حضرت مقابلة عظيمة مع شاب سوري من قرية البيضا في الساحل السوري قرب بانياس ، المقابلة طويلة حوالي ساعة ونصف ، ورغم أن كل عبارة كان يقولها الشاب كانت تترك نزوفاً في روحي إلا أنني تابعتها حتى آخر كلمة ، الشاب جميل ولديه كاريزما عالية وذكاء وقدرة عالية على التعبير وعلى تحليل ما حدث له في عدة سجون ( سُجن في عمر 17 سنة وتنقل من سجن إلى سجن حتى استقر في سجن صيدنانا الرهيب وبقي فيه ثلاث سنوات حتى عمر العشرين ) . قال أن سجن صيدنايا بنائين بناء أحمر وبناء أبيض والبناء الأحمر مدهون بدماء السجناء الذين قُتلوا . يحكي الشاب ابن قرية البيضا وهو يبتسم طوال الوقت وحديثه شيق كأنه يحكي قصة شخص آخر .وكان معه في السجن ابنة خالته وتوأم روحه وكانا يعزيان بعضهما همساً لأن الحديث ممنوع بين السجناء فيضطرون للهمس .
لا داعي أن أسرد طرق التعذيب المُروعة التي تعرض لها مساجين سجن صيدنايا ، فكلنا نعرف وحشية السجان في سجون كثيرة في العالم العربي خاصة ( وفي دول غربية كثيرة أيضاً ) ورغم أن والد الشاب كان ضابطاً متقاعداً في الجيش السوري إلا أنه لم يتمكن من مساعدة إبنه والإفراج عنه ، إذ أن هناك خطة بنقل السجناء من سجن إلى سجن كي لا يعرف الأهل أين ابنهم المُعتقل . أحب أن أذكر حادثة واحدة فقط هي حين طلب السجان من الشاب المُعتقل ( ابن قرية البيضا) أن يحدث جرحاً بليغاً وعميقاً وطويلاً في ظهر أحب إنسان إلى قلبه ( ابن خالته ) وكيف أن السجان أعطى ابن الخالة مسدساً وطلب إليه أن يطلق رصاصة على قريبه .وإن لم يُنفذا الأوامر فالقتل مصيرهما . ورغم أن هذا الطلب يدفع إلى الجنون فقد نفذا الأوامر ، إذ أمسك ابن البيضا مفك البراغي الذي أعطاه إياه السجان وأحدث جرحاً عميقاً وطويلاً في ظهر حبيب القلب الصديق وتوأم الروح ( ابن خالته ) وقام ابن خالته الذي أعطاه السجان مسدساً بإطلاق النار على صديقه وأصابه برصاصة في حوضه مم تسبب بنزف غزير كاد أن يموت بسببه .
جريمة الشاب ابن قرية البيضا أنه شارك بمظاهرات عديدة مطالباً مع شلة من رفاقه ومعظم سكان قرية البيضا ( نساء ورجالاً ) بالحرية . وكلنا نذكر تلك اللقطة المهينة شباب قرية البيضا منبطحين أرضاً وأيديهم خلف ظهورهم والكثير من عناصر الجيش والأمن يقفزون فوق أجسادهم وهم يرددون عبارة : بدكون حرية ما هيك وعفس عفس هالخاين . ، قال الشاب أنه أحس بحصى الطريق الصغيرة تنغرس في وجهه من قوة الضرب ومن ثقل الرجال الذين يقفزون فوق أجساد شبان البيضا . تعذيب وحشي كان يحكيه الشاب الرائع ابن البيضا والابتسامة لا تفارق وجهه وتحدث عن التعذيب الجسدي والجنسي والنفسي وكيف أن أحد زملائه في السجن مات من الخوف وأنه اكتشف أن الضغط النفسي الكبير والخوف إلى حد الذعر قد يؤدي إلى الموت ، كل يوم كان يموت عدة شبان ليحضروا بدلاً منهم معتقلين آخرين ، بعض السجناء كانوا يموتون من الحكة الشرسة فهم لا يستطيعون التوقف عن الحك بسبب الجرب ، حكة تؤدي إلى نزيف في كل جسمهم ولأنه غير مسموح للسجين إلا بكأس ماء في اليوم فكان الدم النازف من الجسم والسوائل المرافقة له كافية بموت هؤلاء السجناء ، وكان الدود ينغل في جروح المعتقلين بسبب التعذيب !
طوال ساعة ونصف الساعة كنت أبحلق مبهورة بالشاب الجميل المُبتسم دوماً وأتساءل : ترى لم لم يكسروا أسنانه !! لأن أسنانه كانت جميلة جداً ، ومات صديقه وتوأم روحه ابن خالته مات راغباً في الموت إذ أضرب عن الطعام وأراد أن يرتاح من حياة الجحيم ( وأظن كلمة جحيم كلمة مُلطفة جداً تجاه عالم الرعب والإجرام ) حيث أن الضرب والتعذيب لا يتوقف كل يوم حتى والسجين ذاهب إلى المرحاض كانت تنهال عليه العصي وآلات حادة بالضرب فيقفز محاولاً تفادي الضرب .
قال المعتقل ابن البيضا أنه مر بمرحلة في سجن صيدنايا متسائلاً لم هو حي ؟ وما الغاية من الحياة ، لكن بعد موت صديقه الحميم وتوأم روحه ابن خالته أحس أنه صار يقلده في ابتسامته وطريقة كلامه وأحس أنه لم يمت بل حاضر في روحه بقوة .
أكثر ما استوقفني في المقابلة أن الشاب تعرف بطبيب نفسي في سجن صيدنايا ( وكان السجن يغص بالأطباء والمهندسين والمحامين الخ ) وهو كان طالب بكالوريا ، حاول الطبيب النفسي التقرب من الشاب وقال له : لا تكتئب أتعرف أفضل شيء يحدث لنا في السجن ؟ بحلق به ابن قرية البيضا وقال: وهل يحدث لنا شيء جيد في السجن ؟! أجاب الطبيب النفسي بكل ثقة : أجل أفضل ما يحدث لنا في السجن هو التعذيب ، واسمح لي أن أشرح لك كيف ، تخيل لو أنك جالس طوال الوقت في هذا المربع الصغير الذي بالكاد يتسع لك مقرفصاً يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وسنه تلو سنه ، سيتجمد الدم في عروقك ، ستجن ، ستكون عاجزاً عن الحركة ، حين يعذبك الجلاد فأنت تتحرك تلوي كتفك وتحرك عنقك وتقفز على رجليك ، حين تذهب إلى المرحاض فأنت تمشي في رواق طويل تحت الضرب حتى تصل المرحاض لكنك تتحرك وكل ضربة يوجهها لك السجان وأنت قاصداً المرحاض تجعل عضلات كثيرة في جسمك تتحرك وبالتالي الدورة الدموية في جسدك تتحرك ولا تموت . هذه الفكرة الصحيحة طبياً ونفسياً جعلت المراهق ابن البيضا يقاوم الجلاد ولم يمت وهو مذهول فعلا كيف لم يمت !
أن يكون التعذيب المُروع للمعتقلين في السجون وقاية من الموت بل رفاهية ، فكرة قد تدفع إلى الجنون ، لكن تبدو منقذة في جحيم سجن صيدنايا المؤلف من مبنيين ، أحدهما أحمر لأنه مصبوغ بدماء المعتقلين الذين قتلوا .
طوال وقت حضوري المقابلة مع العظيم ابن البيضا كنت أتساءل : لم لا أكون أنا في مكانه فأنا مثله أريد الحرية ، وهو لم يقتل ولم يحمل سلاحاً بعمر خمسة عشر عاماً تظاهر بحماسة الشباب أنه يريد حرية ، هذه هي جريمته الوحيدة أنه يريد حرية ، وكلمة حرية في سوريا تعني أن مصيرك الموت ، ثم بدأ عقلي يفرز تساؤلات لم لا يكون مصير كل سوري مثل مصير المراهق ابن قرية البيضا ؟!!ما الذي يمنع ؟ مئات الألوف من الشباب والشابات تظاهروا سلمياً فقط مطالبين بالحرية وكان مصيرهم الاعتقال أو الموت تحت التعذيب وبعضهم كان له الحظ أن ينجو . وأن يهرب من وطن يعتبر الحرية مرادفة للموت ، الكلمة الأخطر في وطن الصمود والتصدي والممانعة .
حالياً ابن قرية البيضا طالب في جامعة هارفرد في أمريكا وهي من أرقى الجامعات . نزح أولاً إلى السويد وتعلم لغتها . وتفوق في دراسته في جامعه هارفرد . ما ساعده ألا ينهار نفسياً طبيب نفسي مُعتقل أقنعه أن أفضل ما يحصل في السجن هو التعذيب لأنه يحرك الدورة الدموية .
كل سوري هو ابن البيضا العظيم الذي جعلني أتساءل أية قوة جبارة يملكها الإنسان على التحمل وكم أن ثمن الحرية باهظاً . ولا يزال السؤال يؤرقني لم لم أكن أنا بدلاً منه في سجن صيدنايا ؟ لم لا يكون كل شاب سوري وشابة سورية مكانه ؟! كل الشعب السوري يريد حرية أي أنه يختار طريق رحلة درب الآلام التي قد تنتهي بموته تحت التعذيب وتحويل دمه إلى دهان لجدران السجن أو يكون له الحظ أن يهرب ويرفع اسم سوريا عالياً متفوقاً في أرقى جامعات العالم ويكون أيقونة السوري في الغرب لعظمه ما تحمله ولنجاحاته .
ابن البيضا الشاب المؤمن بالحرية أنت أيقونة الحرية وفخر سوريا الحرية .