المسلسل السوري (كسر عظم) الذي قُدم الجزء الأول منه (30 حلقة) في رمضان العام 2023؛ إخراج رشا شربتجي، والجزء الثاني (30 حلقة) في رمضان هذا العام، إخراج كنان إسكندراني.
في الواقع، تابعتُ بعض حلقات الجزء الأول لأنني معجبة بموهبة المخرجة رشا شربتجي ولوجود ممثلين مبدعين مثل فايز قزق وكاريس بشار وغيرهم. لا أنكرُ أن نجومية الممثل والكاريزما التي يتمتع بها تؤثر كثيراً في الناس. لكني توقفتُ عن متابعته -رغم إبداع رشا شربتجي- لإحساسي أنه ينتمي لأسرة مسلسل الولادة من الخاصرة وغيره؛ بمعنى؛ حبكة تدور حول مافيات تتصارع على السلطة والمال وتتنافس في تركيب وتهريب الكبتاغون والسلاح، وطبعاً لا بد من وجود بعض الضحايا المساكين مثل العائلات الفقيرة المذعورة التي لا تجرؤ على النطق بكلمة احتجاج على انقطاع الكهرباء أو الجوع.
لا أعرف السبب وراء إصراري على متابعة الجزء الثاني منه، ربما لفضول شعرتُ به لمعرفة كيف تتطور الدراما السورية، وتوقعتُ -على سبيل الافتراض؛ لا اليقين- أن يكون هذا الجزء مختلفاً -ولو قليلاً- عن الجزء الأول.
ولا أخفيكم القول كيف تسلحت بصبر أيوب لمتابعة هذا الجز الثاني، في الحقيقة؛ عددتُ ذلك بمنزلة اختبار لدرجة الصبر لدي. غير أن الكارثة؛ بالأحرى، المهزلة كانت أن كل حلقة كانت تبدأ بعبارة (لا يوجد أي تشابه بين شخصيات المسلسل والواقع وإذا حصل تشابه فهو بمحض المصادفة).
سأحكي المشهد من بدايات الجزء الثاني بحياد تام: امرأة… هي أم ملتاعة قلبها محترق على ابنها الشاب المُختفي منذ سنوات، ولا تعرف هل هو مُعتقل أم لا؛ وإن كان كذلك ففي أي فرع، وهل هو مَيْت أم مفقود. أم يذوب قلبها لتعرف مصير ابنها (تريد أن تعرف مكانه… يكفي أن تعرف أين هو الآن وهنا). تحاول مع الكثير ممن عدّ متنفذين أن يدلوها أين مكان ابنها، إلى أن تنجح أخيراً في معرفة أنه مسجون في السجن الفلاني، فتكاد تطير من الفرح لأن ابنها ما زال حيّاً، وتتدخل (نقولها بالدارجة السورية تتواسط) لدى مسؤول آخر لتلتقي به؛ وتتمكن أخيراً من زيارة المسؤول عن السجن الموجود فيه ابنها، وببساطة شديدة (كأن الضابط يقول لها صباح الخير) يعطيها هوية ابنها ويقول لها: البقية بحياتك؛ ويطلب منها أن توقع أوراقاً على وفاته فترفض، وتدخل في حالة صدمه هستيرية رافضة تصديق أن ابنها مات، بالرغْم من محاولة ابنتها وأقاربها إقناعها بقبول الحقيقة وأن مصيره كمصير مئات الآلاف من الشبان.
عجباً كيف تدفقت عشرات الصور في ذاكرتي -أنا التي عشت عمري في اللاذقية- لأستعيد مشاعر وقهر مئات القصص طبق الأصل من قصة هذا الشاب في المسلسل. هل يستهزأ المؤلف والمخرج بعقول المشاهدين في سوريا حين يُتحفنا كل حلقة ألّا تشابه بين الواقع وبين ما يحصل في المسلسل وإذا حدث تشابه فبالمصادفة المحضة !!!
تأملوا معي مشهد الضابط وهو يسلم الأم الملتاعة هُوية ابنها ويخبرها أنه مات بالسكتة القلبية (في السجون الجميع يموت بالسكتة القلبية). وعلى المقلب الآخر نرى تنوعات؛ أو إبداعات الفساد، تجارة السلاح وصناعة وتهريب المخدرات؛ ولا أعرف لماذا أعطى المُخرج صناعة وتهريب الكبتاغون مساحة واسعة مُعتمداً على طبيب ماهر في تركيب هذه المادة المخدرة، وجسّد الممثل رشيد عساف ببراعة دور شخصية أمنية برتبة عالية، ولديه ابن وحيد مدلل وفاشل وقد ارتكب جريمة قتل لكن والده (ضابط المخابرات عالي الرتبة) نجح في تهريبه إلى خارج سورية أي برّأه من تهمة القتل، لكن الشاب يحس بضجر ووحدة في الغربة فيعود فجأة إلى دمشق ويجن جنون والده (رشيد عساف ضابط المخابرات) ويأمر أبنه البقاء في البيت لأن هذا الخبر سيستثمر به أعداؤه، ويضع عليه حراسة مشددة؛ وفي الوقت ذاته يتعاون الضابط مع محامٍ مرتشٍ لطيّ جريمة القتل التي ارتكبها ابنه .
الدسائس والمنافسة والقتل هي حجر الأساس في المسلسل، تتكرر في كل حلقة لدرجة تختنق من الملل، ابن الضابط المدلل يكاد يموت ضجراً في البيت، فيتوسل أباه إخراجه ويحاول إقناعه بأنه تغير وأصبح ناضجاً -وهو الفاشل في كل مجالات الحياة- فيقنعه والده أن عليه أن يداوم ويقضي كل وقته مع ضابط يثق به هو تلميذ الضابط عالي المرتبة (رشيد عساف) يقول لابنه: ليس مطلوب منك أي شيء سوى مراقبة عمل تلميذي النجيب الضابط وسوف تتعلم منه. ويا للعلم المُبهر المتمثل في التعامل مع أحد فروع مافيا المخدرات، حتى يصير الابن الفاشل مدمن عليها.
باختصار، يخرج ابن الضابط حياً بعقد صفقة لإخراج الابن الذي تسلمت أمه هوية موته.
يا سلام على هذا التشابه عن طريق المصادفة بين الواقع والمسلسل، ودائماً هناك ما يُسمى (القيادة العليا)… الكلمة التي تتقصف منها الركب ويتجمد الدم في العروق.
ولا نعرف من هي القيادة العليا التي لم تعد راضية على عمل ضابط المخابرات رشيد عساف؛ لا سيما بعد فضائح ابنه والتستر على جريمة القتل. فيستدعيه ضابط مهم ويأمره، أي يأمر رشيد عساف- بالاعتراف بجميع الجرائم التي ارتكبها خلال عمله أمام كاميرا فيديو مقابل ضمان سلامه ابنه وتهريبه خارج سوريا. وبعد أن ينتهي رشيد عساف اعترافه، وهو الذي كان اسمه يشكل رعباً للناس، يقتله المحقق وفقاً لتعليمات القيادة.
وينتهي الجزء الثاني (بحلقاته الستين) بعودة السلطة والقوة لفايز قزق الذي كان زعيم مافيات التهريب والقتل والاغتصاب في الجزء الأول (الذي أراه ممثلاً عالي الإبداع). ينتصر، إذن، زعيم المافيا، فايز قزق ويعود زعيماً لعصابة الفساد وتهريب الأسلحة والكبتاغون.
في الحقيقة عند هذه النهاية ثمة أكثر من شعور بالإحباط أحاطني؛ إذ شعرت بأمل غامر في تطور الدراما السورية خلال سنة بعد إنتاج الجزء الأول وأنها لا بد ستلفت لتناول مواضيع أخرى أكثر إلحاحاً.
لقد كان الجزء الثاني استنساخاً للجزء الأول مع تبديل القليل من التفاصيل التي لا قيمة لها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: أين الأخلاق والعدل وحقوق الإنسان؟
ليس في هذا المسلسل فقط؛ بل في مسلسلات أخرى كثيرة (الولادة من الخاصرة، الهيبة… إلخ).
نعم… لقد باتت الأخلاق أشبه بسحابه دخان سرعان ما تتبخر، تاركةً الفساد يسرح ويمرح كما يقال.
ترى؛ إلى أين تتجه الدراما السورية ؟ خاصة أن معظم المسلسلات ينتصر فيها الفاسدون… ولا ما نع من تمرير لقطة هزلية بأن القيادة غير راضية عن الضابط الفلاني فتقتله.
ليس هناك مجرد شبه بين المسلسل والواقع، بل هو الواقع طبق الأصل.
والرسالة التي يوجهها سواء الجزء الأول أو الثاني من المسلسل:
انتبهوا أيها الرعايا السوريين لن يتغير شيء… أجل لن يتغير شيئ!