الحصار الأخلاقي: عن عسكرة التفوق اليهودي في إسرائيل

عساف شارون

ترجمة: محمود الصباغ

تحدث جون كيري في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على غزة [2014] قائلاً: “هناك منظمة إرهابية تحاصر إسرائيل”.

وباعتباري كنت أعيش في إسرائيل آنذاك، فقد وجدت ملاحظة وزير الخارجية [الأمريكي] محيراً بعض الشيء. فعلى سبيل المثال، أُطلقت صفارات الإنذار ثلاث مرات فقط في القدس، مدينتي حيث أعيش. غير أن الوضع ساء قليلاً في تل أبيب والمناطق المجاورة لها، فقد دوّت صفارات الإنذار هناك لأكثر من ثلاثين مرة، أو نحو ذلك خلال الشهر الماضي. ومع ذلك، لم تتأثر وتيرة الحياة اليومية كثيراً. أما في الجنوب، قرب قطاع غزة، فالأمر مختلف بسبب سقوط العديد من الصواريخ يومياً، حتى أن الحياة، في بعض البلدات والقرى الإسرائيلية، صارت أشبه بلحظات قصيرة بين الهرولة من ملجأ لآخر، وهذا بالتأكيد وضع غير مقبول، غير أنه لا يمكن تسميته “حصار”.

 فالحصار النموذجي الأصلي، في التاريخ اليهودي، هو الحصار الروماني للقدس، الذي وصفه يوسيفوس [فلافيوس]، من القرن الأول الميلادي، على النحو التالي: “كان الناس يموتون جوعاً بأعداد كبيرة في كل مكان من المدينة، كانت معاناتهم لا توصف، وكان مجرد الإشارة إلى وجود طعام، في أي منزل، يشعل شرارة عنف، ويبدأ الأهل في العراك لعلّهم ينتزعون من بعضهم البعض ما يسد رمقهم”. وفي التاريخ الصهيوني، يأتي العام 1948 كنموذج للحصار، عندما عانت القدس مرة أخرى من الجوع ونقص الإمدادات الأوليّة، وإليكم كيف وصفتها إحدى الأمهات في رسالة إلى ابنها الذي كان يقاتل في الشمال: ” لن يصبر من ليس لديه طعام، فهو سيجوع، ويبقى جائعاً… هكذا ببساطة، لا يوجد غاز للطهي، ويضطر الناس لجمع الحطب ويطبخون في الشوارع، وبخلاف الخبز (وهذا أيضاً مقيّد بحصة لا تتعدى 200 غرام فقط للشخص الواحد يومياً)، لا يوجد ما يمكن شراؤه.. يتم توصيل الماء في عربات  بمعدل صفيحة ونصف للفرد الواحد أسبوعياً (سعة الصفيحة 18 لتر) وهي كمية قليلة جداً لا تكاد تكفي، ونظراً لعدم وجود وقود للسيارات، فيجب جلب الماء من الآبار (من مسافات بعيدة)”.. يبدو اليوم هذا الوصف ملائم أكثر لغزة منه لإسرائيل.

ولكن هناك حصار آخر يطارد إسرائيل اليوم. حصار داخلي وليس خارجي، حصارٌ أخلاقي أكثر منه حصار مادي.

تصدّرت عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم خبر مقتل محمد أبو خضير، البالغ من العمر ستة عشر عاماً، والذي أحرقه متطرفون يهود حياً في الثاني من تموز 2014 . لكن السياق الذي تم فيه استنسال هذه الجريمة لم يحظَ بما يكفي من الاهتمام. فقبل يوم واحد من الجريمة، وبينما كان يتم دفن الشبان الإسرائيليين الثلاثة الذين اختطفوا وقتلوا قبل ثلاثة أسابيع، تجمع المئات من المتطرفين في القدس تحت شعار “نريد الانتقام!” وأظهرت شعاراتهم العديد من العبارات مثل: “الموت للعرب” و “الموت لليساريين”.

ومع تقدم الحشود والغوغاء نحو وسط المدينة، قاموا بتحطيم واجهات المتاجر والمحال مطالبين بقتل العرب وإراقة دمهم. كما تجمهرت مجموعة كبيرة خارج مطعم ماكدونالدز يصرخون مطالبين بطرد العمال العرب من المطعم. وجابت مجموعات أصغر الشوارع بحثاً عن العرب لإهانتهم وضربهم. وسرعان ما اجتاحت شوارع المدينة موجة عنف عنصري. وخرجت حشود منظمة من المتطرفين في مسيرة في شوارع القدس مرددين هتافات عنصرية تدعو “الموت للعرب!”، مسيرات وهتافات تشبه ما نراه في بعض مشاهد الأفلام الثورية، وقام هؤلاء، المتظاهرون، بإجبار السيارات والحافلات على التوقف في الشوارع، للتحقق ممّا إذا كان ثمة عرب من ضمن ركابها، وإذا ما تصادف العثور على أحدهم، فقد كان يتعرض للاعتداء الجسدي واللفظي. وهو ما دفع العديد من الفلسطينيين الامتناع عن استخدام القطار الداخلي، لأنه بات مكانًا مثالياً للهجمات العنصرية.

لا تعدّ القدس، للأسف، حالة فريدة في هذا المجال، فقد تعرضت مظاهرة مناهضة للحرب في تل أبيب لهجوم من قبل مئات من مثيري الشغب اليمينيين بقيادة مغني الراب المعروف بلقب  “الظل” the shadow. وكان بعضهم يرتدي قمصاناً  كُتب عليها “Good Night Left Side”  التي كانت تحظى بشعبية بين الجماعات المتعصبة للبيض والنازيين الجدد في أوروبا*. وتكرر هذا المشهد العنيف، بعد أسبوع، في حيفا، حيث اعتدى مثيري الشغب اليمينيون على نائب رئيس بلدية عربي وابنه أثناء اقترابهما من مظاهرة مناهضة للحرب. أمّا في البلدة القديمة في القدس، فقد تمكنت سيدة من النجاة مع أطفالها الصغار من محاولة طعن من قبل متطرفين يهود. غير أن المقدسيان أمير شويكي وأحمد كسواني اللذان يبلغان العشرين من عمرهما  كانا أقل حظاً، حيث تعرضّا للضرب المبرح على يد حشد من اليهود لمجرد أنهما من العرب. كما نُقل عمر الديواني، الذي يعمل سائق حافلة في القدس، إلى المستشفى بعد أن اعتدى عليه أربعة شبان عند اكتشافهم لهجته العربية. وشهدت، مؤخراً، عشرات الاعتداءات المماثلة ضد العرب و “اليساريين” في الشوارع والمقاهي ومراكز التسوق والحافلات والقطارات، وإن دل هذا على شيء، فإنما يدلُّ على ارتفاع نسبة اليمين المتطرف في إسرائيل.

ولا يعدُّ التطرف اليهودي ظاهرة جديدة، إذ يعود شكله الحالي إلى الحاخام مئير كاهانا، الذي هاجر إلى إسرائيل بعد تشكيل “رابطة الدفاع اليهودية” المتشددة في الولايات المتحدة، وأسس حزب كاخ القومي المتطرف. وكان كاهانا قد دعا إلى الإخلاء القسري لجميع الفلسطينيين المقيمين غرب نهر الأردن، وإخضاع قوانين الدولة إلى الشريعة الدينية اليهودية (هالاخاه)، وفرض أسلوب الانتقام باعتباره سياسة عقابية مشروعة. ورغم تبنيه مواقف اقتصادية ليبراليّة صريحة، إلا أنه كان شخصاً جمعانياً  collectivist **  تماماً لجهة منظومته الأخلاقيّة، فكان يرى بأن الممثلين أو الفاعلين الأخلاقيين ليسوا أفراداً بل أمماً. وأي أذىً يلحق باليهودي فكأنه أذى لحق بالأمة جمعاء، وبالتالي، ليس بالضرورة أن يكون الانتقام من الجاني نفسه بل من “العرب”، من أي عربي.

ومازلتُ أتذكر بوضوح زملائي الذين كانوا تحت تأثيره وكيف كانوا يفكرون في الانتقام العشوائي من أي فلسطيني، لا على التعيين، بعد كل هجمة تطال إسرائيليين. وسرعان ما كان الانتقام يتحول إلى منهج وقائي ومن ثم إلى عدوان صريح وسافر. وكان كاهانا قد اقترح، أثناء عضويته القصيرة في الكنيست، تشريعات مشينة، مثل إلغاء جنسية جميع من هم من غير اليهود، أو تجريم العلاقات الجنسية بين اليهود والعرب. لقد كان جوهر إيديولوجيته يتمثّل في الشكل المتشدد من التفوق اليهودي، والذي تم التعبير عنه بشكل أفضل في الشعار الذي يُسمع كثيراً هذه الأيام: “اليهودي روح، والعربي ابن زانية”.

غير أن ما هو أكثر أهمية من الرسالة بالنسبة لكاهانا كان الوسط الذي ينبغي أن تنتقل فيه الرسالة، من خلال دمج الخطاب الشعبوي باستبداد الرجل القوي، أي النزعة السلطوية القوية. واستطاع استقطاب جميع العناصر  الدينية المتعصبة والمحرومة في إسرائيل، واستطاع اللعب على وتر استيائهم وإثارة غضبهم ضد “النخب”، الذين صورهم على أنهم يمثلون، وبآن معاً، جميع السلطة، ويتحكمون في وسائل الإعلام، ونظام التعليم، والمحاكم. كما اعتبرهم مجموعة من الضعفاء المنحطين من ذوي الأخلاق المتدهورة ويمتازون بالجبن والتهاون في التعامل مع العدو العربي، مما يعني، بالنسبة له، فقدانهم  لأساسهم اليهودي وانحلالهم من جوهر اليهودية.

ومع  كل هذا، بدا في بعض الأحيان أن عداءه تجاه العرب يأتي في المرتبة الثانية بالنظر إلى كراهيته لكل ما هو يساري، الذي يمثل من وجهة نظره، “الطابور الخامس” من “مدمري إسرائيل”، كما وصفهم في الكتاب المقدس، وفي الحقيقة لم يسخر كاهانا من أولئك اليساريين فحسب، بل كان يضمر لهم تهديداً صريحاً  يعبر عنه بعبارات لا تخلو من نفس ديني انتقامي مستخدماً أوصافاً توراتية محملة بالتحقير ولغة التهديد.

ركّز كاهانا في انتقاده تولي “العرب” وظائف يهودية وقيامهم بإغراء الفتيات اليهودية، في لفتة مأخوذة مباشرة من كتاب قواعد اللعبة الفاشية الكلاسيكية، علماً بأن كاهانا، نفسه، لم يكن فاشياً.

فالفاشية، من ناحية، لها فلسفة. وتمتلك نظرية سياسيّة عن السلطة والمؤسسات السياسية والدولة والمجتمع، ومن ناحية أخرى، يمكن النظر إلى النزعة الشوفينية القومية*** Jingoism  على أنها مزاج في المقام الأول أكثر منها نظرية. إنها شعور بالتفوق الجماعي، غالباً ما يرتبط بفكرة “الاختيار الإلهي للأمة”، وينتج عنه أشكال متشنجة وعدوانية مفرطة من القومية. إنها المعادل القومي للشوفينية الذكورية وليست نظرية حول الجندر، بل موقف مهين ونزعة احتقارية تجاه كل ما هو “آخر أنثوي”.

 كان للتجسيدات السابقة لليمين اليهودي الراديكالي، مثل المراجعين الراديكاليين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، عناصر فاشية واضحة. فظهور منظمة “ברית הבריונים” [بريت هابريونيم] (تحالف الشبيحة)****، الفصيل المتطرف بقيادة الشاعر الرومانسي يوري تسفي غرينبرغ وآبّا أحيماعير، على سبيل المثال، إنما قام على غرار الفاشية الأوروبية. كان أحيمير شديد الإعجاب بموسوليني ونشر سلسلة من المقالات بعنوان “من يوميات فاشي”.

ويعتبر اليمين الراديكالي[ في إسرائيل] اليوم يميناً كاهانياً [نسبة إلى كاهانا] وليس مراجعياً، تغذيه روح الشوفينية اليهودية ذات الدلالات الدينية. ويبدو لي أن هذا الاختلاف له عواقب كبيرة. إذ ليس صعباً هزيمة الفاشية على صعيد الأفكار أو في صناديق الاقتراع. غير أن الفاشية تتكاثر أكثر في قلوب الناس العاديين، وليس في عقولهم؛ وموطنها هو الشارع وليس النظريات والقوانين.  وما يمكنه أن يقف في طريقها  يتمثّل في روحٍ تتجلى فيها القواعد والمعايير، وهذا يتطلب ثقافة قوية تدعمها النخب الاجتماعية والمؤسسات والأفراد ذوي النفوذ الذين  يعملون بهمّة عالية على مقومة الفاشية ومحالة إبقائها هامشية قدر الإمكان.

ولعل هذا النوع من المقاومة هو الذي ترك شخص مثل كاهانا يعيش على هامش الحياة السياسية والمشهد العام، فقد تعرض بشكل نشط ومستمر لمحاولات سعت إلى معارضته وتهميشه من قبل مؤسسات رسمية وغير رسمية وأفراد. وعندما كان يعتلي منبر الكنيست، كان يغادر الجلسة أعضاء من جميع الأحزاب، من اليسار واليمين، منوع من الاحتجاج الجماعي. لقد تم تقييد حصانته البرلمانية من قبل الكنيست والنائب العام. كما قررت هيئة الإذاعة الإسرائيلية فرض رقابة على تصريحاته. وعندما كان يتحدث في تجمع حاشد في غفعتايم، التف حوله عشرات الإسرائيليين وحاولوا التشويش عليه من خلال قرع مضارب كانت في أيديهم. حتى أن قادة الحركة الاستيطانية عبروا عن ازدرائهم للحاخام الأمريكي وأفكاره، خوفاً من أن ينالهم شيء من محاربته وتهميشه.

وآخر الخطوات كانت، في العام 1988، عندما قام الكنيست بحظر  حركة  كاخ، واعتبارها حركة “عنصرية” و “معادية للديمقراطية”. وأيدت محكمة العدل العليا الإسرائيلية القرار. وبعد ذلك بست سنوات، تم إعلان الحركة وفصائلها “منظمات إرهابية” غير شرعية.

بعد عقدين من الزمان، أصبح تلميذ كهانا وتابعه، مخائيل بن آري، عضواً في الكنيست (2009-2013). وعلى الرغم من أنه روّج علانية للآراء الكهانية، ودافع عن الطرد القسري للعرب والتحريض على الكراهية تجاه اللاجئين الأفارقة، غير أنه لم يخضع  للرقابة قط. وقام بن آري، مثل كاهانا بالضبط، بتنظيم مسيرات في البلدات العربية لتأجيج الصراع [بين العرب واليهود]. لكنه، على عكس معلمه، لم يواجه أي مقاومة في الكنيست أو في الشارع، بل هو من قاد جهوداً مضنية بهدف تقييد عضو الكنيست العربي حنين الزعبي لمشاركتها في قافلة بحرية احتجاجاً على حصار غزة. وقد نجح في مسعاه بسبب نيله تأييد أعضاء من حزب الليكود اليميني وحزب  الوسط كاديما. وفي تناقض صارخ من مشهد مغادرة النواب قاعة الكنيست أثناء الاستماع لكاهانا، يتعرض النواب العرب، في الكنيست الحالي، للإساءة بشكل منتظم. حتى أن أحدهم تعرض للاعتداء الجسدي، ورغم أن بن آري لم يعد عضواً في الكنيست، لكن نفوذه لم يتضاءل.

انفجرت الشوفينية المتقيحة التي غرسها بن آري وأمثاله مع عمليات الخطف والقتل في الشهر الماضي والهجوم على غزة الذي أعقب ذلك. غمرت الروح الوطنية المتضخمة البلاد، التي عمّ فيها السخط القابل للتبرير أخلاقياً والذي تفاقم بسبب الشحن العاطفي في وسائل الإعلام، وتسخيف وسحق أي نقاش نقدي، ناهيك عن المعارضة. وتعرض النقاد والمشاهير القلائل، الذين عبروا عن انتقادات، أو حتى مجرد تعاطف مع سكان غزة، لهجوم شرس، ليس فقط من رواد وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن أيضاً من قبل كبار المسؤولين. ودعا أحد الوزراء إلى مقاطعة الشركات العربية التي احتج أصحابها على العملية العسكرية، وشجع وزير آخر الناس على إلغاء اشتراكاتهم في إحدى الصحف التي تنشر آراء مخالفة تبرر الحرب. وبدأت المبادرات العفوية المخصصة لرصد واضطهاد الأفراد الذين يبتعدون عن “الروح الوطنية” بالظهور. كما تلقى أرباب العمل عشرات الشكاوى، لتشجيعهم على طرد الموظفين الذين أعربوا عن دعمهم أو تعاطفهم مع سكان غزة.

حتى المؤسسات البارزة أجبرن على الرضوخ لهذه المكارثية المخصخصة. فجرى فصل أو إيقاف عدد قليل من موظفي المجالس البلدية وطبيب واحد على الأقل بسبب تعليقات نشروها على وسائل التواصل الاجتماعي. وحذر رؤساء الجامعات من المعاملة القاسية التي سوف ينالها أصحاب “التعليقات المسيئة” عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ كما تم تأديب بعض الطلاب. وأبلغت جامعة بن غوريون موظفيها وطلابها أنها ستراقب نشاطهم على الإنترنت، وتم توبيخ أستاذ القانون، في جامعة بار إيلان، بشدة من قبل عميده بسبب تعبيره عن تعاطفه مع ضحايا غزة، في رسالة بريد إلكتروني للطلاب.

لست على علم بحالة واحدة تلقى فيها الأفراد الذين دافعوا عن شعار الموت للعرب معاملة مماثلة. لا يزال رجال الدين والمربّون الذين طالبوا بمقاطعة الأعمال التجارية العربية، أو رفض تأجير الشقق للعرب، يعملون في الدولة.

لقد تغير الكثير خلال ربع القرن الماضي. والفهم السائد الآن أن إسرائيل انزلقت إلى اليمين. ولكن، كما تظهر الآراء العامة وتحليلات اتجاهات التصويت بوضوح، فإن هذا ليس دقيق تماماً. على الرغم من نمو اليمين، إلا أن صعوده كان ضئيلاً نسبياً. يظل الإسرائيليون منقسمين بالتساوي حول السلام والأمن، ويتمتع اليسار بأغلبية واضحة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية. التحول الأعمق ليس في مستوى الدعم الشعبي للمعسكرين السياسيين، ولكن في تكوينهما الداخلي.

تعلب في الوسط اليميني، الشعبويون الشوفينيون على العناصر الليبرالية والديمقراطية. حزب رئيس الوزراء نتنياهو، الليكود، الذي اعتاد أعضاؤه الانسحاب من خطابات كاهانا، بات عامر يعج اليوم بمن هم  أكثر المحرضين صخباً. لقد تمت الإطاحة بآخر بقايا الديمقراطيين في الانتخابات التمهيدية الأخيرة، أمّا بقية المعتدلين، فهم على استعداد للقبول بالمتطرفين المشاكسين الذين يسيطرون على الحزب. والتزم رئيس الوزراء نفسه الصمت المطلق في وجه تزايد العنصرية والعنف السياسي.

أما اليسار فقد خسر قوته وحيويته السياسية وشجاعته الأخلاقية. لقد أدى استنفاذ الأفكار، وإضعاف المؤسسات، وتعفن القيادة إلى تركها جامدة سياسياً. لقد تفككت الآليات الاجتماعية التي أبقت عنصرية كاهانا في مأزق.

عندما وصف الفيلسوف والمفكر يشعياهو ليبوفيتش كاهانا وأتباعه بـ “النازيين اليهود”، لم يوافق الجميع على ذلك، لكن الجميع استمعوا. والأهم من ذلك، فهم الكثيرون التهديد الذي حدده وكانوا على استعداد لمكافحته.

إن كسر الحصار الأخلاقي يتطلب معارضة نشطة وحازمة لمذهب الشوفينية اليهودية، وعدم تجاهلها.. وبالتأكيد عدم التكيف معها.

….

المصدر: https://bostonreview.net/world/assaf-sharon-israel-idf-gaza-radicalism-moral-siege-kahane

العنوان الأصلي The Moral Siege:  On the militarization of Jewish supremacism in Israel

…..

هوامش المترجم

* ينظر إلى التعبير “Good Night Left Side”  كرمز للكراهية، ويعتقد أن أصوله غير سياسيّة وظهرت للمرة الأولى بين مجموعة حليقي الرؤوس اليمينية، كجزء من ثقافة خاصة وفرعية شديدة الصلة بالإيديولوجيات الفاشية، وبدأت هذه المجموعة، منذ منتصف السبعينيات تميل نحو التطرف وتنتشر في أوروبا تحت تأثير المنظمات الفاشيّة الآخذة في النمو، وأصبح يعرف هؤلاء باسم حليقي الرؤوس النازيين أو حليقي الرؤوس البيض. وأكثر ما يميزهم، كرههم الشديد للعناصر اليساريّة، إلى الدرجة التي يعمّمون فيها صفة اليسار على جميع من يعارضهم حتى تشمل أحياناً بعض العناصر المحافظة.

**يشير تعبير  collectivist إلى الشخص الذي ينتمي إلى فئة أو جماعة أو فكر يدعو إلى سيطرة الدولة أو “الشعب” ككل على جميع وسال الإنتاج ( المورد الحديث، طبعة 2013)

*** المعنى الدقيق لمصطلح Jingoism الإيمان المفرط بتفوق الأمة مقروناً باستعداد دائم لاستخدام القوة والعنف ضد الأمم أو الشعوب الأخرى. وإذن لا يعبر هذا الإيمان عن نزعة وطنية بالمعنى الإيجابي (حب الوطن والدفاع عنه)، بل تحوّل هذا الحب إلى عبادة الذات القومية، وتعتبر أي نقد أو اختلاف خيانة. اشتق المصطلح من كلمات أغنية بريطانية  قديمة تعود للقرن التاسع عشر كانت تُردَّد أثناء الحرب الروسية–التركية (1877–1878) وتقول  We don’t want to fight, but by Jingo if we do…  وكانت تُستخدم لتشجيع الموقف العسكري العدواني لبريطانيا، ومن هنا أصبحت Jingoism تعني التهوّر القومي القتالي. على الصعيد المفاهيمي، يتضمن المصطلح معنى الذكورية في القومية (كما شبّهها النص) بما تحمل من إيحاءات صريحة تعبر عن مزاج احتقاري تجاه الآخر، سواء كان أجنبياً، أو معارضاً، أو أقلية داخلية.

**** بريت هابريونيم “ברית הבריונים” تعني حرفياً “حلف الزعران” أو «حلف الأشرار / الفتوات»، وهي منظمة يهودية يمينية متطرفة نشأت في العام 1923 في فلسطين الانتدابية على يد أبراهام “آبي” يلين مور وأبراهام شتيرن (الذي أسس لاحقاً منظمة “ليحي”)، وغيرهما من القوميين اليهود الراديكاليين. وتبنت الأفكار الفاشية وآمنت بأن العنف والهيمنة القومية اليهودية هما الطريق لتحقيق الدولة اليهودية. والأصل في التسمية أن كلمة “בריונים” [بريونيم] تعني الفتوّات أو الزعران، وكانت تُستخدم لوصف العصابات المسلحة أو المتمردين الذين قاوموا الحكم الروماني في القدس في القرن الأول الميلادي. دعت هذه المنظمة إلى إقامة دولة يهودية على ضفّتي نهر الأردن بالقوة. واعتبرت العرب أعداء طبيعيون يجب إخضاعهم أو طردهم. كما عارضت القيادة الصهيونية المعتدلة مثل بن غوريون والوكالة اليهودية لأنها – برأيهم – «ضعيفة» ومتساهلة مع البريطانيين والعرب. ورفعت شعارات تمجد القومية اليهودية المتطرفة وتستعير من الخطاب الفاشي الأوروبي آنذاك مفاهيم مثل “الدم” و”الأرض” و”الزعيم”. وتكمن أهميتها الرمزية اليوم  في استعادة معانيها الحرفية والمجازية في النقاشات الإسرائيلية المعاصرة لوصف صعود اليمين الفاشي والعنيف داخل المجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً التيارات التي تمجّد كهانا وتتبنى خطاباً عنصرياً ضد العرب. حين يقال اليوم إن «إسرائيل تحكمها بريت هابريونيم جديدة»، فالمعنى هو أن منطق العصابة والعنف والعنصرية حلّ محلّ الدولة والمؤسسات والقانون.

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

بين الانحياز والسقوط: المثقف على حافّة الإبادة

في زمن الإبادة، حين تصبح غزة لوحةَ أهداف دائمة في مرمى القنّاص الاستعماري، وحين تُقتلع …