أصوات مزعجة

عشرُ سنواتٍ مرّت على وجود فاطمة في السويد. لم تشارك طيلة هذه السنوات في أيّ نشاطٍ قد ترغب فيه أو تحبّه. ثلاث سنواتٍ في برنامج تعلّم اللغة، وبعد تعديل شهادتها الثانوية اضطرت أن تدرس سنتين لاستكمال بعض المواد لتستطيع إكمال دراستها الجامعية، ثم أربع سنواتٍ درست خلالها علم الاجتماع، ومضى أكثر من عام تبحث عن عمل في اختصاصها الجديد. عشر سنواتٍ لم تفعل فيها شيئًا سوى العمل على اندماجها في المجتمع الجديد، حتى إنّها لم تحاول تناول وجبة غذاء في مطعمٍ أو التمتّع بشرب فنجان قهوة في أحد المقاهي على شاطئ البحر. تدّخر ما تستطيع من المعونة المقدَّمة لها من الحكومة لترسلها إلى والدتها لتستطيع دفعَ مصاريف المدرسة لإخوتها الثلاثة في خان يونس، وقد اضطرت مؤخرًا بسبب الحرب على غزة أن تدّخر أيضًا أجرة المواصلات لأنّ مساعدات منظمة الأونروا توقفت، وأسعار المواد الغذائية في ارتفاعٍ مجنون.

فاطمة تقرأ الجرائد السويدية كلَّ يوم لتطوّر لغتها. لا توجد متعة عظيمة في ذلك، حتى عندما تتعلم كلماتٍ جديدة، وغالبًا لا تستطيع قراءة أكثر من الصفحة الأولى أو الثانية. خبرٌ ما جعلها تذهب إلى صفحة الرياضة: فريق كرة قدم مكوّن من ثلاثة عشر طفلًا قادمين من مناطق مختلفة من فلسطين سوف يشاركون في بطولة تُقام بشكلٍ دوري في عدة دول أوروبية، ويشارك فيها العديد من الفرق القادمة من دول مختلفة.

هل يُعقَل لخبرٍ بسيط في زاويةٍ مهملة من جريدةٍ تكره قراءتها أن يزيح عن قلبها كلَّ آلام الغربة ووحشتها؟ من تحت سريرها الخشبي المتعب تُخرج حقيبتها التي جاءت معها منذ عشر سنوات، تنفض الغبار عنها وتُخرج ما بداخلها بكل هدوء: كوفية طُويت بشكلٍ أنيق، تفتح الكوفية وتُخرج من بين طيّاتها سلسلةً ذهبية علّقت عليها خريطةٌ لفلسطين نُقش في وسطها اسمُ والدها الذي قُتل بغارةٍ إسرائيلية في حرب 2008 على غزة. ومن زاويةٍ أخرى من الحقيبة تُخرج قميصًا مخمليًا ناصع البياض مُطرّزًا بعِقَدٍ صغيرةٍ حمراء وسوداء في أعلى الصدر والكمّين على شكل ورودٍ، وثمارٍ، وعروق أشجارٍ تُشتهر بها مناطق الجليل الأعلى، خاصة بلدة الكرمل.

كان هناك الكثير من الناس الذين تعلو هتافاتهم لفلسطين عندما وصلت فاطمة إلى الملعب الذي سوف تُقام فيه المباراة. كانت متلهّفة جدًا للانخراط في هذا الحشد الكبير؛ فهي لم تشاهد مثله منذ مجيئها إلى السويد.

عند باب الدخول إلى الملعب أوقفتها صبيّةٌ صغيرة في العشرينات من عمرها ترتدي الكوفية الفلسطينية، تتدلى على صدرها خريطةٌ لفلسطين فضية اللون.

الفتاة: لو سمحتِ، طبعًا لستِ مُجبرةً على الدفع، ولكنّنا نقوم بجمع تبرعات للأطفال المشاركين في اللعبة. هل تريدين المساهمة؟

فاطمة: ودون أن تفكّر تُخرج من حقيبتها 500 كرون وتضعها في يد الفتاة.

الفتاة: هذا كثير، يمكن دفع 100 كرون فقط.

فاطمة: بابتسامة ولهفةٍ وكأنّ الجنّة تقف خلف هذا الباب: لو كان معي لدفعتُ أكثر.

دخلت مسرعة وكأنّها تريد لقاء حبيبها الذي تركته وراءها في غزة قبل عشر سنوات.

هل يمكن لبقعةٍ جغرافيةٍ صغيرة لا تتجاوز 400 متر، في مكانٍ يبعد عن الأزقة التي وُلدت فيها آلاف الكيلومترات، أن تصبح وطنًا لمدة ساعتين؟

الممرات الضيقة بين الجمهور تُعيدها إلى تلك الأزقة والحواري الدافئة التي عاشت فيها طفولتها ومراهقتها: رائحة الأجساد، تزاحم الأرجل والأكتاف، الصياح، والهتافات. هذه لهجةُ أهل طولكرم، واللكنة القادمة من ورائها لشابٍّ من القدس، والشباب الذين يهتفون بمكبر الصوت ويقودون الجمهور في الهتافات لهجتُهم من قرى الجليل. تعرف أحدهم؛ فهو لاجئ من المخيمات الفلسطينية في سوريا. صوت طفلةٍ صغيرةٍ تعتلي كتفي والدها تهتف بلكنةٍ تعرفها جيدًا: إنّها لكنة أهل خان يونس. تستطيع تمييزها ولو كانت من فتاةٍ صغيرة، وتأكدت أكثر عندما اقتربت منها وسمعت والدها يساعدها على تذكر كلمات الهتاف.

لو كنتُ أكبر سنًّا لرميتُ بجسدي في حضنها وأفرغتُ آلام عشر سنينٍ من الغربة — تحدث فاطمة نفسها، والابتسامة ترافق عينيها وهي تنظر إلى الطفلة الصغيرة.

في استراحة ما بين الشوطين شعرت فاطمة بحاجتها لاستنشاق بعض الهواء، وبينما تقف على بُعد عدة أمتار من البوابة الخارجية للملعب لمحت امرأةً في عقدها السادس تحاول الاقتراب من البوابة والنظر إلى الناس الذين لا يزالون يهتفون بصوتٍ عالٍ. كانت المرأة عاقدة الحاجبين، بعض الغضب يملأ عينيها، وشعرها الأشقر الناعم المبعثر الخصل يوحي بأنها خرجت من المنزل على عجل.

بلَكنتها السويدية الثقيلة قالت فاطمة: مرحبًا، هل أستطيع مساعدتك؟

المرأة: ماذا يحدث هنا؟

فاطمة: مباراة كرة قدم.

المرأة: ولماذا يصرخون؟

فاطمة: (وقد استغربت السؤال) هل تريدين الدخول؟

المرأة: لا، ولكن لماذا يصرخون؟

فاطمة: إنها مباراة كرة قدم، ومن الطبيعي أن يصرخ الجمهور.

المرأة: ولكن انتهت المباراة! لماذا يستمرون في الصراخ؟

فاطمة: (وقد بدأت تشعر أن المرأة لديها أسباب أخرى غير الفضول) لم تنتهِ المباراة، انتهى فقط الشوط الأول.

المرأة: أنا أسكن هناك، وأنا منزعجة جدًا من الصوت. لماذا يصرخون كلّ الوقت؟

فاطمة: الساعة الآن الثالثة عصرًا، وهذه مباراة كرة قدم، ومن الطبيعي أن يصرخ الجمهور.

المرأة: (بحركاتٍ لامبالية تجاه التوضيح) يمكن أن يصرخوا فقط عندما يدخل هدف، ولكنهم يصرخون كلَّ الوقت، لماذا؟

فاطمة: (تحاول أن تشرح لها خصوصية المباراة)

إنها مباراة بين فريقين من الأطفال؛ أحدهما قادم من فلسطين، والجمهور يحاول تشجيعهم وإظهار الاهتمام لهم لأنهم قادمون من مكانٍ فيه حرب.

كان الشوط الثاني قد بدأ.

المرأة: هل يمكن أن تقولي لهم أن يخفضوا صوتهم قليلًا؟

فاطمة: (تحدّث نفسها) ما الذي يمكن قوله لها؟ هل أشرح لها أنّ غالبية من حضر إلى المباراة لا يحبون كرة القدم، وربما بعضهم يكره هذه اللعبة ككرهه للاحتلال مثلي؟ هل يجب أن أحب كرة القدم لأسرق ساعتين من الدفء والحنين إلى وطني؟ كيف أشرح لها أن الموضوع لا يتعلق بكرة القدم، وأن صراخ الناس وهتافاتهم لا يتعلق بهدفٍ أو بربحٍ وخسارة؟ كيف أشرح لها أنه حتى إذا خسر الفريق القادم من فلسطين لن يحزن الجمهور، ولن يتشاجر جمهورنا مع جمهور الفريق الآخر كما يفعل الآن بعض الشبان الذين خرجوا من الملعب الكبير الأقرب إلى منزلها، والذي كان يضم آلاف المشجعين؟ هل أقول لها إنني دفعت آخر مبلغٍ معي لهؤلاء الأطفال، وعليَّ أن أتناول وجبةً واحدة كلَّ يوم مما ادّخرته في ثلاجتي الصغيرة؟ وأن أستخدم قدميّ طوال أسبوعٍ بدلًا من الباص؟ لماذا تزيدين من اندماجي صعوبة بأسئلتك التي لا معنى لها؟ هل تطلبين مني الآن أن أبرر أسئلتك وأن أجدها منطقية تحت بند الاندماج وضرورة فهم ثقافة المجتمع الجديد؟ لماذا لا تدخلي وتقفي بين المشجعين لتدركي أن المسألة لا تتعلق بكرة القدم، ولا بالصراخ، بل سترين أشخاصًا يبكون، وآخرين يحبسون دموعهم، وربما تقابلين أشخاصًا كنتِ تعملين معهم منذ سنوات ولكن لا تعرفين عنهم شيئًا سوى لكنتهم السويدية الغريبة.

المرأة: (تقطع حديث فاطمة الداخلي) سوف أشتكي إلى البلدية.

فاطمة: هذا أفضل، ولا تنسي أن تشتكي على الملعب الكبير، فالجمهور هناك غالبًا ما يكون أكثر عددًا وصراخهم أعلى. ولكن إن أردتِ الدخول ومشاهدة الناس والمباراة عن قُرب يمكنك ذلك، الدخول مجاني.

المرأة: مجاني؟

فاطمة: نعم، مجاني!

المرأة: مجاني حقًا… هل أنتِ متأكدة؟

فاطمة: ويوزعون أيضًا بعض المشروبات.

المرأة: حقًا؟

تترك فاطمة المرأة واقفةً عند مدخل الملعب مترددةً بين أن تدخل وتشارك الناس حنينهم، وبين أن تمضي نحو منزلها لتكتب إلى البلدية تذمّرها من الأصوات العالية التي تأتي من الملعب الصغير الواقع خلف الملعب الكبير الأقرب إلى منزلها.

… المصدر

غرب البلطيق، شرق المتوسط (مجموعة قصصة)

متولي أبو ناصر

الطيبغة الأولى 2025 . السويد

عن متولي أبو ناصر

شاهد أيضاً

ست أقدام في الوطن بحجم قبر

استهلال نادين غورديمر (1923 -2014) كاتبة وروائية من جنوب أفريقيا نالت جائزة نوبل للآداب في …