جزيرة غمام

كثيرة هي المُسلسلات التي تناولت التعصب الديني وإنتقدت التشدد الديني المترافق مع العنف ، وكثيرة هي القنوات الفضائية التي تعرض يومياً حوارات وفتاوى مع مشايخ لا يمتون لجوهر الدين الإسلامي بصلة ، ويفتون فتاوى لا يقبلها عقل ولا منطق . وأخطر ما يهدد الإنسان هم هؤلاء الانتهازيين اللاأخلاقيين الذين يتلاعبون بعقول الناس ويسمموها بأفكار أبعد ما تكون عن الدين ببلاغة كلامهم ومظهرهم الوقور المنافق وتسخير أجهزة الإعلام لأمثالهم .

لكن بكل موضوعية أعترف أم مسلسل ( جزيرة غمام )الذي كتبه الكاتب المبدع ( عبد الرحيم كمال ) يخطف الأنفاس ليس فقط بالموهبة العالية للممثلين خاصة ( طارق لطفي ) الذي لعب دور الشرير أو الشيطان والرائعة مي عز الدين وكل الممثلين ، بل لأن  جوهر مسلسل جزيرة غمام  كان التوجه إلى الأطفال ( الذين كان لهم دور رئيسي في المسلسل ) . الطفل الأشبه بالعجينة الطرية يُشكلها الكبار كما يريدون ، يزرعون في عقولهم أفكاراً غالباً ما تكون متطرفة وسامة . الشيخ عرفات شيخ الحق والزهد والمحبة لا يحكي مع الكبار ولا يعظهم في الدين ، ولا يخطب في الجامع ، هو يعيش وحيداً في بيت بائس قرب البحر ويعمل نجاراً ، الشيخ عرفات يجمع أطفال جزيرة غمام كل يوم حوله ويعلمهم جوهر الدين : المحبة . يُعلم الأطفال أن يقولوا : نحن أجمل شيء في الكون . يقولها الأطفال بافتتان فهم أجمل شيء في الكون خلقه الله الرحمن الرحيم ، تبدو تلك الفكرة بسيطة أو بديهية ، لكن من يتأمل معظم المواعظ الدينية وفي كل الأديان نجدها تُرسخ فكرة الإنسان الخاطئ الآثم الخائف من عقاب الله ، الإنسان الذي تغويه الشرور والنفس الأمارة بالسوء وهو ليس أجمل شيء في الكون بل هو خائف وتعيس من نتائج أعماله والعقاب المُروع حين سيمثل أمام الله يوم القيامة ، حتى في الدين المسيحي يقول الكاهن ( يُكلل عبد الله فلان على أمة الله فلانه ) أي أن الإنسان عبد لله وليس إبناً له . والمرأة أمة وليست امرأة حرة ذات كرامة . العبارة التي يرددها أطفال الشيخ عرفات : أنا أجمل شيء في الكون تُشعر الأطفال بعزة النفس والكرامة والفرح ، هؤلاء الأطفال يذهبون إلى المدرسة ( مدرسة جزيرة غمام ) حيث يتعامل مهم الأستاذ بالعصا والضرب والإذلال والتخويف ، كأن غاية العملية التربوية كسر روح الطفل وتخويفه لأن الإنسان الخائف يُمكن السيطرة عليه كلياً أما الفرح فيخيف رجال الدين المتشددين ويُخيف السياسيين ، لأن الإنسان السعيد قوي . الفرح يُخيف المستبدين ، لذا يسأل الأطفال الشيخ الصالح عرفات : مش عيب نفرح ؟ يرد عليهم بمحبة تشع من عينية وبفرح : العيب أنو ما نفرح . ورغم يفاعة أعمار الأطفال نجد أن عقولهم محشوة بأفكار خاطئة وخطيرة ، فحين يسأل الشيخ عرفات كل طفل عن أجمل شيء يحبه يجيب أحد الأطفال ( نورة أجمل شيء ) ونورة طفلة تنتفض وتهرب وتقول هذا عيب ، لكن الشيخ عرفات يحكي معها ببساطة ويُفهمها أنها جميلة وأن صديقها الطفل يراها أجمل شيء وهذا ليس خطيئة ولا ذنب .

طبعاً الشيخ عرفات ( الفاضل الزاهد ) يُقابل بحرب شرسة من قبل رجال الدين المُتشددين ( الشيخ مُحارب ) الذي يخطب في الجامع ويخوف المصلين من نار جهنم بل يبلغ به الحماس أن يصرخ : خافوا خافوا ، هو يستثمر في الخوف ، وصندوق الجامع الذي تُجمع فيه التبرعات والزكاة يضعه في منزله ولا يصرف منه قرشاً على المُصلين الفقراء ولا لتحسين الجامع ، هو يطلب منهم الصبر على الفقر فالله سيعوضهم بينما هو يعيش قمة الترف بالمأكل والملبس . يدعمه أثرياء لصوص وفاسدين في جزيرة غمام مثل ( الشيخ بطلان وأبنه الذي قتل صبية فقيرة ورمى جثتها في البحر ) ذكاء من الكاتب اختيار الأسماء ( مُحارب ، وبطلان ) . ببراعة يظهر لنا الكاتب كيف أن الشيخ المُتطرف المتشدد يشجع على العنف بحجة حماية الأخلاق ويُخوف الناس من زوبعة سوف تدمر جزيرة غمام ، لكن زميله يقول له : لا داعي لتخويف الناس من الزوبعة لأننا نحن الزوبعة ، وبحجة حماية الدين يشتري الشيخ المتطرف المتشدد السلاح من زعيم عصابة . السيناريو تحفة أدبية كأنك تقرأ رواية رائعة ، إبداع الممثلين عالي جداً الممثل طارق لطفي الذي يمثل الشيطان واسمه خلدون تفوق على نفسه في أداء دور الشيطان الذي يُشعل الفتن بين الناس وهو غريب عن جزيرة غمام هو وجماعته اسمهم ( طرح البحر أي الغرباء ) هو يتمسكن ليتكمن وكل غايته سحق الشيخ عرفات وشيطنته ، هو الصراع الأبدي بين الخير والشر ، أما مي عز الدين فأدت دورها بإبداع فاجأت جمهورها به ، وهي تحت سيطرة خلدون الذي غير اسمها من نوارة إلى ( العايقة ) أو المرأة التي تبيع جسدها للرجال ، وهي ترقص وتغوي الرجال وكل أفعالها بأمر من الشيطان خلدون . لا مجال أن أحكي عن ثلاثين حلقة ، ولا أن أصف التشويق الرائع والسيناريو المتقن والديكور المدهش لجزيرة غمام لدرجة تصدق فعلاً أنها جزيرة ، والموسيقى التصويرية تحفة فنيه كذلك أغنية المسلسل ( حط الغمام على الجزيرة ) . لا يتسع المقال لكل هذا السرد ، لكن ما ميز مسلسل ( جزيرة غمام ) هو أنه أوصل رسالة بطريقة ذكية أن أساس التربية للطفل هي المحبة وأنه أجمل شيء في الكون وأن العيب ألا نفرح ، لا تخلو حلقة من الأطفال السعداء والمُنتشين أنهم أجمل خلق الله وأن الطفلة والطفل أصدقاء ولا يوجد أي إثم أو خطيئة في لقائهما ، الطفل السعيد الواثق من نفسه وبأن الله يحبه والله هو الحب وهو الرحمان الرحيم ، الطفل السعيد سيغدو شاباً سليم التفكير يحارب التطرف ولا ينجر إلى تنظيمات إرهابية تستغل الدين وتشرعن القتل باسم الدين والتسلح باسم الدين . برشاقة آسرة ينقل لنا مسلسل ( جزيرة غمام ) الفكر النير للدين وأن الأهم هو تعليم الأطفال الدين الصحيح القائم على المحبة والثقة بالنفس وأن يحب الطفل نفسه . وأحب أن أختم بحادثة حصلت معي ، فمنذ سنوات أجريت عملية حول في العين لطفل بعمر ست سنوات اسمه أسامة ، وراجعني في عيادتي الخاصة مع أمه وأبيه فأهلت به وقلت له : مرحباً أسامة مش رح تقول لي مرحبا ! فرشقني بنظرة نارية وقال: لا يقولون مرحبا بل السلام عليكم . أمام ذهولي عرفت أنه يرتاد كل يوم جمعة وغيرها من الأيام مدارس الأسد الدينية لتحفيظ القرآن . وبأن الشيخ قال لهم لا يجوز أو حرام تقولون مرحبا بل تقولون السلام عليكم .

جزيرة غمام مسلسل عظيم أشبه بملحمة . إعطاؤه القيمة الأساسية للأطفال هو ما يميزه ويجعله أكثر من رائع .

الفرح قوة ونحن أجمل شيء في الكون . عبارة يرددها أطفال جزيرة غمام . ليت كل أطفال عالمنا العربي خاصة يرددونها ويشعرون بها .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *