من بلفور إلى ترامب: الدلائل الجوهرية

تسعى خطة ترامب*  إلى إخراج  الفلسطيني فعلياً من معادلة الوجود المادي، دون مواربة،  ما يعني تغييب سياسي مقصود قد يطول أمده، إذ أن شرط استعادة السلطة الفلسطينية كمرحلة لاحقة يرتبط  ارتباطاً وثيقا بسلسلة “إصلاحات” يحدد طبيعتها كل من إسرائيل والغرب وأطراف “السلام الإبراهيمي” بما في ذلك الشرط الأساسي، أي “تخلي” حماس والفصائل عن أي دور سياسي، وتسليم السلاح، واختيار نموذج حكم انتقالي تُشرف عليه هيئة دولية يترأسها أبو حنان نفسه (بمشاركة شخصيات مثل توني بلير، أو غيره).  مع غياب أية ضمانات واضحة لحقوق تقرير المصير أو حدود زمنية ملموسة للدولة الفلسطينية العتيدة. إلى جانب تحويل حقوق عادلة (اللاجئون، الحدود، القدس) إلى «بنود لاحقة» أو «أهداف بعيدة الأجل» مع خطر اندثارها ضمن آلية إعادة إعمار مشروطة، وربط إعادة الإعمار بشروط سياسية وأمنية تعرض على أنها جائزة مرتبطة بالالتزامات السياسية (نزع السلاح، قبول حكم انتقالي، سياسات اقتصادية) مما  يحوّل المساعدات إلى آلية ضغط لتغيير بنية المجتمع والسياسة الفلسطينية.   وتوفير البيئة المناسبة لسيطرة أمنية دولية وإقليمية  على القطاع لضبط الحدود، وإعادة تشكيل الشرطة المحلية تحت إشراف خارجي يبقي القدرة على فرض الأمن والسياسات في أيدي الضامنين وليس لدى مؤسسات فلسطينية ذات سيادة.

غير أن أهم ما يميز “خطة ترامب” يكمن في إسقاطاتها الاستعمارية الفعلية والرمزية  غبر صياغتها -عملاً ونتيجةً- بما يحقق “نصراً سياسياً” إسرائيلياً من جهة، وتحويل الفلسطينيين في غزة ، أو سواها، إلى «سكان أصليين» بلا سيادة سياسية فعلية من جهة،  وتحميل الوجود السياسي الفلسطيني طابعاً إدارياً يحول الذاكرة الجماعية إلى إحصاءات فقر واحتياجات  “محلية” يمكن تلبيتها بمساعدات محسوبة السعرات الحرارية، من جهة أخرى، وينقل هذا الوجود من موقع الفاعل إلى موقع المتلقي بذريعة أن الضرورات الآن تتطلب إنقاذ الأرواح وإحلال السلام بالدرجة الأولى.

وهذا يعني عملياً اختفاء المؤسسات الفلسطينية  الفعالة في غزة لمدة غير محدودة. وإحكام السيطرة على القرار الأمني والسياسي بيد ضامنين خارجيين وإسرائيليين، وإعادة بناء البنية الاقتصادية وربطها بشروط  سياسية   لخلق واقع جديد  يحقق مطالب إسرائيل الاستراتيجية بإخضاع الفلسطينيين إلى  تقويم اقتصادي وسياسي وثقافي تديره هيئة “انتدابية” دولية تنتهي عنده أي مطالبات سياسية، إلى جانب إعادة تشكيل السردية العالمية، بلغة تقنية جافة. وبهذا المعنى، تتحول الخطة إلى أداة لإلغاء البعد السياسي للصراع. فهي لا ترى في الفلسطينيين أصحاب حق في تقرير المصير، ولا تعترف بكونهم شعب يخوض معركة تحرر وطني، بل تختزلهم إلى مجرد مجتمع محلي يحتاج إلى الغذاء والوظائف، وكأنهم مجموعة من “المستفيدين” في مشروع إغاثي ضخم، تقوده أميركا وتحتكر إسرائيل شروطه.

تستخدم الخطة لغة إدارية وتقنية تضمن لإسرائيل حق نقضها ساعة تشاء كما فعلت مراراً من قبل، وهو ما يجعل النصّ برمته مجرد غطاء قانوني وسياسي لاستمرار الاحتلال بأدوات مختلفة، والمراوحة في  أفق تفاوضي طويل ومفتوح  يكاد لا ينتهي، وشراء الوقت الضامن لابتلاع أراضي الضفة الغربية (وغزة أيضاً).

إن إسرائيل واضحة في رفضها القاطع لقيام دولة فلسطينية، وخطة ترامب لم تغيّر شيئاً من هذا الوضوح، بل منحت نتنياهو أداة جديدة لتثبيت ما هو قائم. فالمشهد الحالي الذي نراه في عقابيل خطة ترامب ليس سوى نسخة محدثة من “ريفييرا غزة”، أي تحويل القطاع إلى كيان معزول تديره قوى خارجية (غير فلسطينية بكل تأكيد)، أشبه بمحمية مغلقة يعيش فيها الفلسطينيون بضفتهم هنود حمر (مع الاعتراض على هذا التعبير!) تحت وصاية دولية،  أو إقليمية، بلا سيادة سياسية، وبلا أفق لإنهاء الاحتلال.  وقد أوضح ترامب مراراً أن على حماس قبول خطته بهذه الصيغة، ماذا وإلا سيتم إطلاق يد بيبي ميليكوفسكي أكثر مما هي مطلقة أصلاً، وبمباركة أمريكية تتيح له إكمال “المهمة” كما يراها.

هنا يصبح القبول خسارة، والرفض عبئاً، كأنما هه الخطة وضعت لتضع الفلسطينيين أمام معادلة مغلقة (مثل قطة شرودنغر).

لكن الأخطر في الأمر أن الخطة تنقل المسؤولية عن نتائجها من يد الاحتلال إلى الأطراف العربية المحيطة.  هنا يكتمل الفخ، فقبول الخطة يعني الانتحار البطيء، ورفضها يعني دفع كلفة القمع والقتل، فإذا قبل الفلسطينيون، أو إذا صمدت المقاومة ورفضت، فالنتيجة واحدة ترك الفلسطينيين في مواجهة مفتوحة، بلا سند ولا حماية ضمن مساحة قاتلة وفراغ سياسي، بالأحرى تيه مقصود، وحيّز يجمع بين مطرقة الاحتلال وسندان التواطؤ العربي من جهة وبين ما تقتضيه خطة ترامب من وصاية وتفكيك . إنها المساحة التي تُعاد فيها صياغة الإبادة بأدوات “دبلوماسية” أنيقة.

منذ الثورة الفلسطينية الكبرى (1936)، يتكرر النمط ذاته: شعب ينهض، يبتكر أدوات مقاومة، يربك الاستعمار، ثم تأتي لحظة يُستدعى فيها النظام الرسمي العربي ليقوم بوظيفته التاريخية: امتصاص الغضب الشعبي وإعادة إدماج الفلسطيني في مسار تفاوضي بلا أفق. يومها، وبعد أشهر من الإضراب والاشتباك الذي أنهك الإدارة البريطانية، لم تنجح لندن في فرض الهدوء إلا عبر وساطة الأنظمة العربية التي أصدرت بياناً مشتركاً بالتنسيق مع المندوب السامي. بيان لم يكن بريئاً؛ بل قدم نفسه بلغة الخرص على ـ”المصلحة الفلسطينية”، لكنه عملياً كسر زخم الثورة، وأعاد زمام المبادرة إلى يد المستعمِر. ومن رحم ذلك الانكسار، انفتح الطريق أمام سياسات التقسيم والهجرة المنظمة، وصولاً إلى نكبة العام 1948.

بهذا المعنى، الخطة ليست محاولة لإنهاء الحرب أو فتح باب للسلام، بل مسار بديل يتيح لإسرائيل أن تستكمل ما بدأته، بغطاء دولي، وبأقل تكلفة سياسية. وما يُسمّى «مجلس السلام» ليس سوى هيئة وصاية لإدامة السيطرة ودفن القضية الفلسطينية تحت ركام المساعدات. لذلك، كل ما تحمله هذه الخطة للفلسطينيين هو سلسلة جديدة من الخسائر: فقدان السيادة، تكريس الانقسام، شرعنة الإخراج من غزة، وتعليق الحقوق الوطنية في فضاء تفاوضي لا نهاية له. إنها صياغة استعمارية مُحكمة، أو بمعنى أدق، غلاف دبلوماسي لعقلية استعمارية ترى الفلسطينيين كتلة زائدة يجب تدجينها أو محوها، وتسوق ذلك بعبارات إنسانية مخادعة. وما يجعل أثرها أشد فتكاً أن ظهرها محميّ بتخاذل عربي وإسلامي رسمي، صامت حيناً ومصفق حيناً آخر. هذه الثنائية، العقلية الاستعمارية الشيطانية من جهة، والتواطؤ الرسمي المهين من الجهة الأخرى، هي التي تجعل الخطة أكثر خطورة وأكثر من مجرد “وثيقة سياسية”، لأنها تتحول إلى أداة لإعادة صياغة الواقع الفلسطيني ككل.

ما يطرحه ترامب ليس اتفاق بل خدعة مكتملة الأركان. نصّ يمكن لإسرائيل أن تنقضه ساعة تشاء، كما فعلت في كل مرة سبقت. تحت لافتة «السلام»، يُشرعن تهجير الفلسطينيين من غزة ويمنح إسرائيل الحق في الاغتيال والاعتقال متى أرادت، بذريعة «الاقتصاص من الإرهاب». وبينما يجلس العالم على طاولة تفاوض بلا نهاية، تواصل المستوطنات التهام الضفة الغربية، وتبقى الدولة الفلسطينية مجرّد سراب. إسرائيل واضحة في رفضها الدولة، وخطة ترامب لم تغيّر من هذا الرفض شيئًا، بل وفّرت لنتنياهو غطاءً أمريكياً جديداً ليواصل مشروعه بلا عوائق. إلى جانب كونها حلاً مثالياً له من الناحية السياسية. على مستوى الأداء الداخلي، فهي تقدم له ما يطلبه أكثر من أي شيء آخر في هذه اللحظة: صورة النصر، واستدعاء خطاب الأمن الوطني، وغطاء دولي يخفف عنه ضغط المحاكم والاتهامات. بدلاً من مواجهة مساءلة قانونية أو خسارة سياسية أمام ناخبيه. لقد منحه ترامب أكثر مما كان يحلم به منصة شرفية تعيد له صورة القائد الحاسم. وتحقق له ثلاث وظائف مركزية؛

تحويل الفشل الاستراتيجي أو الأخطاء إلى إنجاز رمزي يمكن تسويقه في الانتخابات المقبلة، ثم تفعيل شبكة التحالفات الدولية التي تمنحه غطاءً سياسياً ودبلوماسياً يخفف من عزلته؛ وأخيراً خلق مسار يطيل أمد الوجود الإسرائيلي الفعلي على الأرض، بمعنى انسحاب تدريجي بلا سقف زمني يضمن استمرار النفوذ الأمني والسياسي بلا محاسبة فعلية.

باختصار: سينزل بيبي ميليكوفسكي عن الشجرة منتصراً، يهز إصبعه في وجوهنا بزهو وغرور نرجسي  تؤمن له صورة إعلامية تغطي على الواقع الميداني.

هذه الخدعة الرمزية ليست بريئة، لأنها تعيد توزيع الشرعية. فالنجاح الإعلامي المزعوم يطوي ملفات داخلية معقدة من فساد وضغوط اجتماعية وأزمات أمنية وما إلى ذلك، ويحول النقاش إلى سردية واحدة مفادها “حماية المواطن”. ومن ثم يصبح من الصعب كسر هذا الخطاب داخل الساحة الإسرائيلية نفسها، لأن الجمهور الذي يخاف سيشتري بسهولة وعد الاستقرار حتى لو ارتبط بوصاية مؤقتة وشروط قاسية على الطرف الآخر. وهو في الحقيقة لا يرى في هذا الطرف أكثر من “موضوع” عارض  وطارئ الوجود أصلاً.

ولكن [دائما هناك ولكن] هذا “نصر”  له ثمن. أي تحويل السياسة إلى استعراض، والحقيقة إلى غطاء.

ربما تمنح خطة ترامب نتنياهو لحظة من النجاة السياسية، لكنها تفعل ذلك عبر تثبيت واقع احتلالي طويل الأمد معلباً  في لباس إنساني. وهذه النتيجة لن تُمحى بصيغة إعلامية؛ بل سوف ستتراكم الخسائر السياسية والاجتماعية للشعب الفلسطيني. ولن يقبل العالم المشاركة في تلك الجريمة إلى الأبد

الخلاصة البسيطة والمقلمة: هذه خطة رشحها عقل سياسي يبحث عن نصر سريع ومفيد داخلياً. بالنسبة لنتنياهو، هي تذكرة خروج آمنة من أزمة؛ أما بالنسبة للفلسطينيين، فهي فخ تاريخي يكرس خسارة أكبر، خسارة شرعية ومقدرة على تقرير المصير.

اليوم، وبعد نحو قرن من بيان الدول العربية في العام 1936، نواجه صورة طبق الأصل في المضمون عما حصل  وإن اختلفت الأدوات، استعمار متجدد بعقلية شيطانية واحدة وتخاذل رسمي عربي-إسلامي  يكرر الدور الوظيفي.  إن ما يطرحه ترامب ونتنياهو تحت مسميات “اتفاق”  ليس أكثر من آلية استعمارية جديدة تعطي إسرائيل القدرة على استكمال مشروعها دون أدنى التزام.  ويمنحها الوقت الكافي والمساحة اللازمة لإنجاز مشروعها. وما بينهما، يبقى الفلسطيني محاصراً بين مجرد من أدوات الفعل بانتظار “الحل” الذي لا يأتي أبداً.

….

*في 29 أيلول  2025، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن خطة مشتركة من 20 بنداً تهدف إلى إنهاء الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة. تتضمن الخطة وقفاً فورياً للأعمال العدائية، وإعادة جميع الرهائن خلال 72 ساعة، وتشكيل لجنة حاكمة مؤقتة بقيادة ترامب وتشمل شخصيات دولية مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. تشمل الخطة أيضًا عفوًا للمقاتلين من حماس الذين يوافقون على نزع سلاحهم والانتقال إلى الحكم من قبل لجنة تكنوقراطية فلسطينية، مع وجود قوة أمنية دولية لضمان الاستقرار.  يذكر أن إسرائيل عدلت بعض بنود الخطة الاصلية بما يناسب مصالحها فاشترط رفض قيام دولة فلسطينية (وهو ما وافق عليه ترامب بعدم الإشارة، أو التمهيد لقيام دولة فلسطينية مستقلة)،  كما اشترطت إسرائيل  إعادة السلطة إلى غزة تحت رقابة إسرائيلية، ولن يُسمح للسلطة الفلسطينية بالعودة، إلا بعد تنفيذها  إصلاحات جوهرية يحددها مجلس السلام أو إسرائيل، بما يحافظ على الهيمنة الإسرائيلية على القرار المحلي. كما أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة غير مقيد بسقف زمني  وفرض وصاية دولية عبر مجلس سلام عالمي برئاسة ترامب وتوني بلير مما يعني تعميق الانقسام الفلسطيني وتقويض قدرتهم على توحيد مؤسساتهم السياسية

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

اغتيال إسرائيل للذاكرة

كريس هيديجز ترجمة: وليد يوسف بينما تُنهي إسرائيل قائمة فظائعها الشبيهة بالنازية ضد الفلسطينيين، بما …