من الأسطر الأولى يقول ماهر راعي : لا أحتاج سوى صفحة ، فأنا مُقبل على كتابة تاريخ هذا العالم ، لا أحتاج إلا لصفحة من دفتر أبو الخمسين .
نادراً ما نقرأ شعراً ( أو نصوصاً شعرية ) تُذكرنا بالحياة ، كأن ما نعيشه عبثاً وتكراراً أبدياً ليوم ككل يوم ، وهدر وجودي ومعاناة تزاد يوماً بعد يوم .ماهر راعي يُذكرنا بالحياة بالانتباه إلى تفاصيل للوهلة الأولى نعتقد أنها بسيطة ، لكنها لا تبرح خيالنا وتترك وشماً في الروح والذاكرة ، ما يكتبه يُمكن تشبيهه بصور لكاميرا يبدع صاحبها في التقاط تفاصيل الحياة ( في سوريا بشكل خاص ) . في مقطع شعري بعوان : ( لا نرى إلا ) يكتب ماهر راعي :
تمر الصبية بشعرها المُغطى – أنا والمارون لا نرى إلا شعر الصبية –ماذا لو قلنا : تمر الصبية بشعرها الكستنائي – أو تمر الصبية بشعرها المموج – أو شعرها الطويل – تمر لا يمر شعرها – أنا والمارون نرى فقط شعر الصبية – رجل يمر بلا عطر – وامرأة بلا عطر تمر – أنا والمارون لا نشم عطر الصبية – أنا والمارون لا نرى إلا شعر الصبية .
في جزء من مقطع آخر بعنوان ( ماذا يقول ) : عندما غسلوا الميت لم يكن سواي صامت – عندما عمدوا الطفل لم يكن سواي ..- صامت – تساءلت بصراخ …كيف يقيمون كل هذا الصخب .
مقطع من قصيدة ( أصابعه ) الأصابع نفسها تعلمت باكراً كيف تمسك – بالرمح الواقع بين الفخذين – تمسده كثعلب صغير ليهدأ –الأصابع ذاتها ستشتمني – لأنني لا أحبها – طالما اقتنعت أن المسافة قاسية جداً – بين الوجه الصغير وحذائي المغبر .
في مقطع شعري بعنوان (البيوت لا تستعمل لغة الإشارة ) قولي
للتلفاز أن يُخفف قتلاه –فالموتى يضجون كثيراً – مثل أطفال تُركوا وحدهم في البيت – وقولي للجدار أن يغير لونه –وللسقف أن يتوقف عن حركاته الصبيانية – مرة يصبح دراكولا ..ومرة مهرج شرير – وأخرى يمد لسانه لي –وللأثاث أن يصمت –أريد أن أنام مرة من دون ضجيج –يطقطق في روحي …
ثمة عبارات تخطف القارئ إلى حالة من الدهشة والتأمل ، مقاطع صغيرة تشبه شعر الهايكو : الطيور الصغيرة :
للفضاء وحل – لا تعرفه –إلا – أقدام – الطيور الصغيرة .
قصيدة رائحة : الرائحة القديمة للورق – ل ( شنته الكتب الجديدة – – للممحاة الحلوة – وأقلام الرصاص – خجل الأبيض – في الصفحات المقلوبة للتو – أحبك أيتها الحروف – ويا كل الكلمات المشطوبة .
يحكي ماهر راعي عن هول السجون دون أن يكتب كلمة سجن ، لكننا نتذكر كل الأحبة الذين سًجنوا وماتوا في السجن تحت التعذيب في قصيدة : تركوا لهم : وقت رحلوا – في الليلة الماضية – تركوا للنزلاء الجدد – غرفة بطلاء مُقشر – تركوا لهم – ضجيج الجدران ساعة الفطور – ولمن ستكون اللقمة الأخيرة – أو أي مذيعة أحلى – أيضاً تركوا غبار الدمع – الذي لا بد سيكنس – دونما انتباه من أحد . كذلك تركوا لهم –حديث الليالي الباردة – عن دفء امرأة –أو حتى رائحة ملابسها ، أو صوتها – عن ضباع التهمت شعر الحبيبة –وامتصت حليب أمهات يمتن الآن .
مقطع من قصيدة : وتموت روحنا –ولا جنازة لكل هذا الموت –ثيابنا الداخلية وجواربنا – ربما تُعمر أقل – مات الجندي ببذته العسكرية الكاملة – وعلى رأسه خوذة تلمع – وفي أحد جيوبه صور فوتوغرافية – لأناس أحبهم ، لأناس سيبكون – ماتت وعلى وجهها مكياج الصباح – وفي يدها حقيبة بنية – وبنفس القميص الذي اشترته منذ يومين – مات ببنطال الجينز- مات بطقمه الرمادي – وربطة عنق غير مناسبة –مات في الفراش – انتظر بهدوء كأنه ميت .
تكمن الدهشة والإبداع في كتابة ماهر راعي في أنه يُذكرنا كيف نعيش ، فقد تأقلمنا مع خيبات الألم والقهر ورداءة العيش وجرة الغاز التي ينتظرها المواطن السوري وتأتي غالباً فارغة أو ناقصة ، تأقلمنا أن يموت الشباب في حروب لم تكن خيارهم ، وتأقلمنا على ترديد شعارات لا نؤمن منها ، وتأقلمنا على الحرمان وانسحاق الكرامة والحرية ، تأقلمنا كيف يكون الحب وجعاً ، ماهر راعي يُصور لنا حياتنا التي خدرها الروتين وتعاقب أيام ( يوم ككل يوم ) وقبلنا أن هذا قدرنا ، لكنه يخلق حياة موازية لحياتنا ، يُزيل صدأ الروتين والنسيان من عقولنا فتصيبنا الدهشة ونحن نقول : حقاً هكذا نعيش !!! حقاً هذه حياتنا البائسة الأقرب إلى اللاحياة ، وهو يغوص في عمق المعاني التي تبدو بديهية ، لكن أي وجع وقهر فيها . قهر اخترنا أن ننكره ونتجاهله ، وما أكثر الناس الذين اختاروا ظاهرة الإنكار وأٌقنعوا أنفسهم أو أجبروها على الاقتناع أن أحوالهم لا بأس بها وأن الله سينصفهم ويعوض ما خسروه وأن جنات الخلد بانتظارهم . أكبر خطأ أن نصف الحياة بأنها قضية كبرى مُقدسة مُباركة من قبل حكام ظالمين ورجال دين يدعمونهم ، الحياة هي مجموعة التفاصيل الصغيرة التي نعيشها في انتظار ربطة الخبز وترف فنجان القهوة والاعتياد على الكوابيس ونحن نائمون ، والفخر بموت أولادنا الذين ربيناهم ( كل شبر بندر ) فقد نالوا وسام ( الشهيد البطل ) وشاركوا مع رفاقهم الشباب في موكب أو كوكبة من الشهداء . وكأننا نعيش في ضباب كثيف يشوش رؤيتنا لحياتنا البائسة ، وضباب يغلف الروح فتذبل ولا همة لنا لنتساءل لماذا ذبلت أرواحنا ؟ يختم ماهر راعي بكتابة مُوجعة بعنوان ( وكيف تضحك ) ..
تأخر الوقت يا أبي … صدقني وبصوت مبحوح أن تصرخ كالذئاب التي قضيت عمرك تربيها في سترتك اليابسة – اسمعني جيداً لا تدر وجهك عني … يا أبي كنتم أقزاماً أمام اللعنة – وكانت هي مارداً مفلوشاً –
يا أبي أنا صغيرك الميت في حروب – كاذبة ، أنا الأوسط الميت في حروب كاذبة ، وأنا البكر الذي قتلته حروب كاذبة – أنا ابنتك التي صفف الكذب شعرها .
يا أبي اصغ جيداً … كل الكتب التي قرأتها كانت صفحات بيضاء وكل المسارح خاوية وكل موسيقاك خرساء وشرابك عكر .. سأعلمك يا أبي كيف تصفر بلا أصابع –وكيف تدوس قرفة الخبز المقدسة ..كيف تقرأ وكيف تضحك تضحك تضحك …. قم بدل ثيابك ونم ، الليل قصير وحديثي لا ينتهي .
ستحتاج المبدع ماهر راعي إلى أكثر من صفحة من دفتر الخمسين ورقة الصغير لتكتب عن عالما وأرواحنا .