أفكار منتصف النهار(7): الملكة والوصيفة

تحدث الكثيرون عن علاقة الثقافة بالسياسة ، وعن أنماط من المثقفين الذين يثمنون أفكارهم ويبيعونها – كما في مزاد علني – لسياسيين يروجون لأفكارهم وسياساتهم ويقبضون الكثير من المال ويتمتعون بالكثير من العطاءات ، تلك الكلمة التي صارت من مميزات حكام الاستبداد ( عطاءات القائد ) !! كما لو أنه يخرج الليرات الذهبية من جيبه ومن ماله الخاص ويعطي من يطبل له ويُزمر .  أفهم تلك الظاهرة لدى من هم ضعاف النفوس والأهم لا يتمتعون بموهبة عالية ، لأنني أؤمن أن الموهبة العالية الأصيلة في كل مجال سواء في الشعر أو الرواية ، الرسم أو الغناء لا تقبل أن تُرتهن لأحد ، وترفض الإغراءات والعطاءات مهما كانت مُغرية ، بل وتقبل أن تدفع ثمن تميزها وإبداعها العالي الذي ينطلق ويصب في الحرية ، فلا معنى لإبداع لا تكون رسالته حرية الإنسان وكرامته .

لكن ما آلمني وأثار دهشتي في السنوات الأخيرة وخاصة بعد انطلاق ثورات الربيع العربي ، ثورات الحرية والكرامة رغم تعثرها ومحاولات تشويهها وشيطنتها ، ما آلمني أشد الألم أن ثلة من أصحاب المواهب العالية جدا” سواء في الغناء أو الكتابة أو التمثيل قبلوا أن يكونوا بوقا” لأنظمة الاستبداد ! وأن يُلمعوا صورتها ويُلصقون بها ما تحاول تلك الأنظمة الاختباء وراءها كمفهوم العروبة وحماية الأقليات ووحدة الوطن . ما الذي يدفع مطربة مشهورة وصوتها رائع ولديها جمهور في كل أنحاء الوطن العربي وتُقدم فنا” راقيا” جدا” لجمهورها الذي يحفظ كل أغانيها ، إلى تلميع صورة حاكم بلدها المستبد الذي كان لديه 600 محظية والذي سجن كل صاحب فكر حر بل صدرت عدة روايات تفضح ممارساته واستبداده وتكشف عن ثروته الخيالية ! ؟ لا تحتاج تلك المطربة الأصيلة في الغناء وصاحبة الصوت الرائع لأن تكون تابعة وبوقا” لحاكم أو سلطة مستبدة فهي ثرية وناجحة ومحبوبة ويمكنها على الأقل أن تصمت إن لم ترد أن تجهر أن حاكم بلادها مُستبد ، يُمكنها أن تضع نصب عينيها فنها الأصيل وألا تتطرق ولا بكلمة واحدة للحاكم المستبد أما أن تقول أنه شجعها وأنه مثقف موسيقيا” فهذا يقلل من مصداقيتها تجاه جمهورها ، عدا أنني ممن يؤمنون أن للفن غاية وهي تحريض الناس على المطالبة بالعيش الكريم والحرية والكرامة وعبارة الفن للفن ناقصة لأن الفن رسالة بالنتيجة . أصبت بخيبة أمل كبيرة وأنا أسمع تلك المطربة التي لديها تاريخ حافل من النجاحات والشهرة والتي تتمتع بموهبة عالية تمتدح طاغية وتقول عنه بأنه موهوب فنيا” وموسيقيا” ! كيف يمكن أن يكون موهوبا” وهو يزج بأصحاب الفكر الحر في السجون ويقتلهم ويسرق المال العام ثم يُعيد إنتاجه تحت شعار ( عطاءات الحاكم ! ) . الأمر الأكثر مرارة أن بعض الكتاب اللامعين وموسوعيي الثقافة والذين تلمذوا أجيالا” على ثقافة الحق والمعرفة الحقة ، وكتبوا في أهم الجرائد والمجلات مقالات رائعة تحلل تراثنا العربي والتراث الغربي ، ونظموا العديد من المؤتمرات خاصة تلك التي تدعو لمحاربة العنف ضد المرأة ومؤتمر مثل بمناسبة مرور مئة عام على وفاة قاسم أمين ، هؤلاء أصحاب الفكر الحر والإنتاج الفكري والأدبي عالي الموهبة والغزارة وبعضهم وصل إلى مرتبة وزير الثقافة ، نرى بعضهم كمن أصابه انفصاماً في الشخصية يقبل في لحظة ما تكريما” من طاغية حكم شعبه أكثر من 43 سنة حكما” مستبدا” ومُروعا” في وحشيته ويسيل لعابه لجائزة أدبية تزيد عن 150 ألف يورو ! أين مصداقية هذا المثقف ؟ كيف سيبرر لجمهور عريض في كل أنحاء الوطن العربي تلك السقطة التي لا تُغتفر ، كيف يكتب كتبا” في الثقافة الحرة ويمجد إنسانية الإنسان ويعرف أنه صاحب موهبة عالية ويقبل عطاءات جلاد لمجرد أنه رئيسا” للبلاد والعباد وهو في أعماقه يعرف أنه يقبل هديه من قتل مئات الآلاف من الشبان والشابات المطالبين بالحرية والعيش الكريم !! هل يعتقد هؤلاء أنه يمكن الضحك على الشعب أو أن تاريخهم الحافل بالمنجزات الأدبية الرائعة وعالية الثقافة والموهبة يشفع لهم ! أليس قبولهم تلك العطاءات من ممثل نظم الاستبداد هو أكبر احتقار للشعب ، ألا تمحو سقطتهم هذه كل صورة التقدير والاحترام واتخاذهم مثلاً أعلى خاصة للشباب المتعطشين لمثل أعلى . ألم تفرز السنوات الخمس منذ انطلاق الربيع العربي روايات قمة في الرداءة والاستعجال في كتابتها من قبل روائيين لهم تاريخ مُشرف في الكتابة ولديهم روايات وقصص عظيمة فنيا” وإنسانيا” ! وكأن مسا” أصابهم فأرادوا أن يمتطوا حدث الربيع العربي كما لو أنهم يمتطون حصانا” فكتبوا روايات قمة في الرداءة والأدهى نشرتها لهم في كتيبات دوريات شهرية تُصدر كل شهر كتابا” ملحقا” بالجريدة ! ما الذي يدفع بهؤلاء الروائيين أو أصحاب الفكر الذين يملكون تاريخا” حافلا” من الإبداع الحر والموهبة العالية أن يُرتهنوا لحاكم مُستبد وأن يحاولوا تلميع صورته ! ما أحوجهم إلى ذلك ليفقدوا دفعة واحدة مصداقيتهم أمام جمهور كان مؤمنا” بهم لعقود . الأمر ليس ببساطة ولا يكفي على الإطلاق تفسير ذلك السقوط وتلك الخيانة بأن الأمر مجرد إغراء مادي وجوائز يسيل لها اللعاب لأن هؤلاء حصدوا شهرة ومالا” ، لكن الأمر في حقيقته هو أن الثقافة العربية وعلى مدى عقود طويلة ظلت تعاني من مرض أخطر من السرطان وهو كونها خادمة للسياسة . فالسياسة دوما” هي الملكة والثقافة هي الوصيفة إن لم نستعمل التعبير الأكثر دقة وخُزياً : السياسة سيدة والثقافة خادمة . وهذه العقدة النفسية يبدو أنها مُتجذرة في نفوس أهم الموهوبين والمثقفين في كل المجالات إذ يصعب على أحدهم رفض عطاءات وسلطة الطاغية ، كما لو أن هناك مرضا” نفسيا” أبدع مصطفى حجازي في تحليله في كتابيه العظيمين ( سيكولوجية الإنسان المقهور – وسيكولوجيه الإنسان المهدور ) أي أن هناك حالة من التماهي مع المعتدي لا يسلم منها حتى أكثر المبدعين الأصيلين نجاحا” . ويكفي أن نعرف أن إسرائيل تقدم أعلى جوائز أدبية في العالم لنعرف الخلفية النفسية والحقيقية لضعف النفوس وقبول العطاءات .

أتمنى أن تسلط الأضواء بجدية كبيرة على تلك الظاهرة ، وهي كون الثقافة في عالمنا العربي وعلى مدى عقود وعقود خادمة للسياسة وغير قادرة على الانفصال عنها . وأخيرا” أوجه كل التقدير والإعجاب والمحبة للكاتب المصري المبدع صنع الله ابراهيم الذي رفض جائزة الرواية العربية في القاهرة لأن السفارة الإسرائيلية تبعد أمتارا” قليلة عن مسرحية واحتفالية جائزة الرواية العربية . فإلى متى ستظل الثقافة وصيفة والسياسة ملكة !!

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (38) العنف والإجرام عند الطفال والمراهقين .

كل مدة نسمع عن جريمة مروعة قام بها مراهق ( أحياناً أطفال 8 سنوات مثلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *