في الجانب الإنساني والأخلاقي للقضية الفلسطينية، حظيت -خاصة بفعل ما يتعرّض له الفلسطينيون من حرب إبادة جماعية في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر- على أوسع حالة تعاطف وتأييد عالميين لحقوق الشعب الفلسطيني في السلام و الحياة الكريمة والدولة المستقلة ، بما يؤكّد ما اكتسبته القضية العادلة من طابع إنساني وحقوقي بات أكبر من أن تُحجّم او تُختزل بأشكال أدنى تجعل منها صراعا دينيا او قوميا. هو موقف أخلاقي وإنساني عابر لجميع الحدود ، تجاه شعب سلبت منه حقوقه، ويتعرّض لأشكال مختلفة من حروب التطهير العرقي على يد دول حرب وغزو باتت بقبضة عصابة صهيونية دينية استيطانية توسعية، نجحت في نقل الصراع إلى ساحتها المفضّلة بفعل توفّر شروط رعب إقليمية، نجح تحالف أمريكيّ إيراني في صناعتها، وبات هاجس مواجهتها أولوية الأنظمة، وهي تستند في ذلك على تقاطع مصالح مع أعظم “دولة ديمقراطية” في العالم .
في هذه المرحلة من الصراع على فلسطين، وما باتت تواجهه قضية الشعب الفلسطيني الوطنية من أخطار مصيرية، وما تعرّض له الفلسطينيون في أعقاب هجوم طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية العدوانية اللاحقة، أكثر ما نحتاج إليه، نحن الداعمون الحقيقيون لقضية الشعب الفلسطيني وأهداف نضاله المشروعة، هو التمييز بين ما حققته القضية الفلسطينية من انتصارات على المستويات الإنسانية والأخلاقية، وبين ما تواجهه من تحدّيات على الصُعد السياسية والعسكرية، وعدم إدراكنا لهذا الفارق النوعي يحوّل الشعور ب”نشوة ” الانتصار إلى أوهام سياسية (1)، ويُضيّع ما تحقق على مستوى الانتصارات المعنوية، ويحوّل جمهورها وأبطالها إلى “مشاهدين”!
لنعترف أنّ حقائق السياسة …تختلف عن المشاعر …وما تراكم من أوهام الإيديولوجيا، وكرّسته وسائل الإعلام، وأنّ العبرة ليست في أن نكون مع قضايا شعب فلسطين (أو سوريا أو العراق) قولا، وعلى صفحات التواصل أو عبر الأثير، أو حتى شعرا ونثرا وتظاهرا- ويتساوى على هذا المستوى ، الصادقون والمنافقون والمدّعون والوطنيون والانتهازيون، والذين يضحون، أو يتاجرون بالدماء والحقوق!
التحدّي الرئيسي هو كيف نفهم التجسيدات السياسية القائمة لقضية سياسية نعتقد إننا نؤيدها، و إلاّ كيف يساهم قولنا وفعلنا ونشاطنا السلمي في تحقيق أهداف ودعم جهود انتصار تلك القضية العادلة على المستويات السياسية ؟
بناء على تلك الهموم ، والهواجس، أحاول تقديم ما أعتقد أنّه يصب في فهم طبيعة القضية الفلسطينية السياسية وما يساعد على دعم نضال الفلسطينيين :
التساؤل الرئيسي الذي يطرح نفسه على جميع المعنيين حقّا والمخلصين في دعمهم لقضية النضال الوطني الفلسطيني :
ما هي التجسيدات السياسية لقضية النضال الوطني الفلسطيني اليوم في ضوء نتائج طوفان الأقصى ، وعواقب الحرب الإسرائيلية العدوانية، وفي هذا السياق الفلسطيني و”الإسرائيلي” و الإقليمي – والدولي – الأمريكي، الأوروبي، وفي ظل ما ينتج عنه من موازين قوى، وما هي طبيعة المواقف والوعي السياسي في هذه المرحلة التي تعني انّك مع “قضية الشعب الفلسطيني” ؟
شخصيا، أعتقد أنّ القضية الرئيسية في نضال الفلسطينيين اليوم هي في وقف حمّام الدم والتطهير العرقي والتهجير الديمغرافي الاستيطاني الذي تمارسه سلطات العدو في إطار لعبة الصراع مع الإسلام السياسي، وذلك من خلال خارطة طريق تسوية سياسية ممكنة التحقق.
ما هو الممكن في مشاريع الحل / التسوية السياسية، الذي يوفّر شروط حماية الفلسطينيين؟
يقول البعض، وهم على حق من وجهة نظر الحقوق ، والقانون الدولي .
” نحن لا نريد دولة على حدود ٦٧.نحن نريد دولة فلسطينية حرة ،ولا نريد أي سلام مع دولة الاحتلال”.
فهل هذا هو الموقف المناسب لدعم قضية الشعب الفلسطيني ؟ لنجيب على هذا التساؤل، بأسئلة :
هل يكفي أن تكون الأهداف محقّة ، حتى تتحقق؟
ماذا عن الأدوات والآليات ؟
وكيف سيحققون هذا الهدف ؟ بالكفاح المسلّح؟ وماذا عن موازين القوى؟ هل انتم قادرون ، حتى لو تحوّل كلّ الفلسطينين إلى صواريخ حمساوية؟
هل تعوّلون على العامل الخارجي ؟
ما الفائدة من دعم ” قضايا فلسطينية ” غير قابلة للتحقق في ميادين الصراع وموازين قوى الحرب؟
وما الجدوى من دعم مشروع إذا كان قد أصبح غير قابل للتحقيق في شروط الصراع وموازين قوى الحرب القائمة و المسيطرة، في هذا السياق التاريخي المحدد ؟
وماذا عن دروس نضال الشعب الفلسطيني؟
1- هل ثمّة إمكانيات واقعية لتتحقق مصالح الفلسطينين وفقا لمشروع تحرير فلسطين – مشروع فتح وقوى التحرر الوطني والقومي الديمقراطية التي انضوت في إطار ” منظمة التحرير الفلسطينية ” ، سابقا ، و” الإسلام السياسي” لاحقا – كامل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وعبر الكفاح المسلح؟.
2- هل يملك مشروع “الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية ” الذي طرحته بعض القوى السياسية الفلسطينية والإسرائيلية إمكانيات وآليات التحقق، وبالتالي هل من الموضوعية التعويل عليه لتحقيق مصالح الفلسطينين وأهداف قضيتهم العادلة؟
3- ماذا عن مشروع أوسلو؟ ألم تؤدّي اتفاقيات أوسلو 1993… وما نتج عنها من اتفاقيات لاحقة إلى قيام “سلطة وطنية فلسطينية ” 1995 لأول مرة في التاريخ الحديث، في إطار مفاوضات سياسية مباشرة مع حكومة “تسوية ” إسرائيلية، برعاية ” أوروبية- أمريكية ؟
4-ماذا قدّم مشروع” الإسلام السياسي” للشعب الفلسطيني؟ هل يملك رؤية وخارطة طريق لتحقيق الحد الأدنى من مصالح الفلسطينيين الراهنة – سلام وأمن، وشروط تطوّر اقتصادية وسياسية مستدامة؟ ألم تفشل رؤى وجهود قياداته- التي وضعت مصالح الفلسطينين وأرواحهم ونضالاتهم في إطار مشروع سيطرة إقليميّة أشمل ، أتاح لقواه توظيفهم لحسابها الخاص- في حماية أرواح الفلسطينين ، ناهيكم عن تحقيق أهداف التحرير؟
هل كان ليستطيع اليمين المتطرّف الإسرائيلي محاصرة مشروع أوسلو ، والعمل على تقويض شروط صيرورته ” دولة وطنية فلسطينية” ، يمكن لسلطتها أن تكون اكثر استقلالا وشرعية من معظم السلطات الإقليمية، لولا تقاطع أهدافه في تفشيل مشروع أوسلو مع أهداف وسياسات الإسلام السياسي الجهادي الفلسطيني ، وعرّابه الخارجي ؟
مع أي” فلسطين” نحن ، واي مشروع سياسي نعتقد انّه يمكن أن يحقق مصالح الفلسطينين ، في ظل موازين قوى الصراع – فلسطينيّا وإقليميّا ودوليّا ؟
أوّلا ،
محطّات تاريخية، أرجو أن تساعدنا على فهم طبيعة المرحلة، بعيدا عن تضليل الديماغوجيا والإيديولوجيا:
1- خلال 1948، كان من الطبيعي أن تُهزم حكومات “الاستقلال” في مواجهة أخطر مراحل تأسيس مشروع “الكيان الصهيوني – البريطاني” ، لأنها كانت ، سياسيا وعسكريا، واجهات بريطانية وفرنسية، وبالتالي بعض أدوات مشروع سيطرة إقليمية تشاركية، أتى تأسيس الكيان في سياق بناء مرتكزاته وأدواته.
2- أدّت عواقب هزيمة سلطات “الأنظمة القومية ” (“الوطنية والتقدمية ” التي “ولدت وترعرعت” في سياق بناء مرتكزات مشروع السيطرة الإقليميّة الأمريكي الجديد لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، والمسنودة من قبل ” الدولة الاشتراكية السوفياتية ، ومعسكرها” الاستبدادي ) في حرب حزيران 1967 إلى تمكين ” المشروع الصهيوني ” جيوسياسيا- على صعيد السيطرة الجغرافية والمشروعية السياسية- وقد كان يواجه في النصف الثاني من الخمسينات وحتى عتبة حزيران 1967 سؤال المصير ، بعد هزيمة مشروع غزو مصر الناصرية الثلاثي 1956 (الإسرائيلي والفرنسي والبريطاني)، وإجبار الولايات المتّحدة جيش الاحتلال الإسرائيلي على الرحيل من سيناء، و بعد تراجع وانحسار نفوذ عرّابه الدولي البريطاني لصالح ” مشروع سيطرة أمريكية ” بديل، و لم تكن تتضح بعد طبيعة رؤيته وعلاقاته مع دولة الكيان، وقد كان من أبرز النتائج السياسية لانتصار “مشروع الحرب الإسرائيلية ” في غزوة 67 ليس فقط حصول سلطة الكيان الغير شرعية على ” الأرض ” ( التي هي اهمّ مقوّمات قيام دولة )، بل والأخطر من ذلك ، هو بنائها على نتائج الحرب العسكرية لفرض نفسها كلاعب سياسي وعسكري على رقعة مشروع السيطرة الإقليميّة الأمريكية الذي كان صنّاعه يعوّلون بالدرجة الأولى على مرتكزات محلية مختلفة عن أدوات و واجهات المشروع البريطاني المتقهقر – النموذجين الناصري والسعودي والإيراني / الباكستاني !
في مراحل ما بعد 1967 ، لم يكن أمام الولايات المتّحدة ترف رفض “اليد الإسرائيلية الممدودة ” في ضوء نتائج الانتصار الإسرائيلي الواقعية ، وبعد فشل نموذجها الناصري في بناء مشروعه الوطني، وحماية نفسه من مخاطر التحديّات الإقليمية التي صنعتها سياساته الهجومية وعواقب “منافسة” دموية مع أصحاب المشروع السعودي ؛ وفوق كلّ ذلك ، فشلها في حمايته من أنياب الوحش الصهيوني، ولا جدوى المساندة السوفياتية …!!
3- لاحقا ، في أعقاب حرب أكتوبر 1973، تكشّفت أبعاد مأزق سياسات الولايات المتّحدة خلال نهاية الستينات، ومنتصف سبعينات القرن الماضي، حين فشلت في فرض تسوية سياسية شاملة بين شركاء سيطرتها الإقليمية و التوفيق بين دولة الكيان والأنظمة العربية ، التي استمدّت مشروعيتها السياسية والوطنية من قاعدة العداء ” للصهيونية ” واللاءات الثلاث ؛ ولم يكن نجاحها النسبي على صعيد العلاقات المصرية الإسرائيلية إلّا مبررا آخر لتعميق الانقسام الإقليمي، وإعطاء المشروعية لمقاومة المشروع الأمريكي الذي بات بنظر البعض الوجه الآخر للمشروع الصهيوني، نتيجة لعجز سياسات واشنطن عن فرض ” تسوية عادلة ” كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق خلال تسعينات القرن الماضي حين ظهرت اتفاقيات أوسلو.
لقد فشلت مجددا جهود مشروع الولايات المتّحدة في الوصول إلى تسويات تاريخية شاملة بين الأنظمة وإسرائيل، بناء على معطيات نتائج حرب تشرين 1973- 1974، لأسباب ترتبط جوهريا بعوامل نتائج الحرب النهائية من جهة ( التي لم تكن تشكّل ورقة ضغط كافية لإجبار إسرائيل على تطبيق القرار 242)، وأولوية الحفاظ على سلطات الأنظمة التي شاركت مصر في الحرب، سوريا والسعودية والعراق، وهو ما دفع الولايات المتّحدة للبحث عن بديل إقليمي ثالث ،اكثر مشروعية شعبية ، وجدوى وفاعلية في ضمان مصالحها الإقليمية الأكثر حيوية في خطط وسياسات السيطرة الإقليمية والهيمنة العالمية، وكانت ثورة الشعب الإيراني تتصاعد في مواجهة وكيل واشنطن الإقليمي الأقوى الذي بدأ يترنّح أمام ضربات قبضة الشعب الإيراني الموحّدة، وإصراره على التغيير الديمقراطي، وقد كان يمثل” الإسلام السياسي” فيها للولايات المتّحدة فرصة واعدة، لم يكن من مصلحتها عدم التقاطها، وتحويل نتائجها إلى أداة إقليمية جديدة ، أكثر قوّة ومشروعية شعبية من جميع أدواتها التاريخية التي باتت عبئا ثقيلا، و لم يكن يملك مشروع الإسلام السياسي الخمينيّ العصا السحرية التي تريدها واشنطن. فقد كان يحمل في منطقه وطبيعة وظيفته عوامل متاعب أمريكية لا نهاية لها .
فتمكين المشروع إقليميّا مثّل الشرط اللازم والضروري لأداء النظام وظيفته الأمريكية، وللحفاظ على مرتكزات سيطرته الداخلية، وتطلّب بالضرورة التمدد إقليميا،( تحت شعارات مضللة ” تصدير الثورة الإسلامية ” ، و ” تحرير القدس “)- في مواجهة مع سياسات وأدوات مرتكزات سيطرة الولايات السابقة،” العربية” والإقليمية ، وفي صراع ضدّ أهداف وأطماع دولة الاحتلال الإسرائيلية “؛ وهذا يفسّر حجم وأهمية ما صنعه المشروع الأمريكي “الإسلامي” الإقليمي الجديد من انتصارات منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، كما يفسّر ، من جهة ثانية ، ما واجهه من تحدّيات إقليمية كبيرة في تمدده على حساب مصالح شركاء مشروع السيطرة الإقليميّة الأمريكية السابقة . إضافة إلى ذلك، توضح طبيعة أهداف وأدوات مشروع السيطرة الإقليميّة الأمريكية الإيرانية- إجهاض مسارات التغيير الديمقراطية، وتفشيل دول المنطقة ، بأدوات المليشيات الطائفية، ما نتج من عواقب مدمّرة على تلك المشاريع الوطنية الديمقراطية وعلى مؤسسات الدولة الوطنية؛ وعلى بعض قوى النظام نفسه التي عجزت عن التكيّف مع شروط تحقيق أهدافه ، أو الأنظمة الإقليمية التي كان يشكّل وجودها عقبة رئيسية أم تمدده الإقليمي !!
2- في محطتي عمّان 1970، و بيروت ، 1982 ، كان من الطبيعي أن يصل مشروع الثورة الفلسطينية ” إلى نهاياته المرجوّة إسرائيليّا، لعوامل ذاتية فلسطينية، ترتبط بعدم موضوعية الترابط بين الأهداف التي طرحها وأدوات تحقيقها- تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، بالكفاح المسلّح – في اعتبارها راس حربة مشروع تحرري ، إقليمي عربي ، وسوفياتي ، وكان الخطأ القاتل في الوعي السياسي النخبوي الفلسطيني ، القومي والديمقراطي ، هو عدم إدراكه لطبيعة علاقات السيطرة الإقليمية الأمريكية التي لم يكن المشروع “القومي “، الذي استندت عليه كرافعة لتحقيق أهداف مشروع التحرير الفلسطيني، إلّا بعض أدوات السيطرة الإقليمية الأمريكية، ولم تكن طبيعة أهداف وأدوات المشروع السوفياتي، الذي اعتبره مشروع التحرير الوطني الفلسطيني داعما وحليفا، دوليا وإقليميّا، تشكّل بديلا واقعيا ، يمكن التعويل عليها، لتحقيق أهداف التحرير الاستراتيجية!!
3- في ضوء هزائم المشروعين التحرريين، القومي العربي والفلسطيني الوطني الديمقراطي، وما طرأ من تغيير في مطلع التسعينات في طبيعة المشروع السوفياتي / الروسي ، إقليميّا ودوليّا ، لغير صالح القضية الفلسطينية، قدّم مشروع “أوسلو ” ، في سياق سعي الولايات المتّحدة للتوفيق بين شركاء سيطرتها الإقليمية، افضل الفرص الممكنة وفقا لمسار تسوية تاريخية ، تؤدّي في السياق والصيرورة إلى وقف مسار القتل والتدمير والاستيطان والتغيير الديمغرافي وقيام ” سلطة ذاتية فلسطينية مستقلة” على ثلاث مناطق فلسطينية رئيسية ، يمكن أن تشكّل المقومات الجغرافية للكيان السياسي الفلسطيني الموعود – القدس الشرقية ، الضفة الغربية ، وقطاع غزة ….ولم يكن لهذا المشروع الفلسطيني الأفضل أن يصل إلى نهاياته المرجوّة فلسطينيا، لأنّه تعارض مع مصالح قوى مختلفة، فلسطينية وإسرائيلية، بالدرجة الأولى ، وإقليمية ، في درجات لاحقة . لقد تقاطعت مصالح الجميع ، رغم تناقض واختلاف دوافعها الخاصة ، حول هدف تفشيل المشروع، وما ينتج عنه، وفي سياقه، من حروب ودمار !!
1- على الصعيد الفلسطيني، كان من الطبيعي ظهور تيارات الإسلام السياسي خلال ثمانينات القرن الماضي في ظل انتعاش المشروع إقليميا، و على خلفية هزيمة مشروع الثورة الفلسطينية، الوطنية والقومية والديمقراطية، في تحقيق أهدافها السياسية، وعلى وقع وتأثير تمدد المشروع الإيراني، وحاجته لأدوات محلية لمواجهة خصومه ومنافسيه الإقليميين، وفي مقدمته دولة الاحتلال الإسرائيلي . هنا تقع قيادة مشروع التحرير الإسلامي ” الفلسطينية ” في نفس الأخطاء المميتة التي ارتكبتها قيادات حركة التحرر الوطني الديمقراطي الفلسطينية : عدم موضوعية الربط بين الهدف والأداة – البندقية ، لتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، وعدم موضوعية التعويل على الداعم الإقليمي، “الإسلامي” ولا الدولي – ” الأمّة الإسلامية “، وفي كونها رأس حربة مشروع تحرري إقليمي إسلامي!!
سيطرة الإيدولوجي على السياسي في وعيها ، حرمها من الاستفادة من تجارب كفاح الشعب الفلسطيني طيلة عقود ، خاصة إدراك طبيعة موازين قوى الصراع، وحقيقة أنّ ” المشروع التحرري الإسلامي ” الراهن ، على غرار مشروع” التحرر الوطني القومي العربي ” السابق ، ليس خارج سياق مشروع السيطرة الإقليميّة الأمريكية، وصراعات التنافس على السيطرة الإقليمية، ولا تستطيع سلطاته تجاوز سقف أهداف المشروع الأمريكي السياسية ؛ وهو ما يحدد سقف أهداف مشروعها في فلسطين ، ويشكل أبرز نقاط ضعفه القاتلة !!
ثانيا ،
في أبرز الوقائع، وأهمّ الدروس والاستنتاجات :
1-
ترتيبات حكم العراق بعد 2004، وصراعات مواجهة تحدّيات” الربيع العربي” خلال العقد الثاني ، تبيّن طبيعة الدور “الإسرائيلي ” الغير رئيسي ، وطبيعة التحديّات التي واجهت المصالح والسياسات السعودية والتركية، وقد حقّقت “الشراكة الميدانية” بين أهداف وسياسات مشروع السيطرة الإقليميّة الأمريكية وأدوات وسلطات الإسلام السياسي ،التي تمحورت أهدافها منذ نهاية سبعينات القرن الماضي حول قطع صيرورات التغيير الديمقراطي وتفشيل دول المنطقة ، انتصارات تاريخية بدءا من إيران نهاية السبعينات و مرورا بأفغانستان خلال الثمانينات ، والعراق وسوريا واليمن، خلال العقود التالية ( وقد تعثّرت في البحرين والسعودية وتركيا) ، و تعمل التسوية السياسية الأمريكية الشاملة ومشروع التطبيع الإقليمي منذ مطلع 2020 ، في نهاية عقد من حروب قوى الثورة المضادة للتغيير الديمقراطي، على تثبيت وقائع ما أنجزته من انتصارات ميدانية ، وشرعنتها ؛ محليّا و إقليميا وعلى الصعيد الدولي ، وفي إطار حزمة متكاملة من إجراءات التأهيل والتطبيع ؛ وقد تقاطعت في أهداف هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر وفي الحرب الإسرائيلية العدوانية اللاحقة، أهداف وسياسات حماس (إيران ) وحكومة العدو حول قضايا التسوية السياسية في سوريا، والتطبيع الإقليمي الأمريكي، كما تقاطعت مصالح وسياسات الولايات المتّحدة والنظام الإيراني في تفشيل جهود حكومة نتنياهو الساعية لتوريط إيران في حرب إقليمية واسعة النطاق :
في حين سعت حماس ( وإيران) إلى ربط تقدّم خطوات التطبيع على المسار السعودي الإسرائيلي باستكمال شروط قيام تسوية على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، يكون فيها لحماس دور رئيسي على حساب السلطة الفلسطينية ؛ سعت حكومة الحرب لتحقيق أكثر من هداف في حربها العدوانية اللاحقة :
تدمير شروط التسوية السياسية الفلسطينية الإسرائيلية، وجر إيران إلى حرب إقليمية تُتيح لها توجيه ضربات نوعية لقواعد ارتكازها في سورية ( التي تعترف فيها التسوية السياسية الأمريكية ) وتدمير المرتكزات الصناعية لسلاح الهجوم الإيراني – البالستية والنووية .
في وصول الحرب إلى نهايتها ، يبدو جليّا نجاح حكومة الحرب الإسرائيلية في تدمير شروط التسوية السياسية الفلسطينية الإسرائيلية، و إلحاق ضربات موجعة في المواقع لإيرانية داخل سوريا ، دون أن تتمكن من تحقيق أهداف مهاجمة إيران بشكل مباشر، وبما يحقق أهدافها، ويعود الفضل الرئيسي في ذلك لسياسات التحكّم والضبط الأمريكية، وما مارسته من ضغوط على تل أبيب لمنع توريط إيران في حرب شاملة، واستطاعت آلية تنسيق هجوم الرّد الإيراني الأمريكية فرض قواعد اشتباك جديدة، تشكّل عمليا مظلّة حماية لسلاح إيران الاستراتيجي.
2- منذ هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي ، لم تستطع جميع أشكال دعم الفلسطينيين في مواجهة حرب إسرائيلية مدمّرة ، مدعومة أمريكيا ، أن تحمي طفل فلسطيني واحد ، أو أن تمنع جنديا إسرائيليا من إطلاق النار على قلب مدني فلسطيني….ولم تكن في النهاية ألّا في إطار “رفع العتب” او تسجيل مواقف، او ردّات فعل عاطفية ، وإنسانية ، ليس لها أي وزن سياسي أو عسكري في الميدان؛ وهي الحقيقة التي يتجاهلها أصحاب الأقلام والأصوات التي تحاول “ركوب الموجة”، بعواطفها الجيّاشة ، ومثاليتها المنفصلة عن حقائق الواقع، أو البعض الآخر ، الذي يجيد “الاستثمار” بدماء الفلسطينين وقضياهم العادلة لحسابها الخاص ، على جميع الصعد الشخصية والسياسية !
3- في ضوء عواقب الحرب الإسرائيلية العدوانية المدمّرة، يواجه الفلسطينيون في هذه الظروف الأخطر طيلة القرن الماضي خيارين لا ثالث لهما :
أ- التعلّق ببقايا مشروع أوسلو، وسلطته الوطنية ، والعمل على تعزيز مقوّمات كيان جيوسياسي فلسطيني ، من خلال بناء جسور مع حكومات وقوى إسرائيلية معتدلة ، تقبل الدخول في هذا المسار ، والتشبيك مع القوى الإقليمية و الدولية التي ليس لها مصلحة في استمرار الصراع .
ب- التعلّق ببقايا مشروع ” الإسلام السياسي ” وأداته الفلسطينية الحمساوية ، التي هُزمت عسكريا و إنسانيّا، و لم يبق منه سوى ورقة حماس السياسة، تستخدمها قوى اليمين المتطرّف الإسرائيلي لتبرير رفض مشروع أوسلو؛ وتعمل قواه الإقليمية جاهدة للوصول إلى صفقات وتفاهمات مع الولايات المتّحدة وحكومة الاحتلال من أجل حماية مصالحها الإقليمية الخاصة .
في هذه المرحلة من الفشل التاريخي لمشروع التحرير الإسلامي، وما جرّه من تدخّلات إقليمية ، وويلات على الفلسطينيين ، من واجبنا ، كشعوب ونخب، أن نحكّم عقولنا، وضمائرنا، خارج الأيدولوجيا والديماغوجيا وأكاذيب وسائل الإعلام، لتحديد موقفنا من الصراع على فلسطين.
إذا كان جوهر قضية الشعب الفلسطيني اليوم هو وقف أعمال وسياسات القتل والتدمير والتهجير بحق الشعب الفلسطيني، وإعطاء ما تبقّى منه فرصة لتوفير شروط الأمن والسلام والحياة الكريمة، فأين يجب أن نقف ، وأي مشروع سياسي فلسطيني يجب أن ندعم ؟
هل نكذب على أنفسنا، ونخدع الآخرين؟
____________________________
(1)-
كتبت الرفيقة ” الماركسية ” ،” هيفاء الجندي ” بتاريخ 26- 4 على صفحتها ،من وحي المظاهرات التي اجتاحت بعض الجامعات الأمريكية : ” أرادوا ( تحالف قوى المال والنفوذ) محو فلسطين الحرة من الخارطة ومن الذاكرة فاصبح العالم كلو فلسطين…الكل سقط في اختبار فلسطين الحرة ووقع في الحفرة…فلسطين بدا تحرر العالم كلو من عبودية المال ومن الذل والخنوع …فلسطين بدا تولع الثورة بالعالم كلو…هي كل الذاكرة وكل الضمير وكل الحرية وأم العدالة والقيم والحقيقة والثبات على المبادئ …
الحق يعلو ولا يعلى عليه….”.