أمل رمسيس: فيلم نضالي من خارج التيّار
مقابل العولمة التي تنهش بكلّ خلايا حياتنا في كل مكان، وبعض خلايا ذاكرتنا التي عُطبت جراء محاولاتنا الحثيثة لإيجاد تفسيرات تلائم الخطاب العالمي السلطوي تجاه تاريخنا، والتي أدت بنا إلى جلد ذواتنا ومجتمعاتنا وتاريخنا ونكران قدراتنا وجمالنا، تأتي السينمائية أمل رمسيس بفيلم عميق، ورقيق وإنساني في الدرجة الأولى، يعرض حكاية من خلال طرح غاية في الأهمية، لشخصية محلية – أممية، وقدرها الحتمي، في عالمنا الحالي.
أمل رمسيس، لا تُجادَل ولا تُشَهّر ولا تَدخل في مقارنات، بل تكون فقط. تقدم لنا أحداثاً من واقع آخر، غير الذي نعرفه، نراه فقط حين يكون لدينا الاستعداد الفعلي لأن نرى.
أجاب بالفرنسية وبابتسامة وحماسة الشباب: «أنني متطوع عربي، جئت لأدافع عن الحرية في مدريد، وعن دمشق في وادي الحجارة، وعن القدس في قرطبة، وعن بغداد في طليطلة، وعن القاهرة في قادش وعن تطوان في بورغوس» قال نجاتي صدقي-سعدي (1905-1979).
وإن كان النضال حقيقة واقعة، فذلك لأن مناضلات ومناضلين راكموا تجارباً وأفعالاً خلقت حالة النضال. لذا لا يسعني إلا أن أتحدث أولاً عن شخص السينمائية الذي نسج وقدم لنا فيلم «تأتون من بعيد» (وثائقي 84 دقيقة ـــ 2018). تأتينا أمل بفيلم نضالي من خارج التيار، من عمق وفكر متّقد وإحساس مرهف ومشبع بالمسؤولية وبالمعرفة التاريخية، كما بفلسفة الحكاية السينمائية التي تقدمها بحنكة. تُعيد إلى أذهاننا وتؤكد أنّ فاقد الشيء، فعلاً، لا يعطيه، وأن من شبّ على شيء يشيب عليه فعلياً، وأن الثقة والمحبة واتساع الأفق والإيمان يحتاجها كل طفل وطفلة ليصبحا كما أصبحت هي وأمثالها.
تَحتضِن المخرجة اغترابها، تتعلّمه وتتواصل من خلاله مع وطنها، الذي يطول الحديث عن ماهيته هنا. هي تعي أن الشتات والتهجير والاغتراب التي لحقت بنا بسبب الصهيونية هي أيضاً نتاج الفاشية التي أدركها أهلنا وحاولوا التصدي لها في وقت ما. فلا أحد يُخلق من فراغ ولسنا إلا حلقة في سلسلة.
ينطلق الفيلم من تلاحم المخرجة مع مكان الإقامة والأرض التي تستقبلها، وتتحدث إلى صديقها الإسباني الذي عاش حرباً تعنيه وتعنيها، لكن كلٌّ من موقعه، فتنتقل بنا، بخفةِ وصولِ الكلمة عبر الأثير، إلى العراق، الذي تحبه وتعرفه، وعراق الصديق الإسباني الذي لا يفقه لغته، لكنه ذهب إليها محارباً مدافعاً عنه ليرد جميلاً كان قد قدمه له العرب قديماً في بلده إسبانيا.
فاتحة رائعة للفيلم، تنجح المخرجة من خلالها بأن تحصل على ثقتنا وتركيزنا، وبالتالي اللحاق بها من دون مقاومة أو تساؤل، ومع قناعة بأن في الرحلة الكثير مما سيُكتَشَف. ولا شك في أنّ لاعتيادية وجمال وحنكة الصوت السردي الذي يقودنا وأحداث الفيلم، تأثيراً كبيراً على هذه الثقة، فنبحر معها وإذ بنا نصل إلى فلسطين، لكن من دون أن تطأ أقدامنا أرضها. فالمخرجة ترفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتجد فلسطينها في كل مكان في العالم.
نغوص في فيلم منسوج من خيوط غاية في التعدد والألوان والجماليات التي لا تتوقف عن مداعبة الظل والنور، فهناك خيوط قصص أفراد عائلة مناضلة يسارية عروبية أممية تشرذمت في بقاع الأرض، إلا أن خيوط التواصل بينهم دامت رغم محدوديتها ورغم كل شيء. قصة مؤلمة تحتضنها أشعة الشمس وزخات المطر وحالات الطبيعة الخلابة القوية. يُضاف إلى ذلك كله، السرد السلس لأحداث تاريخية شرق أوسطية وأوروبية، لا نزال نعاني من ويلاتها، لكنها لا تزال تخبئ الكثير عن عنفوان تاريخنا ورقيّ نضالنا ومناضلينا.
يقول الفيلم «تتشابه المدن تحت القصف»، فالمشاهد «التلفزيونية» الإخبارية عن الحرب هي ذاتها في كل مكان، تلغي الأمكنة وأهلها وتتصدر الموقف. لكن بين المشاهد التلفزيونية وكاميرا المخرجة التي تنقل الواقع ببطء ووضوح تتجلى بها الطبيعة بكل حالاتها، السعيدة والغاضبة والمنتفضة والمهمومة والمشرقة، إعادة لما تلغيه الحروب وتلفزيوناتها. ويقول أيضاً، إنّ شجر الزيتون يشبه بعضه في كل مكان، إن قُدّر له أن يستمر في الحياة.
يتحول صوت الطبيعة الصامتة الصاخبة إلى صوت الشاهدة الراوية لتفاصيل ما نعيش في هامش الانفجارات والقتل. انفجارات تبقى حاضرة في أذهاننا وفي الخلفية حتى بعد اختفائها عن الشاشة. تقودنا الطبيعة، تحتضننا في الوقت نفسه، تهُدّئ من روعنا من أجل استكمال الرحلة إن لم يكن الترحال، فإن استكنا، رافقنا وشاهدنا مجريات الأحداث كأننا في فيلم تفاعلي.
تنجح أمل رمسيس في بناء «المكان» الذي يحتضن مجريات الأحداث بتفوق، كأننا نشاهد العالم بأكمله من خلال كرة زجاجية واضحة المعالم، تُكَوّن الطبيعة فيها الغلاف الخارجي للحياة كلها، ومن تحتها تأتي الطبقة الثانية وهي سلسلة الأحداث الحروب التي شهدها القرن العشرين، بداية من الحرب الأهلية الإسبانية ضد الفاشية التي شارك فيها نجاتي ورفاقه، مروراً بالحرب العالمية الثانية، ونكبة فلسطين والحرب اللبنانية. أما الطبقة الثالثة فهي نحن، الأشخاص وحيواتهم. ومن ثم تتعدد الطبقات مع تعدد ما نشاهد من تفاصيل. تفاصيل ترتبط بوعينا أو لا ترتبط وفقاً لمخزوننا المعرفي والحسي.
من إسبانيا إلى العراق، إلى موسكو، إلى هولندا إلى القدس إلى فرنسا إيطاليا ألمانيا بيروت، وأخريات من دول الشرق الأوسط وأوروبا… لا تشرح المخرجة أو تنوّه لأماكن تواجدها، تكون فقط، وتبدأ بالسرد لنتعرف خطوة بخطوة وجملة بعد جملة، على أماكن تواجدنا وما يدور أمامنا … من غير المهم أن يُقال لنا، سنكتشف بأنفسنا مع المتابعة والإصغاء، إذ كما تقول دولت: «أين تولد وأين تعيش، شجرة أنت اقتلعت وغرست… تجذّرت أو لم تتجذّر». وهذا ما نشعر به خلال تجوالنا مع المشاهد والقصص والترحال في هذا الفيلم.
دولت/ دولتشيكا وهي الابنة البكر لأب فلسطيني مقدسي وأم أوكرانية عشقا بعضهما كما الشيوعية. معاً كوّنا عائلة وفريق نضال سرّياً في آن. فيما كان الأب المناضل نجاتي صدقي مطلوباً للانتداب البريطاني، اعتُقلت زوجته وشريكته في النضال أيضاً. بعد تحريرهما، اتخذا مسؤولية العملية السرية التي تقضي بإصدار مجلة عربية ثورية ضد الكولونيالية الفاشية والاحتلال. لكن بعد تأمين طفلتهما في ميتم روسي بعيد عن الأخطار، ومع مرور الزمن أصبحت بعيدة عنهما وعن أخيها وأختها الأصغر، وأصبحت محاولات اللقاء بينهم نضالاً إضافياً.
البراعة في معالجة الزمن والتعاطي معه على امتداد الفيلم، ومزاوجته للصورة الأرشيفية والحاضرة، الملونة وتلك بالأبيض والأسود، مع حضور الشخصيات بمراحلها العمرية المختلفة عناصر تضيف رونقاً وقوة لهذا السرد السينمائي المميز، وتُضيف سخريةً ــ رغم الألم ـــ لما تحمله العولمة والرأسمالية من مصير.
تأتي أمل رمسيس بالتاريخ والمرجعيات السياسية والاجتماعية والنضالية والسينمائية وتجمعها في نسيج واحد، هادئ ورقيق، متكاتف العناصر في مواجهة التاريخ والخسارة، بقيادة المنطق، تحثنا على المشاهدة والتفكير النقديين، وعلى استبقاء الأمل وتغذيته، والتمسك بالنضال والمقاومة.
تنشر هذه المادة بإذن من الكاتبة
….
*أمل رمسيس، مصرية المولد والهوية، درست السينما في إسبانيا، اختصّت وعملت في التوليف (المونتاج) والإخراج. أخرجت أفلاماً قصيرة ووثائقية آخرها «تأتون من بعيد» (وثائقي 84 دقيقة ـــ 2018). عام 2008، قامت بتأسيس وإدارة مشروع «قافلة بين سينمائيات» الذي يُعنى بدعم، وتعليم وتنمية مهارات النساء في صناعة الأفلام، وعرض هذه الأفلام والتعريف بها وبصناعاتها. يستمر المشروع حتى يومنا، واستمر رغم وباء كورونا في إبداع أنشطة وبرامج قيمة عبر الشبكة العنكبوتية. وبذلك تكون القافلة قد أسهمت في تدريب ما يقارب 1500 سيدة في العالم العربي وأميركا اللاتينية وأوروبا على مبادئ صناعة الأفلام، وعلى التعبير، إضافة إلى الجمهور. جدير بالذكر أن أسّست رمسيس أول مهرجان دولي لسينما المرأة في القاهرة عام 2008، لعرض أفلام مخرجات مصريات وعربيات وعالميات. علماً أنّه توقف بعد دورته العاشرة، أسوة بمهرجانات أخرى، بعدما قررت السلطات المصرية سلسلة من القوانين ينبغي للمهرجانات اتباعها كي تعمل بشكل قانوني، ومنها مثلاً أن يكون في رصيد المهرجان مبلغ يعادل 20 ألف يورو. توقف المهرجان، لكن القافلة ما زالت تسير، تماماً مثل نضالاتنا.