ماشا غيسن
ترجمة محمود الصباغ
لا تنفك برلين تذكّرنا بما حدث هناك، فثمة متاحف عديدة تتحرى معاني الشمولية والهولوكوست، ويشغل النصب التذكاري للضحايا اليهود في أوروبا كتلة كاملة من المدينة. وهذه المنشآت، في الحقيقة، ليست سوى الجزء الأصغر من النصب. فهذه المواقع التذكارية التي تتسلل إلينا تكشف الشر المستشري الذي ارتكب ذات مرة هنا في هذا المكان -مثل نصب الكتب المحروقة ، الواقع حرفيا تحت الأرض، وآلاف الحجارة Stolpersteine، المدمجة في الأرصفة لتخليد ضحايا اليهود والسنتي والروما والمثليين وذوي الأمراض العقلية؛ وغيرهم ممن قتلهم النازيون-.
في أوائل تشرين الثاني، عندما كنت أسير نحو منزل أحد الأصدقاء في المدينة، صادفت كوة معلومات تشير إلى موقع مخبأ هتلر. لطالما شاهدت هذا من قبل مرات عديدة؛ لقد بدا الأمر لي كأنها لوحة إعلانات الحي ، لكنها تحكي قصة الأيام الأخيرة للفوهرر.
كنت قد زرت برلين مرات عديدة بين أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة، وهي الفترة التي شهدت تصميم وتركيب العديد من هذه النصب التذكارية، تعطي انطباعاً مبهجاً لدى مشاهدة عملية تشكل ثقافة الذاكرة. فهنا في ألمانيا، أو على الأقل في هذه المدينة، عملت السلطات ما بوسعها بما لم تستطع القيام به معظم الثقافات، وأقصد بذلك النظر إلى جرائمها، بالأحرى إلى أسوأ ما فيها وفي جوانبها الذاتية. ولكن، في مرحلة ما، بدأ هذا الجهد التصميمي يتحول إلى ما هو ثابت ومحاط بالزجاج، كما لو كان ليس القصد منه تذكّر التاريخ فقط، ولكن أيضاً لضمان تذكّره بالذات – وبهذه الطريقة فقط. وهذا تأمل صحيح بالمعنى المادي والبصري. إذ تستخدم العديد من صروح المدينة مادة الزجاج في تكوينها فمبنى الرايخستاغ Reichstag، وهو الذي كان قد تعرض للتدمير الكلي تقريباً خلال الحقبة النازية؛ وأعيد بناؤه بعد نصف قرن، تعلوه الآن قبة زجاجية. كما يرقد نصب الكتب المحروقة تحت الزجاج. كما أن المجموعة ذات الترتيب العشوائي التي كانت تدعى “طوبوغرافيا الإرهاب” باتت الآن تخضع الفواصل والألواح الزجاجية فيها لتوليفة تجميعية مذهلة. وكما أخبرتني كانديس بريتز، الفنانة اليهودية الجنوب أفريقية والتي تعيش في برلين: [تعكس هذه التشكيلات] “النوايا الحسنة التي ظهرت في الثمانينيات وترسخت على هيئة “دوغما” في كثير من الأحيان.
من بين المساحات القليلة التي لا يتضح فيها تعيين تمثيل الذاكرة بصورة دائمة، بعض صالات المبنى الجديد للمتحف اليهودي، الذي اكتمل بناؤه في العام 1999. وعند زيارتي له في أوائل تشرين الثاني، كانت إحدى صالات الطابق الأرضي تعرض شريط فيديو بعنوان “التمرين على مشهد الأطياف” يصور كيبوتس بئيري، المكان الذي قتلت فيه حماس في 7 تشرين الأول خلال هجومها على إسرائيل أكثر من تسعين شخصاً – أي ما يقرب من واحد من كل عشر من السكان-، الذي أودى، في النهاية، بحياة أكثر من 1200 شخص. ويظهر الفيديو تناوب سكان بئيري على قراءة أبيات قصيدة لأحد سكان الكيبوتس، الشاعر أناداد إلدان: “
. . . خرجتْ من المستنقع
-هنالك- بين الضلوع
تلك التي غمرتك.
وأنت مكبل لا تقوى على الصراخ
تطارد الأشكال المتسربة خارجاً
أنتج الفيديو نير عفرون وعمير كريغر وهما إسرائيليان يقيمان في برلين قبل نحو تسع سنوات. ويبدأ الفيديو بمشهد جوي للمنطقة يظهر فيه قطاع غزة، ثم تنتقل الكاميرا ببطء نحو منازل الكيبوتس بلقطات مكبرة، مما يعطي للبيوت مظهر المخابئ. لم أفهم، في بادئ الأمر القصد من ذلك.. لا كلمات القصيدة ولا مناظر بيوت الكيبوتس. ولكني الآن بدأت أنظر للشريط وكأنه نوع من الحداد على بئيري. (نجا إلدان، الذي يبلغ من العمر مائة تقريباً؛ من هجوم حماس).
عند نهاية ممر صالة العرض؛ أسفل الردهة تظهر واحدة من المساحات التي أطلق عليها المهندس المعماري دانيال ليبسكيند، مصمم المتحف، “الفراغات” على هيئة أعمدة هوائية تخترق المبنى وترمز لغياب اليهود في ألمانيا عبر الأجيال. وثمة هناك، تركيب للفنان الإسرائيلي منشيه كاديشمان، بعنوان “أوراق متساقطة”، عبارة عن تشكيل من أكثر من عشرة أقراص معدني من الحديد بداخل عيون وأفواه، تبدو الأقراص مثل تلك الوجوه الصارخة التي يرسمها الأطفال. وعند المشي على هذه الأقراص، سوف تصدر قعقعة مثل صوت الأغلال أو مثل صوت زناد البندقية . كرّس كاديشمان العمل لضحايا الهولوكوست وغيرهم من ضحايا الحرب والعنف الأبرياء. لا أعرف ماذا كان سيقول كاديشمان، الذي توفي في العام 2015، عن الصراع الحالي. ولكن، بعد أن انتقلت من مكان عرض الفيديو المؤلم لكيبوتس بئيري نحو تلك الوجوه الحديدية ذات الجلبة والقرقعة، لم يدر في خلدي إلا الآلاف من الغزيين الذين قتلوا انتقاماً لحياة من قتلتهم حماس من اليهود، ثم انتبهت لنفسي؛ فلو رغبت في التصريح عما يجول في خاطري علناً هنا في ألمانيا، فلا بد إني سأتعرض، لا شك، لمشكلة.
في 9 تشرين الثاني، وعشية الاحتفال بالذكرى الخامسة والثمانين لليلة الكريستال Kristallnacht، تم عرض ضوئي على بوابة براندنبورغ في برلين باللونين الأبيض والأزرق لنجمة داود وعبارة “Nie Wieder Ist Jetzt!” لن يتكرر الأمر الآن!”. في ذلك اليوم، كان البوندستاغ يناقش مقترحاً بعنوان “الوفاء بالمسؤولية التاريخية: حماية الحياة اليهودية في ألمانيا”، والذي تضمن أكثر من خمسين بنداً وإجراءً يهدف إلى مكافحة معاداة السامية في ألمانيا، بما في ذلك ترحيل المهاجرين الذين يرتكبون جرائم معادية للسامية وتصعيد الأنشطة الموجهة ضد حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)؛ ودعم الفنانين اليهود “الذين تنتقد أعمالهم معاداة السامية”؛ وتنفيذ وتطبيق تعريف محدد لمعاداة السامية في قرارات التمويل والشرطة؛ وتعزيز التعاون بين القوات المسلحة الألمانية والإسرائيلية. وفي تصريحات سابقة، قال نائب المستشار الألماني، روبرت هابيك، من حزب الخضر على “المسلمين في ألمانيا النأي بأنفسهم بوضوح عن معاداة السامية حتى لا يتأثر حقهم في التسامح”.
لطالما نظمت ألمانيا عدة طرق وأساليب تذكّر المحرقة ومناقشتها. ففي العام 2008، فقد شدّدت المستشارة آنذاك أنجيلا ميركل، في حديثها أمام الكنيست، في الذكرى الستين لتأسيس إسرائيل، على مسؤولية ألمانيا الخاصة ليس فقط للحفاظ على ذكرى الهولوكوست باعتبارها جريمة تاريخية فريدة من نوعها ولكن أيضا لما هو في صالح أمن إسرائيل. وتابعت تقول إن هذه المسؤولية جزءً من “مبرر وجود الدولة Staatsräson” في ألمانيا. ومنذ ذلك الحين، تكرر هذا الموقف في ألمانيا في كل مرة يطرح فيها موضوع إسرائيل أو اليهود أو معاداة السامية، بما في ذلك في تصريحات هابيك: “لم تكن قط عبارة ‘أمن إسرائيل جزء من مبرر وجود الدولة الألمانية مجرد عبارة فارغة.. ولن تكون .”
وفي ذات الوقت، دار نقاش غامض لكنه يحمل عواقب غريبة حول ما يعتبر معاداة السامية. وفي عام 2016 ، تبنى التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (I.H.R.A.)، وهو منظمة حكومية دولية ، التعريف التالي: “معاداة السامية هي تصور معين لليهود، يمكن التعبير عنه على أنه كراهية تجاه اليهود. ويتجلى ذلك عبر ممارسات لفظية ومادية لمعاداة السامية موجهة ضد اليهود أو غير اليهود و / أو ممتلكاتهم ، ومؤسسات المجتمع اليهودي ومرافقه الدينية “. كان هذا التعريف مصحوبا بأحد عشر مثالا، والتي بدأت بما هو واضح -الدعوة إلى قتل اليهود أو تبريره- ولكنها تضمنت أيضاً “الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري” و “عقد مقارنات بين السياسة الإسرائيلية المعاصرة والنازيين”.
لم يكن لهذا التعريف أي قوة قانونية ، ولكن كان له تأثير غير عادي. وقد أيدت؛ أو تبنت تعريف التحالف الدولي I.H.R.A خمس وعشرون دولة في الاتحاد الأوروبي ووزارة الخارجية الأمريكية. وفي العام 2019، وقع الرئيس دونالد ترامب أمراً تنفيذياً ينص على حجب الأموال الفيدرالية عن الكليات التي لا يتمتع فيها الطلاب بالحماية من معاداة السامية على النحو المحدد في صيغة التحالف الدولي I.H.R.A. وفي الخامس من كانون الأول من هذا العام ، صادق مجلس النواب الأمريكي على قرار غير ملزم يدين معاداة السامية على النحو المحدد من قبل التحالف الدولي I.H.R.A بناء على اقتراح نائبين يهود من الحزب الجمهوري وعارضه العديد من الديمقراطيين اليهود البارزين، بما في ذلك النيويوركي جيري نادلر .
في العام 2020، اقترحت مجموعة من الأكاديميين تعريفاً بديلاً لمعاداة السامية، أطلق عليه اسم إعلان القدس. ويعرّف معاداة السامية بأنها “التمييز أو التحيز أو العداء أو العنف ضد اليهود بوصفهم يهوداً (أو مؤسسات يهودية بصفتها يهودية)” وقدموا أمثلة تساعد على التمييز بين التصريحات والأفعال المعادية لإسرائيل وتلك المعادية للسامية. ولكن رغم أن بعض الباحثين البارزين في شؤون الهولوكوست شاركوا في صياغة الإعلان، إلا أنه بالكاد حقق نجاحاً في التأثير المتزايد لتعريف التحالف الدولي I.H.R.A. وفي العام 2021 ، نشرت المفوضية الأوروبية كتيباً بعنوان “للاستخدام العملي” لتعريف التحالف الدولي I.H.R.A ، والذي أوصى، من بين أمور أخرى ، باستخدامه لتدريب ضباط إنفاذ القانون للتعرف على جرائم الكراهية ، وإنشاء منصب المدعي العام ، أو منسق أو مفوض معاداة السامية.
وقد نفذت ألمانيا بالفعل هذه التوصية بالذات، فجرى تأسيس، أنشأ البلاد مكتب المفوض الحكومي الفيدرالي للحياة اليهودية في ألمانيا ومكافحة معاداة السامية في العام 2018، ويمثل المكتب مؤسسة بيروقراطية واسعة تضم مفوضين على مستوى الدولة والمستوى المحلي، يعمل بعضهم في مكاتب المدعين العامين أو دوائر الشرطة. ومنذ ذلك الحين، أبلغت ألمانيا عن ارتفاع شبه مستمر في عدد الحوادث المعادية للسامية: أكثر من ألفي حادث في العام 2019، وأكثر من ثلاثة آلاف في العام 2021، ووفقاً لإحدى مجموعات المراقبة، هناك 949 حادثة مروعة في الشهر الذي أعقب هجوم حماس. لكن الإحصاءات تمزج ما يسميه الألمان معاداة السامية الإسرائيلية Israelbezogener Antisemitismus ، أي معاداة السامية المرتبطة بإسرائيل، مثل حالات انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية، التي تترافق مع عنف، مثل محاولة إطلاق النار على كنيس يهودي، في هالّه، في العام 2019، مما أسفر عن مقتل اثنين من المارة. وحادثة إطلاق نار على منزل حاخام سابق، في إيسن، في العام 2022؛ وإلقاء زجاجتي مولوتوف على كنيس يهودي في برلين هذا الخريف. والواقع ظلّ عدد الحوادث التي انطوت على العنف ثابتاً نسبياً، ولم يزد في أعقاب هجوم حماس.
ويوجد الآن العشرات من مفوضي معاداة السامية في ألمانيا. ليس لديهم وصف وظيفي واحد أو إطار قانوني واحد لعملهم، ولكن يبدو أن الجزء الأكبر من عملهم يتمثل في التشهير بمن يعتبرونهم معادين للسامية، وغالباً بسبب “نزع طابع الفرادة عن الهولوكوست de-singularizing the Holocaust“* أو انتقاد إسرائيل. ومن النادر أن يكون هؤلاء المفوضون من اليهود. في الواقع، نسبة اليهود بين أهدافهم مرتفعة بالتأكيد. ومن بين هؤلاء المستهدفين عالم الاجتماع الألماني الإسرائيلي موشيه زوكرمان، الذي استهدف لدعمه حركة المقاطعة، وكذلك المصور اليهودي الجنوب أفريقي آدم برومبرغ.
صادق البوندستاغ، في العام 2019، على قرارٍ يدين حركة المقاطعة B.D.S باعتبارها نشاطاً معادياً للسامية وأوصى بحجب تمويل الدولة عن الأحداث والمؤسسات المرتبطة بها. وتاريخ القرار له دلالته فقد أتى قبيل تقديم نسخة شبيهة طرحها حزب البديل من أجل ألمانيا AfD ، الحزب القومي العرقي اليميني المتطرف والمشكك في أوروبا، وكان حديث العهد في البرلمان الألماني آنذاك. رفض السياسيون الرئيسيون مشروع القرار لأنه جاء من حزب البديل، وخوفاً على ما يبدو من أن يظهروا فشلهم في محاربة معاداة السامية، فقد سارعوا لتقديم قرار مماثل، وسوف يحظى بالموافقة دون اعتراض لربطه حركة المقاطعة B.D.S بـ “أفظع مرحلة في التاريخ الألماني”. أما بالنسبة لحزب البديل، الذي أدلى قادته بتصريحات علنية معادية للسامية وأيدوا إحياء اللغة القومية في الحقبة النازية، فهو يستخدم بسخرية شبح معاداة السامية كأداة سياسية مثالية، وكلاهما فرصة للاندماج السياسي وسلاح يستخدم ضد المهاجرين المسلمين.
تسعى حركة المقاطعة B.D.S، التي تستلهم عملها من حركة المقاطعة ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، إلى استخدام الضغط الاقتصادي لتأمين حقوق متساوية للفلسطينيين في إسرائيل، وإنهاء الاحتلال، وتشجيع عودة اللاجئين الفلسطينيين. يجد العديد أن حركة المقاطعة ذات طابع إشكالي لعدم تأكيدها على حق دولة إسرائيل في الوجود، وفي الواقع، يتصور بعض مؤيدي حركة المقاطعة أن نشاطهم يرمي إلى التخلص الكامل من المشروع الصهيوني. ويمكننا المجادلة بأن ربط حركة المقاطعة بالهولوكوست هو تعريف استنسابي للهولوكوست بحد ذاته نظراً للطابع غير العنيف لأنشطة الحركة التي نظر إليها مؤيدوها كبديل للكفاح المسلح. ولكن، وفقاً لمنطق سياسة الذاكرة الألمانية، وبسبب توجه عمل حركة المقاطعة ضد اليهود، فهي، بالتالي، معادية للسامية؛ رغم تأييد حركة المقاطعة من بعض اليهود. ويمكننا المجادلة أيضاً بأن عملية الخلط المتأصل بين اليهود ودولة إسرائيل هو عمل معادٍ للسامية، حتى أنه يفي بتعريف التحالف الدولي I.H.R.A. لمعاداة السامية. ونظرا لمشاركة حزب البديل ونمط القرار المستخدم إلى حد كبير ضد اليهود والملونين، فقد يتصور البعض أن هذه الحجة سوف تكتسب زخماً.
لعل هذا خاطئ
على عكس الدستور الأمريكي؛ لم يتم تفسير القانون الأساسي الألماني، على غرار دساتير العديد من الدول الأوروبية الأخرى، لتوفير ضمان مطلق لحرية التعبير. ومع ذلك، يضمن الدستور الألماني حرية التعبير ليس فقط في الصحافة ولكن في الفنون والعلوم والبحث والتدريس. ومن المحتمل، إذا أصبح قرار المقاطعة قانوناً، أن ينظر إليه بصفته غير دستوري. لكن لم يتم اختباره بهذه الطريقة. ويبدو أن ما جعل القرار قوياً بشكل غريب، في جز منه على الأقل، يتمثل في السخاء المعتاد للدولة الألمانية، حيث تتلقى جميع المتاحف والمعارض والمؤتمرات والمهرجانات وغيرها من الأحداث والفعاليات الثقافية الأخرى تقريباً تمويلاً من الحكومة الفيدرالية أو حكومة الولاية أو الحكومة المحلية. ولعل هذا الوضع خلق “بيئة مكارثية”، كما أخبرتني الفنانة كانديس بريتز: “كلما أردنا دعوة شخص ما، فإنهم – أي وكالة حكومية قد تموّل حدثاً ما- يبحثون في غوغل عن اسم المدعو لعلهم يعثرون على ما يربطه بحركة المقاطعة ‘B.D.S.” و ‘إسرائيل’ و ‘الفصل العنصري/ الأبارتيد’. “
قبل بضع سنوات، حاول كل من الفنانة بريتز، التي تتناول في أعمالها قضايا العرق والهوية، ومايكل روثبرغ، الذي يشغل أستاذ كرسي دراسات الهولوكوست في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، تنظيم ندوة حول ذكرى الهولوكوست الألمانية، بعنوان “نحن بحاجة للتحدث”. بعد أشهر من الاستعدادات ، تم سحب التمويل الحكومي للندوة ، ومرد ذلك، على الأرجح، لأن برنامج الندوة تضمن لوحة تربط بين أوشفيتز والإبادة الجماعية لشعبي هيريروHerero وناماNama التي نفذها المستعمِرون الألمان بين عامي 1904 و 1908 فيما يعرف الآن بدولة ناميبيا. وتشرح بريتز كيف “تم تطوير بعض تقنيات [الشوا] في ذلك الوقت.. لكن لا يسمح بالحديث عن الاستعمار الألماني والشوا في نفس الوقت باعتبارهما من “سوية” واحدة.
الإصرار على تفرد واستثناء الهولوكوست وأهمية التزام ألمانيا بالتصالح معها يمثلان وجهين لعملة واحدة: إذ تضع ألمانيا الهولوكوست كحدث يجب على الألمان تذكّره وذِكره دائماَ ولكن دون خوف من تكراره ، لأنه لا يشبه أي شيء آخر حدث أو سيحدث. وتقول المؤرخة الألمانية ستيفاني شولر-سبرينغوروم، التي ترأس مركز أبحاث معاداة السامية في برلين، بأن ألمانيا الموحدة حولت مصالحتها مع الهولوكوست إلى فكرة وطنية، ونتيجة لذلك ينظر إلى “أي محاولة لتعزيز فهمنا للحدث التاريخي نفسه، من خلال المقارنات مع الجرائم الألمانية الأخرى أو الإبادة الجماعية الأخرى، [أنها] هجوم على أساس هذه الدولة القومية الجديدة”. ربما هذا هو معنى “لن يتكرر الأمر الآن“.
قضى بعض المفكرين اليهود العظماء الذين نجوا من الهولوكوست بقية حياتهم في محاولة إخبار العالم بوجوب عدم النظر إلى الرعب الذي عاشوه ، رغم فتكه المميت الفريد، كاستثناء. فحدوث الهولوكوست يعني أنه كان ممكناً -ولا يزال ممكناً. ويرجح عالم الاجتماع والفيلسوف زيغمونت باومان بأن الطبيعة الضخمة والمنهجية والفعّالة للهولوكوست كانت دالّة على الحداثة -رغم كونها لم تكن محددة مسبقاً بأي حال من الأحوال ، إلا أنها كانت متوافقة مع الابتكارات الأخرى في القرن العشرين، كما درس تيودور أدورنو السبب الذي يجعل الناس يميلون لاتباع الزعماء الاستبداديين الشموليين وسعى للعثور على مبدأ أخلاقي من شأنه منع حدوث محرقة أخرى .
وفي العام 1948 ، كتبت حنّة أرنت رسالة مفتوحة بدأتها بالقول: “من بين أكثر الظواهر السياسية إثارة للقلق في عصرنا ظهور “حزب الحرية” (تنوعات هحيروت) في دولة إسرائيل الحديثة، وهو حزب سياسي يشبه إلى حد كبير في تنظيمه وأساليبه وفلسفته السياسية وجاذبيته الاجتماعية الأحزاب النازية والفاشية “. بعد ثلاث سنوات فقط من المحرقة، كانت أرنت تقارن حزباً إسرائيلياً يهودياً بالحزب النازي، وهو عمل سيكون، لو حصل اليوم، انتهاكٌ واضحٌ لتعريف التحالف الدولي I.H.R.A لمعاداة السامية. واستندت أرنت في مقارنتها إلى هجوم نفذته جزئياً ميليشيا مسلحة على قرية دير ياسين العربية، التي لم تشارك في الحرب ولم تكن هدفاً عسكرياً. المهاجمون “قتلوا معظم سكانها – 240 رجلاً وامرأةً وطفلاً – وأبقوا عدداً قليلاً منهم على قيد الحياة لاستعراضهم كأسرى في شوارع القدس” . هذه الميليشيا كانت تعرف باسم الإرغون التي مثلت نواة حزب “حيروت”.
كانت مناسبة رسالة أرنت زيارة مقررة إلى الولايات المتحدة من قبل زعيم الحزب، مناحيم بيغن. وأضاف ألبرت أينشتاين، وهو يهودي ألماني آخر فر من النازيين، توقيعه على الرسالة. وبعد ثلاثين عاما، أصبح بيغن رئيساً لوزراء إسرائيل. وبعد نصف قرن آخر، في برلين، تحدثت الفيلسوفة سوزان نايمان، التي تترأس معهداً للأبحاث سمي باسم أينشتاين ، في افتتاح مؤتمر بعنوان “اختطاف الذاكرة: الهولوكوست واليمين الجديد”. وأشارت إلى أنها قد تواجه عواقب وتداعيات لتحديها الطرق التي تمارس بها ألمانيا الآن ثقافة الذاكرة. علماً أن نايمان مواطنة إسرائيلية وباحثة في الذاكرة والأخلاق. أحد كتبها بعنوان “التعلم من الألمان: العرق وذاكرة الشر”. وكانت نايمان قد حذرت، قبل بضع سنوات، إن ثقافة الذاكرة تلاشت و”خرجت عن مسارها “.
فقرار ألمانيا المناهض لحركة المقاطعة B.D.S على سبيل المثال، كان له تأثير مخيف واضح على المجال الثقافي للبلد. فقد سحبت مدينة آخن جائزة قدرها عشرة آلاف يورو كانت قد منحتها للفنان اللبناني الأمريكي وليد رعد. وبالمثل، ألغت مدينة دورتموند ولجنة جائزة نيللي ساكس ،التي تبلغ قيمتها خمسة عشر ألف يورو، تكريم الكاتبة البريطانية الباكستانية كاميلا شمسي. كما تم التشكيك في دعوة الفيلسوف السياسي الكاميروني أكيلي مبيمبي لحضور مهرجان كبير بعد أن اتهمه المفوض الفيدرالي لمعاداة السامية بدعم حركة المقاطعة BDS و “استنساب الهولوكوست والتقليل من أهميتها”. (قال مبيمبي إنه غير مرتبط بحركة المقاطعة؛ وتم إلغاء المهرجان بسبب فيروس كورونا). واستقال بيتر شيفر، مدير المتحف اليهودي في برلين في العام 2019 بعد اتهامه بدعم حركة المقاطعة BDS، وهو في الواقع لم يدعم حركة المقاطعة، لكن المتحف نشر رابطاً، على تويتر، لمقال صحفي تضمن انتقاداً للقرار. كما طلب مكتب بنيامين نتنياهو من ميركل خفض تمويل المتحف لأنه، في رأي رئيس الوزراء الإسرائيلي، أولى في معرضه عن القدس الكثير من الاهتمام بمسلمي المدينة. (قد يكون القرار الألماني بخصوص حركة المقاطعة B.D.S فريداً في تأثيره؛ ولكن ليس في محتواه: غالبية الولايات الأمريكية لديها الآن قوانين تساوي بين المقاطعة ومعاداة السامية وتحجب تمويل الدولة عن الأشخاص والمؤسسات التي تدعمها).
أعاد بريتز وروثبرغ تجميع صفوفهما، بعد إلغاء الندوة، وتوصلا إلى اقتراح لعقد ندوة بعنوان “ما زلنا بحاجة إلى التحدث”. كانت قائمة المتحدثين نظيفة للغاية. وفحصت جهة حكومية أسماء الجميع ووافقت على تمويل التجمع. وكان من المقرر عقدها في أوائل كانون الأول. ثم هاجمت حماس إسرائيل. وقالت بريتز بعد ذلك؛ في السابع عشر من تشرين الأول: “كنا نعلم أنه سيعتبر كل سياسي ألماني بعد هذا الهجوم أنه من الخطر بمكان الارتباط بحدث يعلو فيه صوتاً فلسطينياً أو كلمة “أبارتيد”. وعلمت بريتز أنه تم سحب التمويل. وفي غضون ذلك كانت الشرطة في أنحاء ألمانيا تقمع المظاهرات التي تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة أو تظهر دعماً للفلسطينيين. وبدلاً من الندوة ، نظمت بريتز وآخرين عديدين احتجاجاً أطلقوا عليه “ما زلنا بأمس الحاجة الشديدة إلى التحدث We Still Still Still Still Need to Talk “. وبعد حوالي ساعة من التجمع، قطعت الشرطة بهدوء الحشد لمصادرة لافتة كرتونية كتب عليها “من النهر إلى البحر، نطالب بالمساواة”. كانت تلك اللوحة قد جلبتها معها سيدة إسرائيلية يهودية.
ومنذ ذلك الحين، ظل اقتراح “الوفاء بالمسؤولية التاريخية” ضعيفاً في اللجنة. ومع ذلك، استمرت المعركة الأدائية ضد معاداة السامية في التصاعد. ففي تشرين الثاني، تعرض التخطيط لمعرض دوكومنتا Documenta ، أحد أهم المعارض في عالم الفن، للفوضى بعد أن كشفت صحيفة زود دويتشه تسايتونج عن عريضة وقعها رانجيت هوسكوت، أجد أعضاء اللجنة الفنية المنظمة للمعرض؛ ويعود تاريخ العريضة للعام 2019 وقد كتبت العريضة للاحتجاج على فعالية مشتركة بين الصهيونية وهندوتفا القومية المتطرفة في مومباي مسقط رأس هوسكوت، ونددت العريضة بالصهيونية باعتبارها “إيديولوجية عنصرية تدعو إلى دولة فصل عنصري استعمارية استيطانية ينال فيها غير اليهود بحقوق غير متساوية، وفي الممارسة العملية، تم تأسيسها على التطهير العرقي للفلسطينيين”. ونشرت الصحيفة تقريراً عن ذلك تحت عنوان “معاداة السامية”.
استقال هوسكوت، إثر ذلك، وحذت بقية اللجنة حذوه. وبعد أسبوع، قرأت بريتز في إحدى الصحف أن متحفا في سارلاند ألغى معرضا لهاً، كان مقرراً في العام 2024، “في ضوء التغطية الإعلامية حول الفنانة بخصوص تصريحاتها المثيرة للجدل في سياق حرب حماس العدوانية ضد دولة إسرائيل”.
وفي تشرين الثاني من هذا العام، غادرتُ برلين إلى كييف، بالقطار عبر بولندا. وهذا مكان جيد مثل أي مكان آخر لقول بعض الأشياء عن علاقتي بالتاريخ اليهودي في هذه البلاد. يذهب العديد من اليهود الأمريكيين إلى بولندا لزيارة ما تبقى من الأحياء اليهودية القديمة، إن وجدت، ولتناول الطعام المعد حسب وصفات تركتها عائلات محيت بأكملها نهائياً منذ فترة طويلة، ويجولون هناك في رحاب التاريخ اليهودي، والأحياء اليهودية “الغيتو”، ومعسكرات الاعتقال النازية.
على الصعيد الشخصي، أجد نفسي قريبة إلى هذا التاريخ. لقد نشأت في الاتحاد السوفيتي في السبعينيات، تحت ظلال الهولوكوست الثقيلة والمستدامة، لأن جزءً فقط من عائلتي نجا منها ولأن الرقابة السوفيتية قمعت أي ذكر عام لها. وعندما علمت ، في سن التاسعة تقريباً، أن بعض مجرمي الحرب النازيين ما زالوا طلقاء، لم أستطع النوم. تخيلت أحدهم يتسلق شرفة الطابق الخامس ليخطفني.
وأذكر كيف كانت آنا ابنة عمنا وأبنائها يزوروننا خلال الصيف قادمين من وارسو. كان والداها قد قررا الانتحار بعد إحراق غيتو وارسو. فألقى والدها بنفسه أمام قطار. وأما أمها فقد ريطتها على خصرها بشالها، وكانت آنا تبلغ من العمر ثلاث سنوات، وقفزت في النهر، ولكن رجلاً بولندياً انتشلهما، ونجتا من الحرب بالاختباء في الريف. كنت أعرف هذه القصة، لكن لم يكن مسموحاً لي ذكرها أو ترديدها. لم تعلم آنا قصة نجاتها من الهولوكوست إلا بعد بلغت سن الرشد، وانتظرت لتخبر أطفالها ، الذين كانوا في نفس عمري.
زرت بولندة أول مرة في التسعينيات للبحث عن مصير جدي الأكبر، الذي أمضى ما يقرب من ثلاث سنوات في غيتو بياويستوك قبل أن يقتل في مايدانيك.
دارت حروب ذكرى الهولوكوست في بولندا بالتوازي مع ألمانيا. لكن الأفكار التي يتم تداولها في البلدين مختلفة، غير أن ثمة سمة واحدة متسقة بينهما تتمثل في تورط السياسيين اليمينيين بالتعاون مع دولة إسرائيل. وكما هو الحال في ألمانيا، شهدت التسعينيات والألفية الجديدة في بولندة جهوداً طموحة كسرت صمت الحقبة السوفيتية لتخليد الذكرى، على الصعيدين الوطني والمحلي. فأسس البولنديون المتاحف والمعالم الأثرية التي تحيي ذكرى اليهود الذين قتلوا في الهولوكوست -التي أودت بحياة نصف ضحاياها في بولندا المحتلة من قبل النازيين- والثقافة اليهودية التي فقدت معهم. ثم جاءت موجة الردة بالتزامن مع صعود حزب القانون والعدالة اليميني المتشدد إلى السلطة في العام 2015. وحينها أراد البولنديون تظهير نسخة من التاريخ تصورهم كضحايا للاحتلال النازي إلى جانب اليهود، الذين حاولوا حمايتهم من النازيين.
ولكن هذا لم يكن صحيحاً، فحالات البولنديين الذين خاطروا بحياتهم لإنقاذ اليهود من الألمان، كما هي حالة ابنة عمي آنا، كانت نادرة للغاية، في حين أن العكس كان شائعاً؛ أي قيام مجتمعات أو هياكل الدولة البولندية بأكملها قبل الاحتلال، مثل الشرطة أو مجالس المدن، بتنفيذ عمليات قتل جماعي ضد اليهود- ليس هذا فحسب، فقد تعرض المؤرخيو الذين درسوا دور البولنديين في الهولوكوست للهجوم، فتم استجواب المؤرخ البولندي المولد يان توماش غروس وتهديده بالملاحقة القضائية لإشارته إلى قتل البولنديين لليهود أكثر مما قتل منهم الألمان. واستمرت السلطات البولندية في مضايقته حتى بعد تقاعده، وضغطت الحكومة على داريوش ستولا ، رئيس متحف بولين POLIN المبتكر للتاريخ اليهودي البولندي في وارسو بإبعاده من منصبه وتم استدعاء المؤرخين يان غرابوسكي وباربرا وإنغليكينغ إلى المحكمة لكتابتهما أن عمدة قرية بولندية كان ضالعاً في الهولوكوست.
عندما كتبت عن قضية غرابوفسكي وإنغليكينغ، تلقيت بعضاً من أكثر التهديدات رعباً بالقتل في حياتي. (لقد تلقيت الكثير من التهديدات بالقتل؛ معظمها لا يذكر). إحداها ما أرسل إلى بريدي الإلكتروني الخاص بالعمل: “إذا واصلتِ كتابة الأكاذيب عن بولندا والبولنديين، فسوف أجعل هذه الرصاصات تخترق جسدك. انظري إلى المرفق! خمس رصاصات في كل ركبة، لن تستطيعي بعدها المشي قط. وأما إذا واصلت نشر كراهيتك اليهودية، فسوف أجعل خمس رصاصات أخرى تخرق مهبلك؛ أما بعد ذلك فهي خطوة ثالثة لن تتمكني من ملاحظتها. ولكن لا تقلقين حيال ذلك، لن أزورك الأسبوع المقبل أو بعد ثمانية أسابيع، بل سأعود عندما تكونين قد نسيت هذه الرسالة تماماً؛ ربما في غضون خمس سنوات. فأنت على قائمتي. . . . كان المرفق عبارة عن صورة لرصاصتين لامعتين في راحة اليد.
مثال آخر عن المضايقات التي تعرضت لها كانت عندما قام متحف أوشفيتز بيركيناو الحكومي، الذي يرأسه شخص معين من الحكومة، بنشر تغريدة يُدين فيها مقالتي، كما هو حال رواية الكونغرس اليهودي العالمي. وبعد ذلك ببضعة أشهر، ألغيت دعوة وجهت لي لإلقاء كلمة في إحدى الجامعات، ويعود السبب، كما أخبرت الجامعة وكيل أعمالي، لأنهم تبينوا أنني قد أكون معادية للسامية.
طوال حروب ذاكرة الهولوكوست البولندية، حافظت إسرائيل على علاقات ودية مع بولندا. وفي العام 2018، أصدر نتنياهو ورئيس الوزراء البولندي، ماتيوس مورافيتسكي، بياناً مشتركاً يشجبان فيه “الإجراءات الهادفة إلقاء اللوم على بولندا أو الشعب البولندي ككل على الفظائع التي ارتكبها النازيون والمتعاونون معهم من دول وجنسيات مختلفة”. وأكد البيان، بشكل كاذب وزائف، أن “هياكل الدولة السرية البولندية التي تشرف عليها الحكومة البولندية في المنفى أنشأت آلية للمساعدة والدعم المنهجيين للشعب اليهودي”. كان نتنياهو يبني تحالفات مع الحكومات غير الليبرالية في دول أوروبا الوسطى، مثل بولندا والمجر، ليمنع، جزئياً، صياغة ، وبالتالي تكريس، إجماع مناهض للاحتلال في الاتحاد الأوروبي. لهذا ، كان على استعداد للكذب بشأن الهولوكوست.
يسافر في كل عام عشرات الآلاف من المراهقين الإسرائيليين إلى متحف أوشفيتز قبل تخرجهم من المدرسة الثانوية (على الرغم من إلغاء الرحلات في العام الماضي بسبب قضايا أمنية وإصرار الحكومة البولندية المتزايد على وجوب شطب مقولة تورط البولنديين في الهولوكوست من التاريخ). ويشكل هذا البرنامج رحلة عميقة المغزى وقوية لصياغة لهوية الشاب الإسرائيلي قبل عام أو عامين فقط من التحاقه بالجيش. كتب نعوم حايوت، مؤسس حركة “كسر الصمت” المناهضة للاحتلال في إسرائيل، عن رحلته أثناء دراسته الثانوية في أواخر التسعينيات،:”الآن وهنا، في بولندا، عندما كنت مراهقاً في المدرسة الثانوية، بدأت أشعر بالانتماء وحب الذات والقوة والفخر، والرغبة في المساهمة، والعيش في أن أكون قوياً .. قوياً جداً لدرجة أن لا يحاول أحد التفكير في إيذائي”.
حمل حايوت هذا الشعور معه إلى الجيش الإسرائيلي، الذي أرسله إلى الضفة الغربية المحتلة. وفي أحد الأيام، حين كان يضع إشعارات مصادرة الممتلكات. كانت مجموعة من الأطفال تلعب في مكان قريب. ارتسمت على وجه حايوت ما اعتبره ابتسامة لطيفة ودودة -غير مهددة- لفتاة صغيرة. هرب بقية الأطفال، لكن الفتاة تجمدت، يشلها الرعب، ثم ولت هاربة هي أيضا. وفي وقت لاحق، عندما نشر حايوت كتاباً عن التحول الذي تسبب به هذا اللقاء، كتب أنه لم يكن متأكداً لماذا كانت هذه الفتاة بالذات هي السبب في تحوله.: “بعد كل شيء، كان هناك أيضاً طفلٌ مقيدٌ في سيارة الجيب وفتاة اقتحمنا منزل عائلتها في وقت متأخر من الليل لنخرج والدتها وعمتها. وكان هناك الكثير من الأطفال، المئات منهم، يصرخون ويبكون ونحن نبحث في غرفهم وأغراضهم. وكان هناك طفل من جنين فجرنا جدار بيته بعبوة ناسفة مما أحدث فجوة على بعد بضعة سنتيمترات من رأسه. لحسن الحظ لم يصب بأذى، لقد نجا بأعجوبة، لكنني متأكد من أن سمعه وعقله تضررا بشدة”. ولكن في عيون تلك الفتاة، في ذلك اليوم، رأى حايوت انعكاسا للشر المدمر، من النوع الذي كان يدرس عنه وعن وجوده، ولكن فقط بين عامي 1933 و 1945، وفقط حيث حكم النازيون. أطلق حايوت على كتابه اسم “الفتاة التي سرقت محرقتي The Girl Who Stole My Holocaust“.
ركبت القطار من الحدود البولندية إلى كييف. وهنا في هذه المنطقة تم إطلاق النار على ما يقرب من 34 ألف يهودي في وادي بابين يار العملاق الذي يقع على أطراف المدينة، وخلال 36 ساعة فقط في أيلول 1941 مات عشرات الآلاف من الناس هناك قبل انتهاء الحرب. كان هذا ما يعرف الآن الهولوكوست بالرصاص. العديد من البلدان التي وقعت فيها هذه المذابح -دول البلطيق وبيلاروسيا وأوكرانيا- أعيد استعمارها من قبل الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية. خاطر المنشقون والناشطون الثقافيون اليهود بحريتهم في الحفاظ على ذكرى هذه المآسي، فجمعوا الشهادات والأسماء، وعملوا، حيثما أمكنهم، على تنظيف وحماية المواقع بأنفسهم. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، رافقت مشاريع تخليد الذكرى جهود الانضمام للاتحاد الأوروبي؛ كما كتب المؤرخ توني جودت في كتابه “ما بعد الحرب” (2005) “الاعتراف بالهولوكوست هو تذكرة دخولنا الأوروبية المعاصرة” ،
في غابة رومبولا، خارج ريغا، على سبيل المثال، حيث قتل حوالي 25 ألف يهودي في العام 1941، تم الكشف عن نصب تذكاري في العام 2002، قبل عامين من قبول عضوية لاتفيا في الاتحاد الأوروبي. كما تضافرت جهود جادة إحياء ذكرى بابين يار بعد ثورة 2014 التي وضعت أوكرانيا على مسار طموح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وبحلول الوقت الذي غزت فيه روسيا أوكرانيا، في شباط 2022، تم الانتهاء من عدة هياكل صغيرة ذات صلة، مع وجود خطط طموحة لإنشاء مجمع متاحف أكبر. ومع الغزو، توقف البناء. بعد أسبوع واحد من الحرب واسعة النطاق، سقط صاروخ روسي بجوار المجمع التذكاري مباشرة، مما أسفر عن مقتل أربعة أشخاص على الأقل. ومنذ ذلك الحين، أعاد بعض الأشخاص المرتبطين بالمشروع تشكيل أنفسهم كفريق من المحققين في جرائم الحرب.
قاد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، حملة جادة لكسب الدعم الإسرائيلي لصالح أوكرانيا. وفي آذار 2022 ، ألقى خطابا أمام الكنيست، لم يشدد فيه على أصوله اليهودية ولكنه ركز على العلاقة التاريخية التي لا تنفصم بين اليهود والأوكرانيين. ورسم أوجه تشابه ومقارنات واضحة بين نظام بوتين والحزب النازي. حتى أنه زعم قيام الأوكرانيين، قبل ثمانين عاماً، بإنقاذ اليهود. (وعلى غرار بولندا، فإن أي ادعاء بانتشار مثل هذه المساعدات هو محض مزاعم كاذبة). لكن ما نجح مع الحكومة اليمينية في بولندا لم ينجح مع رئيس أوكرانيا الموالي لأوروبا. إذ لم تقدم له إسرائيل المساعدة التي توسلها في حربه ضد روسيا التي تدعم حماس وحزب الله علناً.
ومع ذلك، قبل وبعد هجوم 7 تشرين الأول، كانت العبارة التي سمعتُها في أوكرانيا ربما أكثر من أي عبارة أخرى: “علينا أن نكون مثل إسرائيل”. السياسيون والصحفيون والمثقفون والأوكرانيون العاديون يتعاطفون مع القصة التي ترويها إسرائيل عن نفسها، قصة جزيرة صغيرة تتسلح بالديمقراطية لتقف بعناد في وجه الأعداء الذين يحيطون بها. يجادل بعض المثقفين اليساريين الأوكرانيين بأن أوكرانيا، التي تخوض حرباً ضد الاستعمار وضد قوة احتلال، يجب أن ترى نفسها في فلسطين، وليس في إسرائيل. هذه الأصوات ما زالت هامشية وغالباً ما تنتمي إلى الشباب الأوكرانيين الذين يدرسون أو درسوا في الخارج.
اندفع زيلينسكي نحو إسرائيل، عقب هجوم حماس، كنوع من إظهار الدعم والوحدة بين إسرائيل وأوكرانيا. ويبدو أن لدى السلطات الإسرائيلية أفكاراً أخرى حول هذا الموضوع؛ لذلك لم تحدث رغبة الرئيس الأوكراني في زيارة إسرائيل.
بينما كانت أوكرانيا تحاول دون جدوى إقناع إسرائيل للاعتراف بمقاربة تشبيه الغزو الروسي لأوكرانيا بعدوان الإبادة الجماعية لألمانيا النازية، قامت موسكو ببناء عالم من البروباغاندا صورت فيه حكومة زيلينسكي والجيش الأوكراني والشعب الأوكراني بصفتهم نازيين.
تعتبر الحرب العالمية الثانية حدثاً مركزياً في الأسطورة التاريخية الروسية. وخلال عهد فلاديمير بوتين، حيث مات آخر الأشخاص الذين عاشوا الحرب، تحولت الأحداث والفعاليات الاحتفالية التذكارية إلى كرنفالات تحتفي بالتضحيات الروسية والضحايا الروس. خسر الاتحاد السوفيتي ما لا يقل عن سبعة وعشرين مليون شخص في تلك الحرب ، ومنهم لا بأس به من الأوكرانيين. وقد خاض الاتحاد السوفيتي وروسيا حروباً مستمرة تقريبا منذ العام 1945 ، لكن كلمة “حرب” لا تزال مرادفة للحرب العالمية الثانية وتستخدم كلمة “عدو” تبادلياً مع كلمتي “فاشي” و “نازي”. وهذا ما جعل الأمر سهلاً لدى بوتين، لإعلان حرب جديدة، لوصف الأوكرانيين بأنهم نازيون.
قارن نتنياهو جرائم القتل التي ارتكبتها حماس في المهرجان الموسيقي بهولوكوست الرصاص. هذه المقارنة، التي التقطها وأعاد تعميمها قادة العالم، بمن فيهم الرئيس بايدن، تعمل على تعزيز قضية إسرائيل وتخدم حجتها بفرض عقاب جماعي على سكان غزة. وبالمثل، عندما يقول بوتين “نازي” أو “فاشي”، فإنه يعني أن الحكومة الأوكرانية خطيرة للغاية لدرجة أن روسيا لها ما يبررها في قصف المدن الأوكرانية وفرض حصار عليها وقتل المدنيين الأوكرانيين. هناك اختلافات كبيرة؛ والواقع أن مزاعم روسيا بأن أوكرانيا هاجمتها أولاً، وتصويرها للحكومة الأوكرانية باعتبارها فاشية، هي مزاعم كاذبة. ومن ناحية أخرى، تمثل حماس سلطة استبدادية هاجمت إسرائيل وارتكبت فظائع لا يمكننا فهمها تماماً حتى الآن، ولكن هل هذه الاختلافات مهمة عندما تكون القضية التي يتم تقديمها هي قتل الأطفال؟
في الأسابيع الأولى للغزو الروسي الواسع لأوكرانيا، عندما كانت قواتها تحتل الضواحي الغربية لكييف، كان مدير متحف الحرب العالمية الثانية في كييف، يوري سافتشوك، يعيش في المتحف ويعيد التفكير في المعرض الأساسي. بعد يوم واحد من طرد الجيش الأوكراني الروس من منطقة كييف، التقى بالقائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية ، فاليري زالوجني، وحصل على إذن لبدء جمع القطع الأثرية. ذهب سافتشوك وموظفوه إلى بوتشا وإيربين وبلدات ومدن أخرى تم “تحريرها”، كما اعتاد الأوكرانيون على القول، وأجروا مقابلات مع أشخاص لم يرووا قصصهم بعد. وأخبرني سافتشوك :”كان هذا قبل استخراج الجثث وإعادة الدفن.. لقد رأينا الوجه الحقيقي للحرب، بكل مشاعرها. كان الخوف والرعب يملأ الأجواء، وتنشقناه من الهواء حولنا”.
في أيار 2022 ، افتتح المتحف معرضاً جديداً بعنوان “أوكرانيا – المصلوبة”. يبدأ بعرض أحذية الجنود الروس، التي جمعها فريق سافتشوك؛ وهذا باعتقادي انعكاساً غريباً؛ لقد عرض كل من متحف أوشفيتز ومتحف الهولوكوست في واشنطن العاصمة مئات أو آلاف الأحذية لضحايا الهولوكوست، وتمثل هذه الفكرة حجم الخسارة، حتى عندما تظهر جزء صغير منها فقط. ويظهر العرض في كييف حجم الخطر. يتم ترتيب الأحذية على أرضية المتحف على شكل نجمة خماسية، رمز الجيش الأحمر الذي أصبح شريراً في أوكرانيا مثل الصليب المعقوف. في أيلول، أزالت كييف النجوم الخماسية من نصب تذكاري للحرب العالمية الثانية فيما كان يسمى ساحة النصر – تمت إعادة تسميتها لأن كلمة “النصر” ذاتها تعني ضمناً احتفال روسيا فيما لا تزال تسميها الحرب الوطنية العظمى. كما غيرت المدينة أيضا التواريخ على النصب التذكاري ، من “1941-1945” – سنوات الحرب بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا – إلى “1939-1945”. ما حدث هو تصحيح ذاكرة نصب تذكاري واحد في كل مرة.
في العام 1954 ، استمعت محكمة إسرائيلية إلى قضية تشهير تتعلق بيهودي مجري يدعى إسرائيل كاستنر. فقبل عقد، عندما احتلت ألمانيا المجر وسارعت في تنفيذ القتل الجماعي ليهودها، دخل كاستنر، كزعيم للجالية اليهودية، في مفاوضات مع أدولف أيخمان نفسه. واقترح كاستنر شراء حياة يهود المجر بعشرة آلاف شاحنة. وعندما فشل هذا ، تفاوض لإنقاذ 1685 شخصاً عن طريق نقلهم بقطار مستأجر إلى سويسرا، وتم تحميل مئات الآلاف من اليهود المجريين الآخرين في القطارات إلى معسكرات الموت. اتهم أحد الناجين اليهود المجريين كاستنر علناً بالتعاون مع الألمان. رفع كاستنر دعوى قضائية بتهمة التشهير، وفي الواقع، وجد نفسه قيد المحاكمة وجرت محاكمته فعلاً؛ وخلص القاضي إلى أن كاستنر “باع روحه للشيطان”.
استندت تهمة التعاون ضد كاستنر إلى الادعاء بأنه لم يخبر الناس أنهم ذاهبون إلى حتفهم. وادعى متهموه بأنه لو حذّر هم ، لكانوا قد تمردوا ، ولم يذهبوا إلى معسكرات الموت مثلما تساق الخراف للذبح. وقد اعتبرت المحاكمة بداية مواجهة خطابية افتراضية يدافع فيها اليمين الإسرائيلي عن العنف الاستباقي ويعتبر اليسار عاجزاً بشكل متعمد عن الدفاع، علماً أن كاستنر كان، أثناء محاكمته، سياسياً يسارياً في حين كان المدعي ناشطاً يمينياً.
بعد سبع سنوات، كان القاضي الذي ترأس محاكمة كاستنر أحد القضاة الثلاثة في محاكمة أدولف أيخمان. هنا كان الشيطان نفسه. جادل الادعاء بأن أيخمان لم يمثل سوى أحد تجليات التهديد الدائم لليهود. ساعدت المحاكمة على ترسيخ الرواية القائلة بضرورة استعداد اليهود لاستخدام القوة مسبقاً وبشكل وقائي لمنع الإبادة. لم تقبل [حنّة] أرنت، في تقريرها عن المحاكمة، بأي من هذه الادعاءات. وربما أثارت عبارتها “تفاهة الشر” الاتهامات الأصلية، الموجهة ضد يهودي، بالتقليل من شأن الهولوكوست. ولكنها لم تكن كذلك. بل هي لم ترَ أيخمان شيطاناً، وربما الشيطان لم يكن موجوداً، وقد استنتجي بأن لاوجود لما يدعى بالشر ّالراديكالي، وأن الشر كان دائماً عادياً حتى عندما كان متطرف وكما قالت لاحقاً: شيء “ولد في الحضيض.. شيء من الضحالة المطلقة”.
كما اعترضت أرنت على قصة الادعاء بأن اليهود كانوا ضحايا، لما وصفته، على حد تعبيرها، “مبدأ تاريخي يمتد من فرعون إلى هامان – ضحية لمبدأ ميتافيزيقي”. هذه القصة، المتجذرة في الأسطورة الكتابية عن العماليق، الشعب الذي عاش في صحراء النقب وحارب الإسرءيليين القدماء عدة مرات، ترى أرنت أن كل جيل من اليهود يواجه “عماليقه”.
لقد عرفت، بدوري، هذه القصة وأنا في سن المراهقة. كان هذا أول درس توراة تلقيته على يد حاخام كان يجمع الأطفال في إحدى ضواحي روما حيث عاش اللاجئون اليهود من الاتحاد السوفيتي أثناء انتظار أوراقهم لدخول الولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا. في هذه القصة، كما رواها المدعي العام في محاكمة أيخمان، تعتبر الهولوكوست حدثاً محدداً سلفاً، وجزء من التاريخ اليهودي – وتاريخ اليهود فقط. واليهود، في هذه النسخة من السردية، لديهم دائماً خوف مبرر من الإبادة. والواقع أنهم لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة إلا إذا تصرفوا وكأن الإبادة وشيكة. عندما تعلمتُ أسطورة العماليق لأول مرة، بدت قصة منطقية ومفهومة تماماً. لقد وصفت معرفتي بالعالم وساعدني ذلك على ربط تجربتي في التعرض للمضايقة والضرب بتحذيرات جدتي الكبرى بأن استخدام التعبيرات اليديشية المنزلية في الأماكن العامة أمر خطير، وبين الظلم غير المفهوم لجدي وجدي الأكبر وعشرات الأقارب الآخرين الذين قتلوا قبل ولادتي. كنت في الرابعة عشرة من عمري ووحيدة. كنت أعرف نفسي وعائلتي بوصفنا ضحايا، وأضفت أسطورة العماليق على إحساسي بالضحية معنىً وشعوراً مشبعين بالانتماء إلى المجتمع.
استخدم نتنياهو قصة ومفهوم العماليق في أعقاب هجوم حماس. إن منطق هذه الأسطورة، كما يستخدمه -أي أن اليهود يحتلون مكاناً فريداً في التاريخ ولديهم الحق الحصري في النظر إليهم كضحية- عزز إدارة مكافحة معاداة السامية في ألمانيا والتحالف غير المقدس بين إسرائيل واليمين المتطرف الأوروبي. ولكن لا توجد أمة ضحية طوال الوقت أو أمة جانية طوال الوقت. ومثلما يكمن ادعاء إسرائيل بالإفلات من العقاب في وضع اليهود كضحية دائمة، حاول العديد من المنتقدين تبرير عمل حماس الإرهابي كرد فعل متوقع على قمع إسرائيل للفلسطينيين. في المقابل، في نظر مؤيدي إسرائيل، لا يمكن للفلسطينيين في غزة أن يكونوا ضحايا لأن حماس هاجمت إسرائيل أولاً. وسوف يستمر الصراع على حق تقمص دور الضحية إلى الأبد.
على مدى السنوات السبعة عشر الماضية، كانت غزة عبارة عن مجمع مكتظ بالسكان وفقير ومحاط بالأسوار، ولم يكن متاحاً إلا لجزء ضئيل منهم مغادرة القطاع حتى لفترة قصيرة من الوقت -وبعبارة أخرى، كانت غزة بمنزلة غيتو. ولكن ليس مثل غيتو البندقية أو الحي اليهودي داخل مدينة أمريكية؛ بل هو أشبه بغيتو في دولة من دول شرق أوروبا الواقعة تحت الاحتلال الألماني النازي. في الشهرين اللذين انقضيا منذ مهاجمة حماس لإسرائيل، عانى جميع سكان غزة من هجوم القوات الإسرائيلية الذي بالكاد كان يتوقف؛ ولقي الآلاف حتفهم. يقتل، في المتوسط، طفل في غزة كل عشرة دقائق. أصابت القنابل الإسرائيلية المستشفيات وأجنحة الولادة وسيارات الإسعاف. ثمانية من كل عشرمن سكان غزة هم الآن بلا مأوى، وينتقلون من مكان إلى آخر، ولا يستطيعون الوصول قط إلى مكان آمن.
يبدو أن مصطلح “سجن مفتوح” قد صاغه في العام 2010 ديفيد كاميرون ، وزير الخارجية البريطاني الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك. وقد تبنت العديد من منظمات حقوق الإنسان التي توثق الظروف في غزة هذا الوصف. ولكن كما هو الحال في الأحياء اليهودية في أوروبا المحتلة، لا يوجد حراس سجون، فغزة لا يديرها المحتلون بل سلطة محلية. ومن المفترض أن المصطلح الأكثر ملاءمة “غيتو” كان سيثير انتقادات حادة لمقارنته بوضع الغزيين المحاصرين في نفس كفة يهود الغيتو. كما أنه كان سيعطينا اللغة المناسبة لوصف ما يحدث في غزة الآن.
الغيتو يتم تصفيته والتخلص منه .
ادعى النازيون أن الأحياء اليهودية “الغيتوهات” كانت ضرورية لحماية غير اليهود من الأمراض التي تنتشر بين اليهود. وزعمت إسرائيل أن عزل غزة، شأنه شأن الجدار في الضفة الغربية، مطلوب لحماية الإسرائيليين من الهجمات الإرهابية التي يشنها الفلسطينيون ضدهم. وفي الواقع، لا صحة للادعاءات النازية، في حين أن الزعم الإسرائيلي ينبع من أعمال عنف فعلية ومتكررة. هذه اختلافات جوهرية. ومع ذلك، يقترح كلا الادعاءين أن سلطة الاحتلال يمكن أن تختار عزل وإضعاف -والآن التعريض للقتل- حياة مجموعة كاملة من الناس باسم حماية شعبها، أي سكان دولة الاحتلال .
منذ الأيام الأولى لتأسيس إسرائيل، ظهرت مقارنة الفلسطينيين النازحين بأقرانهم من اليهود، ولكن تم رفض هذا السياق بصورة قاطعة. يصف مقال لصحيفة معاريف في العام 1948، وهو العام الذي أنشئت فيه الدولة، الظروف القاسية التي غادر فيها فلسطينيون، معظمهم من النساء والأطفال، قرية الطنطورة بعد أن احتلتها القوات الإسرائيلية: – “كبار السن ضعفاء لدرجة أنهم كانوا على وشك الموت”. “صبي ذو ساقين مشلولتين” ؛ “صبي آخر قطعت يداه” – “حملت امرأة طفلها في ذراع واحدة وباليد الأخرى أمسكت بأمها المسنة. لم تستطع الأخيرة لحاق الموكب، فصرخت وتوسلت إلى ابنتها أن تبطئ ، لكن ابنتها لم تلتفت صوبها. أخيراً انهارت السيدة العجوز على الطريق ولم تستطع التحرك. سحبت الابنة شعرها … خوفاً من عدم الوصول في الوقت المحدد. والأسوأ من هذا كانت الصلة بين هذه الصورة وصورة الأمهات والجدات اليهوديات اللواتي تخلفن بهذه الطريقة على الطرق ضمن حصيلة القتلة”. وعند هذا الحد أدرك الصحفي خطأه فاستأنف يقول: “من الواضح إنه لا يوجد مجال لمثل هذه المقارنة… لقد جلبوا هذا المصير بأنفسهم على أنفسهم.”
حمل اليهود السلاح في العام 1948 للمطالبة بالأراضي التي عرضت عليهم في مشروع التقسيم من فلسطين التي كانت خاضعة للسيطرة البريطانية. لم يقبل الفلسطينيون قرار التقسيم وإعلان استقلال إسرائيل مدعومين من الدول العربية المجاورة. غزت مصر وسوريا والعراق ولبنان والأردن دولة إسرائيل الوليدة، بدأت ما تسميه إسرائيل الآن حرب الاستقلال. فر مئات الآلاف من الفلسطينيين من القتال وطرد من لم يغادر منهم قراهم على يد القوات الإسرائيلية. ولم يستطع معظمهم العودة قط. يتذكّر الفلسطينيون العام 1948 باسم النكبة، تماماً كما تعني كلمة “شواه” بالعبرية. وكون هذه المقارنة أمر لا مفر منه، فقد أجبر الكثير من الإسرائيليين إلى التأكيد على أن الفلسطينيين، على عكس اليهود، هم من جلبوا نكبتهم على أنفسهم.
في اليوم الذي وصلت فيه إلى كييف ، سلّمني أحدهم كتاباً سميكاً. كانت أول دراسة أكاديمية لستيبان بانديرا تنشر في أوكرانيا. وبانديرا هذا يعتبر بطلاً أوكرانياً حارب ضد النظام السوفيتي. وظهرت له عشرات النصب التذكارية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. انتهى به المطاف في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وقاد حركة حزبية من المنفى، وتوفي بعد تسميمه من قبل عميل كي جي بي K.G.B في العام 1959.
كان بانديرا أيضاً فاشياً ملتزماً، ويتبنى إيديولوجية تدعو لتأسيس نظام شمولي. هذه الحقائق مفصلة في الكتاب، الذي بيع منه حوالي اثنتي عشرة مائة نسخة. (رفضت العديد من المكتبات وضعه على رفوفها). تستخدم روسيا بغبطة انتشار ثقافة بانديرا في أوكرانيا كدليل على أنها دولة نازية. ويرد الأوكرانيون في الغالب بمحاول تبييض إرث بانديرا.
ولكن من الصعب جداً على الناس الالتفاف حول فكرة ترى في شخص عدوّ لعدوّهم وشريراً بذات الوقت. ضحية وجلاد بآن معاً أو العكس.
……
هوامش المترجم
* تعني عبارة نزع طابع الفرادة عن الهولوكوست de-singularizing the Holocaust، إلغاء معنى “الاستثناء” التاريخي لأحداث الهولوكوست النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، بمعنى أن ما حصل في أوروبا ليس حدث وحيد وفريد ولن يتكرر، بل له ما يماثله في تاريخ الجماعات البشرية أخرى في أماكن أخرى. ويعتقد الكثير أن هذه السمة؛ أي “تجاهل فرادة الهولوكوست” قد تتحول إلى إجراء يرقى إلى “معاداة السامية”، علماً أنه، من الناحية النظرية على الأقل، يظهر التركيز على هذه الفكرة، عدم التمترس وراء قصدية تأويلية مسبقة والانفتاح على أفكار تحاول إدراك وفهم الصلات العامة والسياقات الاجتماعية والتاريخية التي أدت إلى هذا الحدث، ومن ثم السعي لفهم الأحداث المماثلة والتي قد تشمل الإبادة الجماعية أو الظروف التي تؤدي إلى مثل هذه الكوارث الإنسانية في سياقات مختلفة، ويعتبر أنصار هذا الرأي أن مثل هذا التوجه مفيد أيضاً في تجنب تصنيف الهولوكوست كحادث معزول، ويساعد في فهم العوامل الأوسع التي يمكن أن تؤدي إلى أحداث مشابهة في سياقات أوسع، ولعل هذا ما يدفع البعض إلى أفكار ترى إمكانية “تعميم” حدق الهولوكوست عبر التاريخ البشري والنظر إليه كجزء من أطر أرحب من لحظات التاريخ الإنساني ، بدءً، ربما، من صراع الهومو سابيينيس وإنسان نياندراتال وصولاً إلى أحدث نسخة منها، أي الحرب الغاشمة على قطاع غزة 2023 ومثل هذا التعميم يتيح لنا تحرير فكرة الهولوكوست من حصريتها.
بقي القول إن نزع طابع الفرادة عن الهولوكوست ليس تهمة ضد أحد كما يحاول البعض فهمها، بل هي “نهج” أو مقاربة نقدية تسعى لتصنيف وتعريف الكوارث الإنسانية ضمن مساراتها التاريخية، كلٍّ حسب شرطه الذاتي والموضوعي؛ ولعل هذا ما يجعل منه مصطلحاً ملتبساً وقابلاً للتأويل والتأويل المضاد (لا سيما بما يوافق الأهواء والمصالح السياسية الحزبية وغيرها).
وبالتوازي مع ذكر المصطلح في هذه المقالة؛ ينبغي الإشارة إلى الآلية التي يتعامل بها القانون الألماني مع مسألة “الهولوكوست” ؛ إذ يعتبر أي إشارة إلى الهولوكوست بطرق تنفي معاناة الضحايا أو تجاهل أو نفي الجرائم التي ارتُكبت فيها تُعتبر جريمة، ويعتبر هذا النفي والتصريح به تهديداً للسلم الاجتماعي أو العام، وقد يترتب عليه تبعات قانونية بتهم المس بذكرى الهولوكوست والتقليل من معاناة الضحايا، وتبرر السلطات هذا الإجراء بـ “الوفاء بالمسؤولية التاريخية وحماية الحياة اليهودية في ألمانيا” وبواجبها المتعلق بمنع تكرار الحدث بالحفاظ على الذكرى واحترام الضحايا وذويهم وتأكيد أهمية فهم وتعلم ما حدث أثناء الحقبة النازية في ألمانيا.
….
المصدر: https://www.newyorker.com/news/the-weekend-essay/in-the-shadow-of-the-holocaust
العنوان الأصلي: In the Shadow of the Holocaust: How the politics of memory in Europe obscures what we see in Israel and Gaza today.