نحاول فهم طبيعة أسباب تصدّع العلاقات بين السوريين والنظام التركي عبر محاولات إعطاء مقاربات موضوعية لتساؤل البحث الرئيسي:
هل ترتبط الأسباب بطبيعة العلاقة التناقضية بين مسارات التسويات السياسية الأمريكية والتركية ؟
1-في طبيعة التسوية السياسية الأمريكية:
تسير التسوية السياسية الأمريكية بخطى متسارعة منذ نهاية 2019، وقد قادت واشنطن جهود تحقيق أهدافها بالتنسيق مع الاوربيين ( ومع أذرع سلطة قسد في الإدارة الذاتية ومسد، التي نسّقت مع ” حكومات أوروبية، ونخب “ديمقراطية” سورية!)سعيا إلى تمكين السلطة الميليشياوية وأذرعها بمقوّمات ” كيان سياسي” مستقل؛ وكان من الطبيعي في ضرورات نجاح جهود شرعنة وجود قسد سوريّا أن تربطه إجراءات تأهيلها جدليا بخطوات وإجراءات إعادة تأهيل سلطة النظام السوري الشرعية ، وهو ما يفسّر حرص واشنطن على تساوق وتزامن المسارين ، وربطها تقدّم خطوات إعادة تأهيل سلطة النظام بما يتحقق من خطوات على مسار تأهيل قسد ، وقد عبّرت عن هذا النهج مبادرة” اللاورقة ” الأردنية ، وأوراق الضغط الأمريكية والشريكة !
علاوة على ذلك، إذ تتعارض إجراءات وأهداف تأهيل سلطة قسد مع مصالح تركيا ، تستبعد التسوية السياسية الأمريكية جهود تركيا،وتتجاهل مصالح ورغبة روسيا في تفعيل مسار تسوية وفقا لمخرجات اللجنة الدستورية ، وينتج عن تعارضها مع مصالح ” إسرائيل “،( بواقع اعترافها في صيروة إعادة تأهيل سلطتي قسد والنظام بمواقع النفوذ والسيطرة الإيرانية)،غياب التنسيق وتوافق المصالح مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي؛ وهي بمجملها تفسّر الطبيعة الجزئية للتسوية ..
2-في طبيعة التسوية السياسية التركية .
بداية، من المفيد التذكير بطبيعة أهداف سياسات النظام التركي تجاه عواقب الصراع على سوريا منذ ربيع 2011. في السياق، تغيّرت أولويات سياسات النظام التركي، وفقا لتغيّر ظروف الصراع في تمرحل الخَيار العسكري:
في أعقاب تفشيل جهود الحل السياسي، وتصاعد وتائر الصراع العسكري ، وتحوّله إلى حرب اقليمية، ميليشاوية بالوكالة على السلطة ، تمثّلت أولويات سياسات النظام التركي في جهود ” احتواء ” عواقب الصراع على مصالح تركيا الحيوية في سوريا والحفاظ عليها في حال حصول تسوية سياسية، من خلال امتلاك بعض أوراق القوّة السياسية ، وقد تطوّرت أهداف تركيا تباعا بعد 2015، حين أخذت الحرب الأمريكية الروسية مسارات إعادة تقاسم الحصص ومناطق النفوذ، الى محاولة “تحجيم “كانتون قسد إلى الحدود الدنيا ، ومنع وصوله إلى كامل التخوم السورية التركية ، والاستحواذ على ” أوراق قوّة ” عسكرية ، تساعدها على فرض شروطها في سياق تسوية سياسية قادمة، نضجت شروطها الموضوعية في نهاية 2019 ؛ وقد باتت مصالح النظام التركي ترتبط بقيام تسوية سياسية، تضمن توافقات القوى الرئيسية حلول عملية ودائمة لقضية ملايين المهجّرين، ومعضلة ” كانتون قسد “، ولم تكن ما صنعته من أوراق داخل المعارضات السورية أو عبر الاحتلال المباشر، بما فيها مساندتها لكانتون ” جبهة النصرة ” لتخرج عن سقف أهدافها ، وقد سعت لجعل ميلشياتها ” سدا” في مواجهة تمدد أذرع الكانتون القسدي غربا ، باتجاه مناطق سيطرة الحكومة، ووصولا إلى البحر المتوسط!
3- في طبيعة المأزق السياسي التركي.
مع وصول المعارك الكبرى في الحرب إلى طريق مسدود في نهاية 2019،عوّلت الحكومة التركية ، كما حكومات روسيا والسعودية والنظام ، على مجريات تسوية جنيف، ومخرجات اللجنة الدستورية، لكنّ إصرار الولايات المتّحدة على تأهيل قسد بشكل منفرد، وعلى مسار تسوية جزئية ، تربط تقدّم خطوات تأهيل سلطة النظام بما تقدّمه من تسهيلات لتأهيل قسد ، يُبيّن طبيعة العامل الأمريكي الرئيسي في وصول جهود اللجنة الدستورية ومسار حلّها الشامل إلى طريق مسدود ، ويفسّر أبرز عوامل المأزق السياسي التركي.
في ضوء وصول إجراءات التسوية الأمريكية الجزئية ، في تكامل مساراتها الداخلية والاقليمية، اليوم إلى مراحل اللاعودة، وقد حوّلت كانتون قسد الميليشياوي الى ” إقليم شمال وشرق سوريا الديمقراطي” وأوصلت سلطة النظام إلى عتبة ” الأمان الاستراتيجي “، تتبيّن طبيعة المأزق السياسي التركي، الذي نتج عن فشل جميع جهود النظام ، السياسية والعسكرية ،لدفع واشنطن على مسار التسوية الشاملة في مخرجات اللجنة الدستورية، تأخذ بعين الاعتبار مصالح تركيا في إزالة عواقب الخَيار العسكري الطائفي على الأمن القومي التركي ، خاصة ما نتج عن مرحلته الثانية بين 2015- 2019، وتُعيد العلاقات السورية التركية إلى أقرب ما كانت عليه قبل 2011 !
4- في طبيعة العقبات التي تواجه التسوية السياسية التركية.
من نافل القول أنّ جهود تركيا تواجه عقبات عديدة جدا ، يأتي في مقدمتها ما يترتّب على خشية واشنطن وقسد من ان تأتي صفقة التسوية التركية السورية على حساب ” الكانتون” ،وبالتالي هدف الولايات المتّحدة الاستراتيجي ،إضافة إلى مخاوف سلطة النظام من مخاطر تجاوز مسار التسوية الأمريكية، التي اتاحت لها فرصة واقعية لإعادة التأهيل منذ مطلع 2020، علاوة على خشية قيادات الفصائل الميليشياوية أن تأخذ التسوية في سياق إجراءات تحقيقها كلّ ما حصلوا عليه من امتيازات سلطة الأمر الواقع ؛ وقد أشار الرئيس التركي إلى هذه العقبة !
يبدو لي أنّ إدراك سلطة النظام في ظل تواصل مسارات التسوية السياسية الأمريكية لطبيعة تعقيدات استمرار السيطرة التركية، وواقع أنّ عودة مناطق السيطرة التركية إلى سلطتها الشرعية هي مسألة وقت، قد أعطي سلطة النظام السوري فرصة للمماطلة واختيار توقيتها الأفضل في الوصول إلى تسوية .
الموقف الروسي من جهته، ملتبس …ولم يعد لروسيا بالأساس اية أوراق قوّة للتأثير الإيجابي على مجريات التسوية منذ 2020!
في مقابل توافق مصالح النظام الإيراني مع صيرورة التسوية السياسية الأمريكية الجزئية التي تشرعن وجوده ، تعزز التسوية التركية شرعية النظام السوري، وتخلق المزيد من التعقيدات في العلاقات السورية الإيرانية، الغير متوازنة إطلاقا ، ولا تتعارض مع جهود إسرائيل لتقويض وتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا؛ وهي العوامل التي تبيّن طبيعة العقبة الإيرانية .
على أيّة حال، ولكي لا نغرق في التفاصيل كما هو حال الذين يتناولون مستجدّات الأحداث، من الموضوعية التأكيد على دور العامل الأمريكي الحاسم في تحديد مآلات الجهود التركية الراهنة !
فهل يستطيع النظامين السوري والتركي الوصول إلى صفقة تسوية ، تضمن مصالح الطرفين ، لا تتعارض مع هدف الولايات المتحدة الاستراتيجي تجاه عواقب الصراع المستمر على سوريا منذ 2011؟
هل تستطيع حكومتي النظام وتركيا تقديم بديلا مناسبا لدور قسد، يلبّي شروط السيطرة الجيوسياسية للولايات المتّحدة؟
هذه التساؤلات، تدفعنا للبحث عن أهداف الولايات المتّحدة الاستراتيجية الحقيقية من قيام كانتون قسد؟
أعتقد أنّه لفهم حقيقة أهداف سياسات واشنطن في سعيها لتجيير الصراع منذ ربيع 2011 ، ينبغي أوّلا تجاهل ما روّجته الدعايات الأمريكية، واصبح من مسلمات الرأي العام ،(أصدقاء الشعب السوري- المجموعة الدولية لدعم سوريا – مسار جنيف للحل السياسي- التحالف الدولي لمحاربة داعش- تحسين سلوك النظام .. )، والإنطلاق من حقائق الواقع الراهنة التي تبيّن طبيعة أهداف و جهود واشنطن بعد تدخّل جيشها المباشر خلال 2014 :
أ-نجحت واشنطن بين صيف 2014 2019 في السيطرة المباشرة على ما يقارب 25% من مساحة سوريا، بأذرعها السورية، التي قادت ميلشياتها باسم ” قوّات سوريا الديمقراطية ” – وديعة النظام السوري في حزب ” PYD“!
ب- نجحت واشنطن بين نهاية 2019 اليوم في تحويل كانتون سلطة أمر واقع ميليشاوية إلى “إقليم شمال وشرق سوريا الديمقراطي”، وما حصل ، و يحصل عليه من “شرعية” سورية وإقليمية ودولية !
ت- ترفض واشنطن التخلّي عن مسار التسوية الجزئية التي توفّر عوامل الأمان الاستراتيجية للكانتون ، رغم تعارض نتائجها وأهدافها من أقرب شركاء الولايات المتّحدة الإقليميين- النظام التركي ودولة الاحتلال الإسرائيلي!!
بناء على تلك الوقائع العنيدة ، نستطيع الاستنتاج أنّ الهدف الرئيسي الاستراتيجي للولايات المتّحدة في مواجهة عواقب الصراع على سوريا منذ ربيع 2011 هو اقتطاع وتأسيس قاعدة ارتكاز عسكرية ولوجستية، تمكّنها من التحكّم بسلطات ومصائر أبرز دول المنطقة- تركيا وسوريا والعراق و”إسرائيل”. توضّح هذه الرؤية موضوعية تقاطع سياسات الولايات المتّحدة مع أهداف ونتائج وأدوات المرحلة الأولى من الخَيار العسكري ، التي وفّرت نتائجها الشروط الأفضل لتبرير تدخّلا عسكريا مباشر ا خلال صيف 2-14، أعطى واشنطن فرصة تاريخية لتحقيق هدفها المركزي.
هي عوامل السياق التي تكشف طبيعة العامل الأمريكي المتحكّم في مسارات الخَيار العسكري منذ 2011، وفي صيرورة التسوية السياسية بعد 2020، وطبيعة التحدّيات التي واجهت الشعبين السوري والتركي، وهددت المصالح العليا للدولتين السورية والتركية، وتواجه اليوم جهود الوصول إلى تسوية حول قضايا الخلاف الرئيسية في العلاقات بين النظامين السوري والتركي !