سهرة مع إلياس خوري وروايته ” رجل يشبهني ” -القسم السابع

XIX

الضمير المعذب لبعض العائدين

في العام ١٩٩٦ ترجمت دراسة الأستاذ الألماني ( Stefan Wild ) عن رواية غسان كنفاني “أم سعد” . كان عنوانها “أم سعد والضمير المعذب للثوري”، والثوري هو الذي كان يصغي إلى أم سعد تقص عن حياة اللاجئين في المخيم ومعاناتهم ، ولم يكن قادرا على حلها. تبادر إلى ذهني العنوان وأنا أكتب عن “العائدين والكرامة الناقصة” وقلت إن هناك لا شك فضيلة لهؤلاء وضميراً ما يعذبهم أبرزه إلياس خوري، بخاصة حين كتب عن معركة مخيم جنين ودور الفدائي أبو جندل فيها وعن معركة نابلس ودور خليل أيوب فيها. فهذان لم يكونا من العائدين الذين اشتكى قسم من الناس منهم وتذمروا من سلوكهم وتصرفاتهم. لقد كانا من العائدين الذين لم تمت روح الفدائي فيهم؛ الفدائي الذي قبع في أعماقهم وحين آن الأوان انطلق من قمقمه .

نغمة الرواية عموما تميز بين من سار في فلك أوسلو ودافع عن سلامها وبين من خاض المواجهة ولم يتخل عن القتال في انتفاضة الأقصى .

هاجم آدم، ومن ورائه إلياس، أوسلو وما أدت إليه، ووقف إلى جانب رافضيها من العائدين، ممن ضحوا في انتفاضة الأقصى وأغلبهم من غير العائدين. هكذا فهمت مما كتبه عن معركة البلدة القديمة في نابلس. لقد شعر هؤلاء، كما أوضحت من قبل، أنهم جاؤوا ولم يعودوا، فالعودة لخليل أيوب تعني العودة إلى الغابسية لا إلى رام الله، وظل ضميرهم الثوري يعذبهم.

في المشهد الذي أكل فيه خليل أيوب الكنافة النابلسية في شارع النصر جرى حوار بينه وبين الكنفنجي، وعقب الأخير بالعبارة الآتية التي كنت اقتبستها: “شو هالحكي! لا يا حبيبي، إحنا اخترعنا الكنافة والكنافة بتتاكل لوحدها، ما بينضاف إلها إشي، الله يساعدنا على بيروت وأهل بيروت”. وعبارة “الله يساعدنا على بيروت وأهل بيروت” عبارة دالة دلالة كبيرة لم أتوقف أمامها، وتعبر عما يعتمل في نفوس بعض الفلسطينيين المقيمين.

لم ينجز العائدون الدولة الفلسطينية المستقلة وصاروا موظفين قبل أن يحالوا إلى التقاعد ويحصلوا على امتيازات صاروا يدافعون عنها ونسوا الهدف الذي عادوا من أجله أو أنسوه قصداً – (خطة دايتون)، ومنهم من حصل على امتيازات من الإسرائيليين كان الحاصل عليها قبل أوسلو موضع شك وريبة وغالباً ما كان يتهم بالعمالة. كما لو أن العائدين، بامتيازاتهم، صاروا الأسياد على المقيمين وأصبحوا في الوقت نفسه عبيد امتيازاتهم التي منحها إياهم الإسرائيليون.

من المؤكد أن هناك وجهات نظر متعددة في الموضوع يرويها كل حسب موقعه، فالعائدون لم يعودوا إلا بعد أن ضاقت “بهم الأرض العربية وحشرتهم في الممر الأخير”، والسطر لمحمود درويش. لقد عادوا ليدفنوا في أرض بلادهم، وكانوا أحياناً في المنافي لا يجدون لهم قبراً، وحكاية معين بسيسو وناجي العلي ودفنهما في القاهرة ولندن حكاية.

أليس في استشهاد أبو جندل وخليل أيوب فضيلة تحسب للعائدين؟

مما لا شك فيه أن هذين ومن قاتل واستشهد مثلهما يختلفون عن أولئك الذين عادوا مع السلطة قانعين بالعودة والامتيازات وأولئك الذين عادوا وسووا أوضاعهم المالية ثم رجعوا إلى المنافي ثانية.

كلامٌ كثير قيل وما زال يقال في هذا الموضوع لم يظهر إلى العلن ولكنه يتهامس به. هذا ما تقوله عبارة الكنفنجي لخليل أيوب “آه من بيروت وأهل بيروت” وتقول أيضاً أشياء أخرى، فالعائدون من بيروت كانوا منفتحين بسبب طبيعة الحياة المنفتحة فيها، والباقون صاروا منذ انتفاضة ١٩٨٧ محافظين اجتماعياً. لقد اختفت مظاهر الانفتاح التي كانت سائدة قبل الانتفاضة فأغلقت دور السينما والخمارات وارتدت النسوة الحجاب واختفت مظاهر الاختلاط بين الذكور والإناث في الأعراس.. إلخ، وبذلك لم يتقبل المقيمون سلوك العائدين إلا في قليل من المدن مثل رام الله وأريحا، أما نابلس وجنين والخليل فقد اختلف الأمر فيها.

وأنا أفكر في هذا في “رجل يشبهني” حضرت رواية فاروق وادي “سوداد: هاوية الغزالة” (2022) في ذهني. كان ياسين شخصيتها المحورية شخصية انتهازية تماماً، فهو “لم يخض حرباً في يوم من الأيام من أجل الوطن. لم يخض حتى معركة خاسرة ليقول في نفسه باعتداد: ومع ذلك فقد خضتها بشرف. لم يبذل قطرة من الدماء الزكية التي بذلها آخرون من أجل الوطن. لم يرفع علماً في مظاهرة أو يافطة احتجاج عند باب سفارة معادية.. لم يبدد قطرة واحدة من مواد قلمه لأجل الوطن”. إنه متسلق وانتهازي وفيه من النقائص ما فيه، وقد عاد مع العائدين، لكن فضيلته الوحيدة أنه عاد إلى الوطن. عاد إلى وطن بدا له “خواء. فضاء فظ لا يحتمل، فيما العالم كله، حتى العالم المترامي الأطراف خارج الوطن، تجلى له قاسياً، موصداً، بلا معنى”. عاد ياسين ليموت غريباً وحيداً ومتروكاً فوق تراب الوطن. لم يمت ميتة أبو جندل وخليل، ولم يتشابه ماضيه مع ماضيهما الثوري، ولكنهم يتشابهون في أنهم ثلاثتهم ماتوا في أرضهم. هل تكفي فضيلة العودة لتغسل ذنوب ياسين؟

لعلني أقارب في الكتابة القادمة نهاية آدم دنون وطريقة موته في المنفى، وهي بلا شك طريقة موت لا يرغب فيها أحد.

في شبابه كتب محمود درويش:

“وأبي قال مرة:

الذي ما له وطن،

ما له في الثرى ضريح،

ونهاني عن السفر”

ومن قبل قال إبراهيم طوقان:

“فكر بموتك في أرض نشأت بها

واحفظ لموتك أرضا طولها باع”.

قبل أن يتوفى إميل حبيبي أوصى بأن يدفن في حيفا ويكتب على شاهد قبره: “باق في حيفا”.

لعل البقاء على أرضنا هو فضيلتنا، ولعل هذه هي فضيلة العائدين ولا أقول الوحيدة.

XX

خيبة النهايات وقسوتها

تنتهي “رجل يشبهني” بتذييل يأتي على نهاية آدم: في العاشرة من صباح السبت 11 آذار 2007  شمت سيدتان تقيمان في الطابق الثاني رائحة غريبة تنبعث من الشقة رقم 9، فاتصلتا برجال البوليس الذين حضروا وخلعوا الباب فوجدوا رجلاً ملقى بثيابه على سريره وتنبعث منه رائحة الموت، وبعد معاينته طبياً عرفوا أن آدم قضى بسبب جلطة دماغية عطلت قدرته على التنفس، فمات مختنقاً. تذكر هذه النهاية لآدم بنهاية الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي حضر في الثلاثية. وكان راشد حسين توفي أيضاً في نيويورك في بداية شباط 1977 في ظروف غامضة ، فقد عثر عليه في شقته ميتاً.

في صفحة 288 نقرأ على لسان آدم الآتي: “كان لا بد من راشد حسين كي تكتمل قصة وضاح، وكان لا بد مني، أنا آدم دنون، كي تكتمل قصة راشد.. أما قصتي فلن تجد من يكملها. هكذا الأدب. إنه بحث عن النقصان لا عن الاكتمال”.

ولكن إلياس خوري أكمل قصة آدم وكتب نهايتها. ولعل ناقداً بنيوياً يفيد من منهجه ويدرس العلاقة بين الأحداث والشخصيات والأجزاء في  “أولاد الغيتو” ويخبرنا عن شكلها: – أهي علاقة تواز أم علاقة إكمال أم علاقة تعارض؟

ولكنا لو نظرنا في قصة الثلاثة ومآلهم سنرى بلا جهد نبذله أنها علاقة تواز، لا علاقة تعارض ولا علاقة إكمال . الثلاثة أحبوا وأخفق حبهم والثلاثة عانوا في بلادهم وهاجروا منها والثلاثة ماتوا في المنفى غرباء عن ديارهم. ولو نظرنا أيضاً في مآل اللد وعيلبون وأبو شوشة؛ البلدات الفلسطينية التي كتب عنها إلياس في “رجل يشبهني” للاحظنا تشابه الأحداث وتشابه النهايات، ولو نظرنا أيضاً في مآل ياسر عرفات وأبو جندل وخليل أيوب لما وجدنا شيئاً مختلفاً. عاد الثلاثة إلى فلسطين إثر اتفاق أوسلو وحوصروا في جنين ونابلس ورام الله وماتوا.

وربما أذهب إلى ما هو أبعد مما سبق فأربط بين نهايات الشخصيات هنا ونهايات الشخصيات في رواية ثانية لإلياس خوري هي رواية  “مملكة الغرباء”1993. عاشت الشخصيات غريبة وماتت غريبة أيضاً.

وعموما فإن التشابه بين آدم وراشد يبدو أوضح ما يكون؛ كلاهما أحب امرأة يهودية وأخفق في حبه، وقد نضيف إلى تجربتهما تجربة محمود درويش وريتا وتجربة صليبا خميس وزوجته آرنا، لتصبح المعادلة على النحو الآتي:

– راشد  –  آن  = حب وإخفاق وانفصال

– محمود  – ريتا  = حب وإخفاق وانفصال

– صليبا  – آرنا  = حب وإخفاق وانفصال

– آدم  – دالية  = حب وإخفاق وانفصال.

كما لو أنه لا نجاح لحب في ظل الحرب إذا كان المحبان ينتميان إلى القوميتين المتحاربتين، وهو ما عبر عنه درويش في أكثر من قصيدة:

“بين ريتا وعيوني بندقية”

“عن حلمين يتقاطعان وينفصلان، فواحد يستل سكينا وآخر يودع الناي الوصايا” . كما لو أن الحب يستحيل لأنه غير ممكن إلا إذا نما البنفسج في خوذة الجندي، والتعبير أيضا لدرويش، وهذا مستحيل.

ومشكلة آدم ومن قبل راشد ودرويش أنهم يعيشون في الماضي وغير قادرين على نسيانه حتى حين هاجروا. لم يعيشوا الحاضر وظلوا أسرى الماضي. هكذا أفهم من الرواية.

“يجب أن أعود إلى اللد.

لكن عن أي لد أتكلم. حتى الغيتو الذي احتل مخيلتي هنا في نيويورك صار أطلالاً. هل أستطيع العودة إلى أطلالي؟….

انتهت اللعبة، سأبيع حصتي في  “بالم تري”، ليس من أجل أن أستعيد دالية، كما أقنعت نفسي، بل من أجل أن أستعيد روحي.

وروحي هناك، تعانق أمي الأولى التي بنت عشها على أغصان شجرة زيتون تقف وحيدة في الوعر…

هل أستطيع؟…

“سأعود إلى اللد، وأبدأ من جديد” قلت.

ولكنه لم يعد. ظلت اللد له كما حيفا لراشد وكما الكرمل لدرويش. لم تنس نيويورك الأولين حيفا واللد، ولم تنس باريس والبحار الثالث سرو الكرمل. هكذا قال راشد:

“أتيت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى

فقالوا:

أنت مجنون ولن يشفى

أمامك جنة الدنيا،

ولست ترى سوى حيفا”

وهكذا صرخ درويش:

أدخلوني إلى الجنة،

سأصرخ صرخة ناظم حكمت:

“يا وطني!”.

عاد راشد إلى قريته مصمص جثة، ليدفن فيها، وعاد درويش الذي توفي في أمريكا أيضاً إلى رام الله جثة ليدفن فيها، ومثلهما ياسر عرفات، وأما آدم، وبناء على وصيته فلم تجر أي مراسم جنائزية، بل تم إحراق الجثة ونثر رمادها في نهر الهدسون، بحضور شخصين.

هل انتهت اللعبة حقاً ؟ هل انتهت الحكاية حقاً؟

في العام الماضي قتل الإسرائيليون ما لا يقل عن 200 فلسطيني في الضفة الغربية، ومات غرقاً في البحار ما لا يقل عن 50 مواطناً من غزة ، وصباح هذا اليوم 19 /1 /2023 صحونا على خبر قتل الإسرائيليين مواطنين من مخيم جنين.

About د.عادل الاسطه

Check Also

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *