الثَّقافَةُ جَوْهَرُ السِّياسَةِ الحَقَّة: مُفتتحُ حِوارٍ تفاعُليٍّ مع كتاب “تحرير الشَّرق”

يَنْذُرُ كتاب الدكتور إياد البرغوثي: “تحرير الشَّرق: نحو امبراطوريَّة شرقيَّة ثقافيَّة”* نفسَهُ لإشعال جذواتِ حوار تفاعليٍّ، مفتوحٍ وخلَّاقٍ، بين مُثَقَّفِي الشَّرقِ، وذلِك على نحوٍ يُرادُ لَه أنْ يُفْضي إلى تأسيس “إمبراطورية شرقيَّة ثقافيَّة” تَتَـاسَّسُ على وعيٍ استراتيجيٍّ عميقٍ، مُتنَوِّع المجَالاتِ، ومُتعدِّد المُكوِّناتِ والأبعادِ، ويتكفَّلُ بتوجيه عُقُول المثقفين الشَّرقيين؛ “الكُلِّيينَ”، بحسب النَّعتِ الذي يوظِّفِهُ الكاتبُ والذي لم نعثُر على دلالةٍ مُحدَّدة له على مدى الكتاب، صَوبَ بَلْورةِ هُوِيَّة شَرقيَّةٍ واعيَةٍ، وصَوغِ رؤيةً استراتيجيَّةٍ مستقبليَّةً يُرادُ لَها، في تَضافرٍ مَع مُحَفِّزاتِ الامبراطورية الثَّقافِيَّة الشَّرقية وركائزها الجوهريَّة النَّاهضةِ على مُكُوِّناتِ الهويَّة الشَّرقيَّة الواعيةِ، المُنسجِمَةِ والمتماسِكَةِ، والَّتي سَتَنْهَضُ الحواراتُ الثَّقافيَّة المفتوحَةُ ببلورتِها لإنهاضِ مُقَوِّماتِ تلك الامبراطوريَّة الثَّقافِيَّة عليها، أنْ تُمهِّدَ السُّبُل أمامَ إنشاء الامبراطوريَّة الشَّرقيَّةِ السِّياسيةِ الحديثةِ الَّتي سَتأخُذُ لنفسها بنيةً تكوينيَّة جديدة، غير مَسْبوقَةٍ في تاريخِ تَشكُّل الامبراطوريات، وذلك لأنَّها تَتأسَّس على إعمال مبدإِ “اللامركزيَّة واللاتمركز” حسب ما نستنبطُ من ثنايا الكتاب، وعلى تجسيدٍ واعٍ لمُعطياتِ وعْيٍ ثقافيٍّ جيواستراتيجيٍّ مُتَعدِّد المجالات والأبعاد، وعلى رؤيَة استراتيجيَّة مُستقبليَّةِ، شاملةٍ ومُتكامَلةٍ، ولَها أنْ تفتحَ دُروبَ التَّصدِّي الحاسم للتَّحديات الحياتيَّة والوجوديَّة الَّتي يُمْعِنُ الغربُ الرأسماليُّ الاستعماريُّ في فرضِهَا على الشَّرقِ: شُعُوباً، وأوطاناً، ودولاً، وثقافاتٍ أصيلَةً، لِيَكبح أدنى إمكانيَّةٍ لشروعِ أيٍّ منها في الخطو صوبَ إدراك المستقبَل الذي أمعنَ الوجدانُ الشَّرقيُّ الإنْسَانيُّ الجَمْعِيُّ الحيُّ في نُشْدانِهِ، وفي استشرافِ ممكناتِ إدراكِه.

ولا أحسبني، كقارئٍ يُريدُ أنْ يُجلِّي امتنانَه لما جَلَّاهُ هذا الكتاب من تبصُّراتٍ وأفكارٍ مُنِيرةٍ، ولما أثاره من مُشكلاتٍ وقضايا وتحدِّياتٍ ذات أبعادٍ ثقافيَّة، حياتيَّة ووجوديَّة، جيوسياسيَّة وجيواستراتيجيَّة، متعدِّدةِ المجالاتِ والأبعادِ ومُتشابِكَتِهَا، ولا تَتركَّزُ على حيِّزٍ بعينِه من أحياز الشَّرق المُحَدَّد، بحسب خيار الكتاب، في “المساحَة الواقِعةِ بينَ أفغانستان شرقاً والمغربِ غرباً” (ص 5 ومواضع أُخرى)، وإنَّما تشملُهُ بِأسرهِ، وفي مركزه فِلَسْطينَ بِوصْفِها أولى ضَحايا المشروع الإمبرياليِّ – الصُّهيوني وأَوَّلُ رافضيهِ ومُقَاوِميه، إلَّا مُلَبِّيَاً نداءَاتِ تلك الجذواتِ، وذَاهِباً للانخراطِ في حوارٍ تفاعُليٍّ خلَّاقٍ مع الكتاب الذي أرادَ جَعْلِهَا أَقْبَاسَاً تُحَفِّزُ التَّفْكيرَ، وتُنِيْرُ سُبُلَ انخراطِ حامليها من المثقَّفين الشَّرقيينَ الوطنيينَ الإنْسَانيينَ، في حوارٍ فِكريٍّ، ثقافيٍّ وسياسيٍّ، تنفتِحُ أبوابُ مساراتِه الاستراتيجيَّةِ المُتشابِكَةِ على أوسَع المداراتِ، وأبْعَدِ الآفاقِ، وأعمَق الأغوارِ التي فيها تَكْمُنُ بُذورُ الجُذُورِ القديمة القابِلَةِ للإنباتِ والإيناعِ والإثمارِ إنْ أُعيدَ غرْسُها، بِصحبَةِ البذور الجديدة، في تُربَةِ الزَّمنِ الجديد الذي أحسبْ أنَّهُم سينشدُونَ، معْ أسوائهم من المثقَّفينَ المنتمينَ إلى شَتَّى ثقافات العالم الإنسانيَّة الجوهر والتَّجلِّيَات، مطَالِعَ شُمُوسِهِ الإنسانيَّة الكفيلة بتغييب التَّوحُّش البشري مُجَسَّداً في الرأسماليَّة الاستعماريَّة الغربيَّة ومشروعها الصُّهيونيِّ الذي لا يستهدفُ الهيمنَة المُطلَقَة على الشَّرقِ، فحسبُ، بَل وعلى العَالمِ بِأسره.

وإذْ يتوخَّى المشروعُ الذي يبلوره كتاب “تحرير الشَّرق” الشُّروعَ في خلق حالة ثقافيَّة هي النَّقيض الحاسم للحالة الثَّقافيَّة التي سعى الغرب الامبرياليُّ عبر مشروعه الصُّهيونيِّ الرئيس والمشاريع الفرعيَّة، المُعلنَة أو المُضْمرة، التي واكبت تنفيده، أو التي نجمتْ ولم تزل تنجُمُ، عنِ السَّعي المحموم إلى ضمان استمراره وتأبيد وجوده، إلى فرضِها على شُعوب الشَّرقِ لتِؤمن بأنَّ “تفككها أفضل من وحدتها، وأن قوتها في ضعفها، وأنها لن تستطيع العيش خارج السيطرة الإمبرياليَّة عليها” (الكتاب، ص 17)، فَإنني لأحسبُ أنَّ خيار الانطلاقِ من “الثَّقافي” بِكُلِّ مُستوياتِه وتشابُكاتِه وأبعاده، صوبَ “السِّياسي الجوهَريِّ” بِكُلِّ مستوياتِه وتشابُكاتِه وأبعاده، قَدْ أسَّسَ إمكانيَّة وسْمِ فِكرةِ هذا الكتابِ والمشروعِ الاستراتيحيِّ الثَّقافي – السِّياسي الذي يدعو إلى بلورتِه، بالأصالة المعرفيَّة التَّاسيسيَّة، والرَّصانةِ المنهجيَّة.

وما الأصالَةُ المعرفيَّةُ التَّاسيسيَّةُ، والرَّصانَةُ المنهجيَّةُ، إلَّا خاصِّيتين جَوهَرِيَّتين واجبتا الوجودِ في التَّفكير السياسيِّ العميق، غير أنَّنا نَفْتَقِرُ وجودَهُمَا مُتضافرتيِّ الإهابِ في كُتُب العُلُوم السياسة وفي التَّحليلاتِ المأخوذة بالتَّعليق الإعلامي المُتَعَجِّل على الأحداثِ السياسيَّة وتطوراتِها، اللَّهُمَّ إلَّا فيما نَدَرَ، وإلَّا في ذلكَ النَّوعِ من الكتبِ والتَّحليلاتِ التي تُنهِضُ تبصُّراتها على مبادئ، ومعايير، ومنهحياتٍ تحليلٍ، واستراتيجياتِ تفكيرٍ، تنتمي إلى “فَلْسَفَة السِّياسَية” أو “الفلسفة السياسيَّة” باعتبارهَا مُكونَاً ثقافيَّاً مَعْرفيَّاً رئيساً؛ فـ”الثَّقافَة”، في جَوهرها الإنسانيِّ وبأعمق معانيها المادِّيَّة والرُّوحيَّة المُلْهِمَةِ، إنِّما هي فلسفَةُ حَيَاةٍ، وتجلياتُ وجُودٍ، ورؤيً مُستقبليَّةٌ استراتيجيَّةُ التَّوجُّهِ والمستوياتِ والأبعاد، قبلَ أنْ تكونَ إجراءاتٍ عمليَّةً ومسلكيَّاتٍ وتصرُّفاتٍ ووسائلَ وأدواتٍ تُعْمَلُ من قِبَلِ أجْهزةِ السُّلطة السياسيَّة لإدارةَ الشؤونِ المجتمعيَّة والدَّولاتيَّة اليوميَّة، وهي إلى ذَلك، جَوهرُ السِّياسةِ الحقَّةِ، وقلبُها، وصُلْبُ كُلِّ أصلابها، ومنْبَعُ تجلياتِها المُؤَهَّلَةِ للإسهام، بفاعِليَّة خَلَّاقَةِ، في بناءِ الوعي الإنسانيِّ الحقيقيِّ المُغَيِّرِ، والنَّاهِضِ، أساساً، على إعمالِ العقلِ وفقَ منطقهِ، ومقتضياتِ إنسانِيَّتِه.

ومَا دعوةُ الكتاب إلى إطلاق حوارٍ استراتيجيٍّ ينهضُ على إعْمال كُلِّ مُوجِّهاتِ ومُقَوِّماتِ وآلياتِ التَّفكير الاستراتيجيِّ في مُستقبل الشَّرق، في حَدِّ ذاتِها وفي جَوهرها، إلَّا دَعوة صريحة إلى استبدال جوهر السياسَة بِقشُورها، وعمْقَها بسطحها، وآنيَّتها بديمومتها، وتناغُمُ تَوجُّهاتِها، وتَماسُك مُكوناتِ رؤاها المستقبليِّة، وجلاء وُضُوحها، وتفاعُلها الخَلَّاق، بتخليطها، وتَفَكُّكها، وغُموضِها، وتخبُّطها، وبِانغلاقِها المُفضي إلى إبقاءِ شُعوبِ الشَّرقِ ودولِه وكياناتِه الأصيلة، إمَّا رهينَةً رواسبِ ماضٍ مَريرٍ يُوْجِبُ المُستقبلُ المنشودُ نسيانُه، أو ضَـحايا مُتحقِّقة، أو مُرشَّحةً لأنْ تكونَ كذلك، لمشروع الاستعبادِ والاستغلال الرأسمالي الإمبرياليِّ الصُّهيونيِّ الغربيِّ، الجاري تمديده، وترسيخ هيمنته، ليشملَ الشَّرق بِأسره، وليس فلسطين وجوارها القريب بدءَاً من “بلاد الشَّام” فحسبُ!

وجليٌّ تماماً أنَّ عملياتِ تحويل شُعوب الشَّرق وأوطانِه إلى “رهائنَ وضحايا” لا تجري عبر تدخلاتٍ عسكريَّة، وشَنِّ غزواتٍ، وتكريس احتلالاتٍ، تُنجزها تحالفاتٌ “أمريكيَّة”، “ناتويَّة”، “إسرائيليَّة”، وأحياناً عربيةً وغير عربيَّة، فحسبُ، وإنَّما تتمُّ كذلكَ، وفي استباقٍ لها، أو في تواكبٍ أو تعاقُبٍ مَعَهَا، تحتَ مُسمَّياتٍ عديدةٍ، ومشاريعَ فرعيَّةٍ؛ تمزيقيَّةٍ تفتيتيَّةٍ، وتطبيعيَّة تتبعيَّة، لا تَكُفُّ عن الانبثاقِ عَنِ المشروع الرَّأسماليِّ الامبريالي الصُّهيوني الغربيِّ للتَّجَسُّدِ في الواقِع الجيوسياسي الرَّخوِ في الأعمِّ الأغلبِ من بلاد الشَّرقِ وضمنها، بل وفي مُقدِّمتها بطبيعة الحال، الأعمُّ الأغلبُ من “بلاد العَرب” ودولها الواقِعَة ما بين “الخليجِ الثَّائر” و”المُحيطِ الهادرِ” والَّتي حالت سياسَاتُ الكياناتِ العربيَّة الوظيفيَّة التَّفكيكيَّةُ التَّابِعةِ للغرب الامبرياليِّ الصُّهيونيِّ والمأجورةُ لتحقيق غَاياتِه مُقابَل “حمايتها”، دونَ إدرك دولِ هذه البلادِ أدنى قدرٍ فعليٍّ ومُؤَثِّرٍ منَ رُباعيَّة “التَّقاربِ والتَّنسيقِ والتَّكامُلِ والوحدة” التي ينشدُ كاتب “تحرير الشرقِ” إيجادها بُغية تحقيق غايات الشُّعوب والأوطانِ العربيَّةِ، والمشرقيَّة، على وجه العُموم، لا غاياتِ أعدائها ومُسْتَعْمِريِّها منَ الرَّأسماليينَ الغربيينَ المُصَهينيينَ، وغايات غيرهم من تابعيهم وأذنابهم من حُكَّامِ تلك الكياناتِ الوظيفيَّة الرَّخْوةِ، غير القابِلةِ، بأمر التَّاريخِ الحقِّ وإرادةِ الإنسانِ الإنسانِ، إلَّا للإبدالِ ، أو الزَّوال!

وفي هذه الاستبدالاتِ الجوهريَّة، وفي غيرها مِمَّا يلازمها، أو مِمَّا ينبثقُ وجُوبَاً عنها، ليُعِيْدَ السَّياسةَ إلى جَوهرها، أو لِيُعيدَ جوهرهَا المنسيَّ، أو المَسْلوبَ مِنْها عَمْداً وقَسْراً مُحَفَّزينِ بالأنانيَّة الرخيصة والجشَعِ المُتفاقِم، إليها، مَا يُفسِّرُ ذهابَ الكتاب، مُذْ عنوانِهِ، إلى “الثَّقافَة” بوصفها المدخَل الوحيد لأيِّ لونٍ من ألوانِ التَّفكير الإنسانيِّ الاستراتيجيِّ في المستقبلِ الشَّرقي المنشود، ومُقتضياتِ تحقيقه، وشُروط إدراكِهِ، وفي تحفيزِ “لحظَته التَّاريخيَّة” على القُدومِ عبرَ تأهيلِ الزَّمن الرَّأسيِّ للتَّمخُّضِ عنها واستقبالها، وتأهيلِ “صُنَّاعَ التَّاريخ” المشرقيين الإنسانيين على إحداثِ التَّغيير الاستراتيجيِّ المنشودِ بإجادة استثمارهَا مُذْ لحظَةِ قُدومِها المُحفَّزِ بالوعي الإنسانيِّ التَّفاعُليِّ، والفعل الجمعيِّ المُغَيِّر!

وانطلاقاً من شبكة الاستبدالات الجوهريَّة المُشارِ إليها للتَّوِّ، وتأسيساً عليها، وأخذاً من مُؤَلِّفِهِ بِموجباتها التَّبصُّريَّة ومقتضياتِها المنهحيَّة، وسعيَاً مُثابراً صَوبَ إدراكِ غاياتها ومقاصِدها، يُبلورُ الكتابُ عدةَ خٌلاصاتٍ جوهريَّة تتكثَّفُ في عنوانهُ الفرعيُّ، وفي بعضِ غيرِ يسيرٍ من استنتاجاتِ مُقارباتِه التحليلية الجيواستراتيجيَّة النَّقْدِيَّة؛ المُتشعِّبَةِ الموضوعات ومُتشابكتها، والتي شَملت، بحسب توالي ورودها في الكتاب، عشرة موضوعاتٍ هي: المشروع الامبريالي الغربي في العالم العربي؛ المشروع الصُّهيوني؛ فلسطين … من قضيَّة إلى كِيان؛ في التَّطبيع؛ الدَّولة الوطنيَّة في العالم العربي؛ الربيع العربي – “المؤامرة” والرَّبيع العربي؛ “داعش” … والامبراطوريَّة بشكلٍ مُختلف؛ المُثَقَّف والامبراطوريَّة الثَّقافيَّة؛ الهُوِيَّة الواعية؛ الامبراطوريَّة الشرقيَّة الثَّقافيَّة.

ولعلنا نُكثِّفُ هذه الخُلاصاتِ والاستنتاجات باقتباس جذواتهَا الجوهريَّةِ الوامضِة على مدى صفحات الكتابِ، لنقرأَ في ضَوئها ما لفظُهُ، أو ما مُؤداهُ، أنَّ “المصالح الاستراتيجيَّة العليا لشعوب الشَّرق واحدةٌ يُقرِّرها أساساً ثبات الجيواستراتيجيا التي لا فكاك منها”، وأنَّ “الخلاص يكونُ جمعيَّاً أو لا هو أبداً يكون”، وأنَّ “مثقفي الشَّرق الحقيقيِّنَ، الكُلِّيين”، هم روادُ مشروع الخلاصِ، ومُبلْوروه، وصَائغو مُكوِّناتِه، وروافِعهُ وحامِلُوهُ التَّاريخيون، وقادتُهُ المُؤَهَّلونَ للعملِ، بدأبٍ ومُثابرةٍ، على إنجازه، وأنَّ دورهم الخلاصيِّ التَّغييري واجبِ الوجودِ هذا، إنِّما يُوجِبُ عليهم الانخراطَ الجَمعِيَّ التَّفاعُلِيَّ في حوارٍ ثقافيٍّ: جيواستراتيجيٍّ، وجيوسِيَاسيٍّ، يستهدفُ بلورةَ مشروع شرقيٍّ ثقافيٍّ شاملٍ يؤسِّسُ لخلق “حالة من الوعي الاستراتيجي بهذه المصالحِ وطرق تحقيقها”، و”يُعِيدُ توطينَ فكرة الوحدة”، ويَصوغُ “الهُوِيَّةَ الواعيَةَ الجَامِعةَ لِكُلِّ مُكَوِّنات شعوب المنطقة”، لِيكونَ هو، عن حقٍّ، مشروعاً شرقيَّاً ثقافيَّا شاملاً، يُؤسِّسُ لإنهاض “الامبراطوريَّة الشَّرقيَّة الثَّقافيِّة” التَّفاعُلِيَّة الوحدويَّة، والمترابطة الملتحمة، والَّتي ستتكفَّلُ بتمهيدِ السُّبُل المُفضيَّة إلى انبثاقِ الامبراطوريَّة الشَّرقية السياسية الحديثة التي سَتُغَطِّي، من منظورٍ جغرافي وجيواستراتيجيٍّ وبالاختيار الشَّعبيِّ والدَّولاتيِّ الوطنيِّ والقوميِّ الحُرِّ، أي مساحةٍ من المسافة الجغرافيَّة الممتدَّة “بين أفغانستان شرقاً والمغربِ غرباً.”، وذلك مع مداومة السَّعي الثَّقافي – السياسيِّ، التَّفاعُليِّ الحُرِّ، لأنْ تشمل هذه الامبراطوريَّة جميع شُعُوب الشَّرق وثقافاتِه ولُغاتِهِ وأوطانه، وأنْ تُوسِّع مداراتِ تعاونها التَّفاعُلي الخلَّاق مع التكتلات والامبراطوريَّات الأُخرى، في شتَّى مناطق العالم، وذلكَ تحقيقاً للمصالح الاستراتيجيَّة المُشتركَةِ، والمُتبادلةِ، مع كل الشُّعوب والأوطان والأُمم، ودائِماً في ضوء الاستهداءِ بمبدإِ التَّنوُّع الثقافي الإنسانيِّ الخلاق، وبالقيم الإنسانيَّة الجوهريَّة المشتركَة، وفي صُلبها جميعاً منظومات حُقُوقِ الإنْسانِ والأوطان والشُّعوب والأمم وحُرِّياتهم الأساسيَّة، المُترابِطَة، وغير القابِلة للانتقاصِ، أو الانتهاكِ والسَّلبِ.

أمَّا وقد شارفَ عددُ الكلمات المُحدِّدِ مساحةَ هذا المقالِ على الانتهاءِ، فَإنيِّ لآمل أن تكون فحوى فقراتِه السَّابِقة قد أضاءات أمام بصائر القارئات والقارئين فحوى هذا الكتابِ اللافت، وأومأت إلى مُمكنات فَتْحِ حوارٍ تفاعُليِّ حُرٍّ مع التَّحليلاتِ السياسيَّة الَّتي أنجزها، والأفكار والتَّصَوُّرات التي طرحها، والتَّوصيفات التي قَدَّمها، والمصطلحات والنُّعوت التي وظَّفها، أو ابتكرها، والخلاصاتِ التي بلورها، والمُحَدِّدات والمعايير التي وضعها، والمُقترحاتِ الَّتي أبداها، والأسئلَةَ التي أثارها فانفتحت إجاباتها على أسئلةٍ شرعتْ في التَّوالدِ طالبَةً تأصيل بعضِ الإجاباتِ المُقترحَةِ أو بلورةِ المزيدَ منها، وذلكَ في سياقِ يتجاوبُ مَع كثير من مُكَوِّناتِ ما قد دأبْتُ على كتابته، على مدى أربعَة عُقودٍ، من مقالاتٍ، ومقالاتٍ موسَّعةٍ، ودراسات وبحوثٍ، تتركَّزُ على تأكيد الخُلاصَة الجوهريَّة التي وجدتها تومضُ في في عنوان كتاب “تحرير الشَّرق” وفي ثنايا مُقاربَاتِه العميقة، والَّتي مؤَدَّاها أنَّ لا شيءَ، ولا مشْروعَ تغييرٍ وتَحولٍ، يُمْكنُ أنْ يُعَوَّلَ عليه، وأنْ يَحْيَا فَيُحْيِيَ، ويكونُ ذا فاعليَّةٍ راهنةٍ ومُستقْبَلٍ مفتُوحٍ على المُستقْبَلِ، إنْ لمْ يَتأسَّسَ، أَصْلاً وفي كُلِّ مُكوِّناتِه وأبعادهِ وغاياتِه، على الثَّقافَة الإنسانيَّة الحقَّة، بوصفها جوهَرَ إنسانيَّة الإنسانِ، ولُبَّ حَضَارتِه، ومُحفِّزَ خْطْوَهُ المُحَرِّكَ صيرورة التَّاريخ الإنسانيِّ الحقِّ، والذَّاهبَ بهَذه الصَّيرورة، ومعَهَا، صَوبَ إدراكِ لحظَةِ الخلاص النِّهائيِّ من “التَّوحُّشِ البشريِّ”، ومُتَابَعَةَ صُعُودِ مدارج “الكمال الإنسانيِّ”، الحياتيِّ والوجوديِّ، المُمْكِن!

* صدر هذا الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، الطبعه الأولى، 2020، ومنه جميع المقتبسات الواردة في النَّص.

ملاحظة: نشر هذا المقال في عدد مجلة “الهدف”، الصادر في الأول من نيسان (أبريل) 2022.

عن عبد الرحمن بسيسو

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *