في ضوء كتاب: من فتى؟ لمحمد شاويش
ربا شاويش
إذا القوم قالوا: من فتى؟ ….. خلتُ أنني عُنيتُ فلم أكسل ولم أتبلّد
من وحي بيت الشعر هذا انتقى الكاتب اسم كتابه: من فتى؟
من هو هذا الفتى؟
وتستحضرني الآن الآية الكريمة: أليس منكم رجلٌ رشيدُ؟!
أول هؤلاء الراشدون الفتيان برأيي هو الكاتب نفسه:
هو الكاتب الملتزم والمفكر اللبيب العميق الفهم محمد شاويش، تولد دمشق (1961)، من أصل فلسطيني، لاجئي عام النكبة 1948، يقيم في ألمانيا حالياً.. عُنيَ الكاتب بقضايا النهضة، وأسباب الانحدار الاجتماعي الثقافي الإنساني، وله عديد الكتب والمقالات في هذا الموضوع.. أخذ على عاتقه الاهتمام بوضع الأمة العربية والثقافة الإسلامية خاصة، وحث الإنسان على العودة إلى الطريق السديد وإنارة فهم الطاقة المحركة: الفتيان..
فالفتى هو الإنسان، بغض النظر عن عمره، الجامع لصفات المروءة كما رآها العرب في شتى عصورهم..
الفتى لا يترجى بأفعاله إبراز ذاته أو إرضاء نوازعها الأنانية، لكنه في الوقت نفسه يُرضيَ ذاتَه بأفعال الفتوة التي يقوم بها..
ذاتُ الفتى ليست ذاتا استلابية تضع أمام عينها هدف إرضاء الآخرين وفقا للمعايير المسيطرة بل هي ذات حقيقية تستجيب للنزعة الفطرية التي تحتّم نصرة المظلوم دون النظر إلى المنافع..
الضمير هو الفطرة المغروسة في الفتى، وهي التي يسعى إلى إرضائها..
ليس السلوك المثالي ما ينشده الكاتب في هذا الكتاب، لكنه السلوك الممارس الذي يتحول إلى عادة تلقائية عبر تكوين طبع جديد للإنسان يجعله مناسبا لمهمة بناء الإنسان النموذجي الذي يصلح أن يكون قدوة لغيره وبانيا لنماذج جديدة من السلوك..
يعرّفنا الكاتب إلى ما يسمّيه بالاستلاب: وهو تبنّي ضحية الاضطهاد لفكر من يقوم باضطهاده، كاقتناع الرجل الزنجي بأنه أدنى قيمة من الرجل الأبيض، وبأنه وفق نظرة الأبيض إليه غير صالح للتحضر.. ومن هنا يبين الكاتب أربعة أنواع للاستلاب: _الاستلاب التغلبي: وهو قناعة ضحية الاستلاب بأنه بلا قوة وبأنه سيهزم لا محالة..
_والاستلاب الأخلاقي: قناعة المستلَب بأنه مذنب ولا يمكن له أن يكون على حق.
_الاستلاب الطبقي: قناعة المحروم من الترف بأن حالة الحرمان هي الحالة الوحيدة الممكنة.
_الاستلاب العنصري: قناعة الفرد بأنه ينتمي إلى شريحة (عرق) بحكم تركيبه البيولوجي دون غيره في القيمة.
ومن هنا يمكننا التعرف إلى المرجع الاستلابي: وهو قوة اجتماعية (قد تتجسد في مجموعة محددة أو أشخاص معيّنين) يتبنى ضحية الاستلاب صورتَها ويجعلها الحكَمَ الذي يحكم به على أفعاله وأفكاره، وهو ما يسميه الكاتب أيضا، بالضمير الاستلابي.
إذن فقد صار يمكننا القول بأن الفرد المستلَب يحاول أن يرضي المرجع الاستلابي ليفوز بالوضعية الأعلى ويفر من الوضعية الأدنى (وهي ما قررها المرجع الاستلابي) أو ينبذها، عبر احتقار الفقراء أو الضعفاء مثلا..
ارتباط الفرد بالمرجع الاستلابي ارتباط لصيق يشكل نوعا من الضمير الاستلابي فيأمرنا بالتنكر من ذاتنا الحقيقية بالكذب وادّعاء واقع أخلاقي طبقي عنصري تغلبي زائف، ويأمرنا أن ننبذ إخوتنا وقرناءنا لأنهم يذكروننا بذاتنا. ذاتنا التي تشعر بدونيتها أمام الذات المستلِبة.
لا تعني الفتى هذه المشاعر، فهو لا ينغمس في هذه الدوامة بل إنه يسعى لتحقيق المعرفة المثمرة لحل المشكلات الاجتماعية فيساهم في التفكير مع الجماعة، ويسمع باهتمام لها، ويتنازل عن رأيه بسهولة إن رأى أنه خطأ أو غير ملائم لحل المعضلة المطروحة.. وعلى النقيض من صفات الفتيان، فإن صفات التنافس والصراع على المكانة والحسد هي التي تسود ضحايا الاستلاب..
النهضة هي: “مسيرة الفاعلين” هم الفتيان بطبيعة الحال، وهذا المسير هو ما يقود إلى تحقيق المجتمع الهدف عبر الوعي المناسب، وهو ما نسميه أيضا بالوعي النهضوي وهو ما يعرفه الكاتب فيقول عنه: إنه الوعي الملائم لهدف تحول المجتمع إلى مجتمع كفء، ولا يكون الوعي مناسبا إن لم يقترن بالسلوك المناسب..
والسلوك المناسب هو السلوك النهضوي وهو الذي ينتج عنه دفع المجتمع في اتجاه التحول إلى مجتمع كفء قادر على النهضة وبعيد كل البعد عن الانحطاط الذي هو حالة المجتمع التي تجعله غير كفء في المنافسة الحضارية..
الاستلاب يضع الفرد في وضعين غير مفيدين: فإما أن يرى نفسه في مكان أعلى من أقرانه فيصيبه الفرح وإما أسفل منهم فيصيبه الكدر فلا يسعى للّحاق بالسابقين له، بل إنه يبذل الجهد كله في الحط من عزيمتهم ويضع العثرات في سيرهم.
الفتيان يلتزمون بمجتمعهم، فيعتقد الواحد منهم أن مصير المجتمع كله متوقف على سلوك الواحد منهم، إذن فشعور الفتى بالمسؤولية عالٍ، وهو ما يُخضِعُ سلوكياته لمراقبة شديدة الحراسة وهي الضمير، فيتوجب عليه النقد لنفسه قبل غيره. والنقد سلوكٌ مناسب لتصويب العلل المجتمعية للانتقال من المجتمع غير الكفء إلى المجتمع الكفء.
الفتى الناقد يرى الظواهر المجتمعية فيحكم عليها إيجابيا ليسلك من ورائها سلوكا إيجابيا، يعزز ويساند، أو يحكم عليها سلبيا، إن كانت كذلك بالفعل، فيسلك إيجابيا أيضا بأن يصوّب ويزيل العثرات والثغرات ويحلّ البدائل المناسبة. هو لا يحكم وفق المزاج ولا النكاية..
قد نختصر الدعوة إلى “السلوك المناسب” و”النقد الفاعل” بالقول المأثور: بدلا من أن تلعن الظلام، اشعل شمعة!
يحرض الكاتب على النقد الذاتي: فعبره نراجع سلوكَنا فنرى ما هو ملائم ونركز عليه، وما هو غير ذلك فنغييره. ويحذر الكاتب من النقد الزائف غير الموضوعي فيضرب مثالا: ليس من النقد الذاتي أن يندب المرء حظه! أو يحمّل نفسه المسؤولية عن شيء لم تكن له يدٌ فيه. وهي حالات شائعة عندنا من العدوانية تجاه الذات، كأن يعتقد بأنه لا يصلح لشيء! فهذه السوداوية تقود إلى سلوك غير مناسب وقد تعرقل بشكل خطير السلوك المناسب وتكرس الانحطاط وتعززه. وما ينطبق على النقد الفردي، ينطبق على النقد الجماعي، كالتشهير التعميمي بالجماعة أو الأمة ووصفها بأنها لا فائدة ترجى منها. كقول بعضهم: “العرب جرب!”، وهو شكل ضار جدا من أشكال الاستلاب العنصري, ونقد المستشرقين الزائف للإسلام والثقافة الإسلامية والزعم بأنها تدفعنا إلى التخلف!
يميز الكاتب بين أنواع الوعي: “الوعي المفعّل” هو الوعي الذي يفضي إلى السلوك، نتحدث هنا عن السلوك المناسب الذي يؤدي بالمجتمع إلى النهضة، بالطبع.. وأما معرفة الأفعال الصالحة والإقرار بأهمية تجسيدها عبر السلوك دونما تنفيذ لهذه الأفعال فهو ما سمّاه الكاتب: “بما دون الوعي”. “فالوعي المفعّل” هو الاندماج بين القناعة والأفعال المطابقة. وقد وصف القرآن الكريم الانفصام بين القناعة والسلوك بأنه مقت كبير عند الله: “كبّرَ مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون”.. صدق الله العظيم
والذي لا يملك وعيا مفعّلا قد يعتقد واهما بأن الضمير الذي يملكه والذي يرشده إلى تمييز السلوك الصائب عن غير ذلك دون فعل مطابق له قد يعفيه من المسؤولية، وبأن تأنيب الضمير يغسل إثم السلوك غير المناسب بدعوى أن المعرفة أعلى درجة من عدمها!
وفي حالة “ما دون الوعي” يتناقض “الوعي المفعّل” مع القناعات العاجزة عن التأثير في السلوك، لا لأسباب خارجية قاهرة، بل لأن الدوافع الداخلية المسيطرة تدفع الفرد إلى سلوك يناقض قناعاته..
ومن أشكال “الوعي غير المناسب” الذي يعرقل المجتمع فيمنعه من الوصول إلى المكانة المتقدمة:
ما يسميه الكاتب ب “فرط التسيّس: وهو تعليق التغيير المنشود بتغيير مستوى واحد من مستويات البنية الاجتماعية وهو المستوى السياسي، كالسعي نحو استلام السلطة، أو اسقاطها، أو تغيير سلوكها، أو منع قوى أخرى من استلامها… فصراع النهضة عند هؤلاء يحمل صورة وحيدة وهي “الصراع السياسي”!
وإلى جانب “فرط التسيّس” هناك “النزعة الفكرانية” حيث إنها تعلق التغيير بتغيير الأفكار السائدة في المجتمع دون التنبه إلى أن تغيير الأفكار السائدة لوحده قد يدخل الأفراد المعنيين في حالة “ما دون الوعي” أي قناعة غير مفعّلة. وهو ما قد لا يدخلهم في حالة الوعي المناسب المفعّل.
وهناك “النظرة الحقانية” والتي هي من الحقوق، أي الظن بأن التغيير يكمن في إحلال قوانين غير القائمة، ومن أشكالها الشائعة في زماننا اعتبار أن تطبيق الشريعة هو الحل!.. وكما كان أصحاب فرط التسيّس يؤمنون بأن التغيير يكمن في تغيير السلطة، فيؤمن الحقانيون بأن التغيير يكمن في تغيير المنظومة التشريعية!
لا ينكر الكاتب أثَرَ تغيير السلطة أو القوانين لكنه يدعو إلى نظرة غير تواكلية، فتغيير رأس هرم البنية الاجتماعية لا يعفي الأفراد من مسؤولياتهم!
يؤمن الفتى بأن أداء الواجبات أبدى من المطالبة بالحقوق، فالحصول على الحقوق يكون بأداء الواجبات بتمامها.
ويحذر الكاتب من الوعظ والوُعّاظ فيقول: ماذا كان التأثير العملي لمجمل المواعظ على مجتمعنا؟ هل شهدنا لهم تأثيرا ما؟ وإن كان، ففي أي اتجاه؟ هل سلوك جمهور هؤلاء الواعظين صار أنسب لهدف التحول الاجتماعي في اتجاه المجتمع الكفء؟
ومن هؤلاء الواعظين الناطقين بلغة دينية وفق ما سمّيَ “بالحقبة الإسلامية” أو “الصحوة الإسلامية”..
يعلق الكاتب أهمية جلية على احترام القيم الإنسانية، وينبه من أن هذه القيم يجب أن تُستمد من ثقافتنا الخاصة المتناغمة مع مجتمعنا لا ما نستورده من الغير والمتماشي مع قيمهم هم والمتنافر مع ثقافتنا نحن. فالبعد الأخلاقي جزء أساسي من التغيير المطلوب.
يحذر الكاتب من مفهوم الشجاعة الذي يرتبط بنتيجته بالانحطاط المنافي للنهضة.
ويضرب مثالا لذلك: شباب كثر مستعدين لتقديم حياتهم فداء في معركة حربية لكنهم غير مستعدين لبذل جهد اتقان العمل الجماعي السلمي!
ويعيد الكاتب الآية القرآنية الكريمة مرارا في كتابه:
“إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم “صدق الله العظيم
وفي الختام أخشى من أن قراءة هذه المقالة لا تفي بالغرض الذي أرجو من فهم و استيعاب كل كلمة قد قصدها الكاتب، فالتكثيف الذي لجأت إليه قد يختصر الكثير من المعاني المهمة المحصورة في هذا الكتاب الغني والمغني.. وأتمنى من القارئ المهتم ألا يكتفي .بقراءة المقال، بل يقرأ الكتاب أيضا..