أضاحي العيد

يا لأناقة هذا السجن! كم هو فسيح، البلاط من الرخام الأبيض موشح بعروق باهتة رمادية، والجدران ناصعة البياض مزينة بأجمل اللوحات لأشهر الرسامين، تحف ثمينة متناثرة في الصالون وغرفة الطعام حيث لا حواجز بينها، ثلاث غرف للنوم أنيقة معطـّرة بعطر البنفسج، يا لترف هذا السجن الجميل الذي تعمّده أشعة الشمس بنورها كل صباح، الشمس ذاتها التي ينجح بعضٌ من أشعتها بالتسلل إلى المُعتقل حيث تتلاصق الأجساد وقد انعدمت كلياً المسافة بينها، تتسلل بعض الأشعة إلى المعتقل كما يتسلل النازحون الهاربون من القصف البري والجوي إلى الحدود، حاملين أطفالهم أو جثث أطفالهم، آملين أن ينجوا بحياتهم، حياتهم فقط، فكل ما يملكونه صار حطاماً وأنقاضاً…

أشتم الشمس، ما عاد لها تأثير عليّ، فاليأس يغمرني من رأسي حتى أخمص قدمي ويحوّلني إلى كائن مشلول، لا تتمكن أشعة الشمس من اختراق طبقة اليأس الكتيمة التي نمت على جلدي كالحراشف منذ سنتين، بل منذ سنوات، منذ لحظة وعيي أنني إنسانة…المكان فسيح وأنيق ومعمّد بالنور ومعطـّر بعطر البنفسج الذي يدوخني لعذوبته، لكن جلدي ملتهب بحرارة هؤلاء المعتقلين المرصوصين المتلاصقين، وما عاد من فرق بين ذراع وذراع، وبين فخذ وفخذ، وبين مؤخرة ومؤخرة، وبين دموع ودموع، تبكي عينان فينزلق الدمع على وجنتي معتقل آخر، أتململ في المكان الفسيح، أتململ محاولة فصل جسدي عن أجساد هؤلاء، يا للرائحة الخانقة، رائحة قطيع متخمر بالعرق والدموع والدم وشح الهواء والقيء… كم أتوحد معهم، فقد أنستنا القسوة أننا بشر، كائن حي خلق على صورة الله ومثاله… لقد أعاد الجلاد خلقنا، نحتتنا يد القسوة التي لا تعرف حدوداً، حولتنا إلى أقزام وبهاليل وصعاليك، رمتنا في أقبية الاعتقال حيث يستباح لحمنا، وحيث يتحول الإبداع إلى ابتكار أشكال لانهائية للقسوة…

عُطب عقلي تماماً، حين أحضرت مرآتين ووضعتهما مقابل بعضهما البعض، ووقفت بينهما لأرى الانعكاس اللانهائي لصورتي، لكن المعجزة أن صورتي تتجلى بصور آلاف المعتقلين يقفون معي بين المرآتين… أنغمس في الألم، أعتقد أنني حين أحضّر فطوراً شهياً وآكل فإنني أستعيد شيئاً من إنسانيتي. أحاول باستماته أن أتذكر أنني إنسانة، أمضغ الطعام اللذيذ الصحي الذي ستتحول فيتاميناته ومعادنه إلى مغذيات لألمي ويأسي، أرى عشرات الأيدي تمتد إلى قصعة قذرة فيها القليل القليل من المربى الفاسد، برشاقة بديعة تلامس قطعة الخبز اليابس المربى، ثم تكورها يد المُعتقل وتدسها في فمه، يختلط طعم المربى بطعم الدم المتخثر الذي تكوم في اللثة أو باطن الخد أثر ركلات من أحذية السجان…

تعكس المرآة نظرتي وأنا آكل، شاعرةً بطعم دم متخثر في فمي، تعكس المرآة صورتي مذهولةً، أكثر ممَّ تعكس ألماً، صورة الذهول أصعب بما لا يقاس من صورة الألم، الذهول يعني القدرة التنبؤية على رؤية الدمار في كل شيء… صرتُ خرقاء، أخجل من عاداتي الجديدة، إذ أضع أصبعين على معصم يدي لأحس بنبضي، العلامة الوحيدة التي تؤكد لي أنني مازلت حية، مازلتُ كياناً حياً، إنما ليس إنسانياً على الإطلاق…

كل شيء أمسكه يسقط على الأرض. كم تغضبني تلك الصفة. هل صرتُ خرقاء حقاً؟ ينزلق صحن المربى على الأرض ويتلطخ الرخام اللماع ببقعة حمراء كبيرة من مربى العنب الفاخر، أهمّ بمسحها لكنني أجدني أقرفص بجانبه، المعتقل الذي تقيّأ قيئاً حامضاً لطعامٍ فاسد قدّموه له في المعتقل، تقيأ على رفاقه قبل أن يستقر قيئُه على الأرض أخيراً. الأجساد المتلاصقة المتلاحمة صرخت تنادي السجان: افتح الباب رجاءً، افتح باب الزنزانة كي نمسح القيء… يفتح السجان الباب، يرمق المعتقلين باحتقار، ويسأل بسخرية ولامبالاة: من الذي تقيأ؟ يشيرون إلى الشاب المريض الذي تنفتح قرحة كبيرة متوذمة في كتفه، قرحة تنزّ قيحاً دموياً متروكة بلا علاج، إثر حفلة تعذيب… يأمره السجان أن يمسح القيء بيده ثم يمرّغ القيء على رأسه. بصعوبة يتمكن من القرفصة، بصعوبة ينزلق بين الأجساد التي ترصّه بينها، ويمسح القيء ويمرّغ شعره بالسائل النتن الحامضي، ويعيد العملية مراراً حتى تـُزال آخر نقطة قيء عن البلاط…

أقرفص على أربع وأبدأ بلعق المربى ثم أتراجع، فأمسح به شعري وأتمنى لو تكتسحني مئات الدبابير وتعقصني عقصات مميتة لأرتاح…

سجني الفسيح الجميل المترف يختنق بهم، أجسادهم تلتصق بي وروائحهم تخنقني، أترنح معهم في المكان الضيق المقرف، نتحول إلى جسد واحد ينوس شمالاً ويميناً، نترنح بحركة انسجامية بديعة، لكن تتقابل عيوننا التائهة المتعبة في نظرة غامضة مذهولة، هل نترنح على شفير الحياة أم على شفير الموت؟!

لا شيء يساعدني في تهدئة روحي، لا شيء يساعدني على التحرر من الإحساس المُلحّ بالخجل من نفسي إلى حدّ البكاء قرفاً من صمتي، ومن تلك الأساليب المواربة في الكلام…

كيف تحولت حياتنا إلى عار، نحسه كل لحظة، مع كل نفـَس، مع كل شهيق وزفير… التقيته البارحة، صديقي المثقف الإنساني، الطبيب، كم بدا نحيلاً، فقد بضعة كيلوغرامات من وزنه رغم أن مدة اعتقاله لم تتجاوز عشرة أيام، كان مرآتي، مرآة روحي… حين كنتُ أنظر إليه وأصغي بكل حواسي إلى كلامه كنتُ أشعر أنني أستكشف روحي وأغوص في عتمات قلبي الذي تحوّل إلى دُمّل… قال لي إن أكثر ما عذّبه في الاعتقال ما شاهده من عذابات وحشية الآخرين، إخوته في الإنسانية، إخوته السوريين.

حدثني عن رجل مشلول بسبب التعذيب، حدثني عن الإهانات والشتائم والضرب المتواصل، بلا سبب، وعن ساعات الركوع الطويلة، واليدان مقيدان خلف الظهر بشريط مطاطي، لا يسمح بأقل حركة للرسغين… كنتُ أحس بالمهانة وكأنني قزمة وحشرة مع كل كلمة يقولها، كنا في قبضة يد تمتلكنا وتستبيحنا، وتلتقطنا على الحدود كما نلتقط ذبابة من جناحيها، ونهرسها أو لا نهرسها، نحبسها أو لا نحبسها…

كنت واحدة من هؤلاء اللذين قضوا أشهراً في زنزانة، أجسادهم متلاصقة وأبخرة العفن تفوح منهم، وقد نسوا أنهم بشر، نسوا الكلام، فصارت أصواتهم همهمة وبرطمة…

عليّ أن أنجو من نفسي بأية طريقة. أصعب أنواع الألم في العالم أن يتعذب الإنسان بسبب روحه. دخلت الحمام ورميتُ ملابسي أرضاً حتى صرته، رأيت ذراعي متوذمة، والجرح البليغ الذي أحدثه الجلاد في ذراعي ينزّ قيحاً ودماً، والأسلاك المعدنية التي جُبر بها، كسر عظم فخذي ينز منها الصدأ والقيح، وآلام لا تطاق تجعلنا – هو وأنا – نتكوم على الأرض نعوي من القسوة، من تلك الأشكال اللانهائية للقسوة… كان أخي وجاري وتوأم روحي، في المعتقل، لكنني استحضرته إلى فضائي الموحش، أردت أن أهديه قطعة صابون كي يغتسل، فهو لم يغتسل منذ أشهر، فالصابون رفاهية، لكن ما أن أمسكت قطعة الصابون حتى تحولت إلى شظية اخترقت راحة يدي وقطعت أعصابي فانسكب دمي على الأرض، وتمدّد وانتشر حتى تماهى مع دمائهم، هؤلاء البعيدين القريبين إليّ كشغاف قلبي…

لن أستحم، سأتوحد معهم في خزي الإنسانية جمعاء…

سأترك روائح جسدي النتنة كعلامة وكشاهد على نتانتهم المقرفة وفساد أخلاقهم.

هل يتطلب الانتحار شجاعة؟ ينبثق هذا السؤال المستفز من عقلي ويجعلني أغمض عيني إعياءً وأنا أغوص في السؤال المتحدي… هل من الشجاعة أن أوقف حياة الذل والعار في لحظة، وأعبر إلى عالم آخر، أقصد أنزح إلى عالم آخر كآلاف النازحين الذين هُجِّروا من بيوتهم وأحيائهم التي حوّلها القصف إلى أنقاض… هل الحياد هو مجرد البقاء على قيد الحياة؟!

أليست قمة مأساوية الوجود الإنساني والبشري أن تكون الحياة هي مجرد تراكم رقمي لتعاقب الليل والنهار؟…

أنا مرآته أو هو مرآتي، أنا مرآتهم وهم مرآتي، لا فرق كلنا سوريون، كلنا يتفرج علينا العالم ويستنكر ويشجب ويدين ما يجري لنا، كلنا سوريون ننزف وننزح ونعتقل، يا لروعة حرف النون! يالمتعة اللهو باللغة!… أكتب: نشجب، نستنكر، ندين.

وتحتها مباشرةً ننزف، ننزح، نُعتقل.

الذي يقصف بالطائرات سوري، والذي يقتل سوري، والذي يعتقـَل سوري، والمُعتقل سوري، والجلاد سوري، والضحية سوري، والنازح سوري، والشهيد سوري، والجيش النظامي سوري، والجيش الحر أو بعضٌ منه سوري… وأغنية “أنا سوري آه يا نيالي” تجعلني أنطوي من الضحك الهستيري، والعار سوري، واليأس سوري، والانهيار سوري… وتصحّر القلوب سوري…

والمطبّلون والمزمّرون في الفضائيات من أجل جمع الأضاحي من أجل السوريين، أقول لهم: لا داعي، لا داعي، فالأضاحي السخيّة هي السوريين، ألسنا نحن أضاحي العيد…

أترنّح بجانبه في السيارة، معصوب العينين، أجلس على الكرسي ذاته الذي يجلس عليه، أقدّر كما قدّر تماماً أن عدد المحققين ثلاثة، يتهمونه بالخيانة، يتهمونني بالخيانة، لا يسمحون له أو لي بأن نعلق أو نسأل: ما المطلوب منا؟ ما شكل الشخصية التي فصّلتموها لنا؟…

لا يهمني أن السوري يستجدي الطعام والشراب والمال، صار يستجدي الحياة، أستجدي الحياة كي ترأف بالسوريين، كي لا يفقدوا عقولهم حيال كل هذا العذاب الذي يضيق به قلب إله…

أستجدي الحياة كي تعيد إلى السوري ذاكرته أنه إنسان، وليس شظية من إنسان أمعنت آلات القتل في قتله.

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (40): أرملة الساحل السوري

جميع السوريين (خاصة سكان اللاذقية) التي كانت تستحق بجدارة لقب (عروس الساحل السوري) مُروعين ومصدومين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *