقهم، وعلاقتهم بدور النشر وبوسائل الاعلام، وقربهم وبعدهم من الابداع والأمانة والخيانة.. وآراء أصحاب الكتب، أي مؤلفيها، بهم وحولهم، والتي تتباين بين المترجمين، وتشطح نحو السخرية أحياناً وترتقي نحو التقدير أحياناً أخرى.. فثمة من يقول إن الترجمة هي أفضل الطرق للقراءة، ومن يقول إنها الأكثر مشقة والأقل تقديراً في الوقت ذاته، فضلاً عن عائدها الزهيد، في حين يقول المثل الإيطالي الشهير: «المترجمون خونة»، ويقصد أن من يترجمون لنا إنما يقومون بخداعنا.

المترجم الفرنسي الشهير ماوريس إدجاركوندراو، يقول في إشارة إلى ترجمته لمورياك: «المترجم هو قرد الكاتب الروائي»، ويقصد أن المترجم عليه محاكاة الكاتب في لفتاته وأوضاعه وخلجاته، سواء أعجبته أم لا. وهو من قدم ترجمات لكل من ويليام فوكنر وجون دوس باسوس وإرنست همنجواي وجون استينبك .. ولا تعد هذه الترجمات إبداعات رصينة وحسب، بل إنها أدخلت إلى فرنسا كتابات هذا الجيل التاريخي، والذي تجلى أثره بين أقرانهم الفرنسيين، ومن بينهم سارتر وكامو.

وربما يظل هناك احتمال ضعيف أن يشعر كاتب ما بالرضا عن ترجمة أحد أعماله، ففي كل كلمة، وكل عبارة، وكل تأكيد هناك دائماً قصد ثان متوار، لذلك فالكاتب من دون شك يتمنى دوماً لو يشارك في الترجمة إذا أمكن ذلك.. لكن الروائي العالمي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز قال : ” بالنسبة إلي فليس هناك ما هو أكثر مللاً من قراءة أعمالي المترجمة باللغات التي أجيدها وهي ثلاث، ذلك أنني لا أعرف نفسي سوى بالإسبانية، غير أنني قرأت كتاباً لي بالإنكليزية ترجمه جورج راباسا، وعلي الاعتراف بأنني وجدت مشاهد بدت لي في ترجمتها الإنكليزية أفضل من النص الإسباني، فالانطباع الذي توحي به ترجمة راباسا أنه كمن يقرأ النص بلغته كاملاً ثم يعيد كتابته مجدداً بالإنكليزية، وأمانته في الترجمة أكثر تعقيداً من أية حرفية. هو لا يكتب أية حواش في ذيل الصفحة، وهي التقنية الأقل كفاءة وللأسف هي من أكثر التقنيات التي يلجأ إليها المترجمون غير الأكفاء”.

ورغم أن ما شهده العالم من تطور علمي وتقني، انعكس على كل مجالات حياتنا، ومنها الفكرية والثقافية، لكنه أنعكس على المترجمين سلباً، وساهم في ظلمهم أيضا !! فرغم تطور طرق الحصول على القواميس، وسرعة ايجاد معاني الكلمات بكل اللغات “بكبسة زر” إلا أن التطور التقني ساهم في ايجاد ترجمات الكترونية سهلة وسريعة،  ومن المتوقع أن تنخفض أجور الترجمة من جهة، ويتقلص عدد المترجمين التقليديين من جهة أخرى، لكن من الأكيد أن الحاجة إلى الترجمة البشرية ستظل مستمرة  لدخول كلمات جديدة على كل لغات العالم، وستظهر منافسة جديدة بين الإنسان والآلة وهذا يتطلب من المترجمين الساعين للحفاظ على لقمة عيشهم، تطوير ثقافتهم ولغتهم ومهاراتهم للارتقاء إلى الترجمة الابداعية.

عن محمود أبو حامد

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *