استهلال
يتحوّل الإنسان تحت الطغيان إلى كائن آخر. لا يحدث ذلك دفعة واحدة، ولا يحتاج إلى عنف ظاهر. يكفي أن يتخلّى عن “صوته” قليلاً، ثم عن شكّه، ثم عن حساسيته. بعد ذلك يصبح مستعداً لتقبّل ما كان يرفضه، ويبدأ في تبرير ما لا يُبرَّر. هنا يولد “التضفدع”، أي لحظة الانحناء الداخلي التي تفتح الطريق لتحوّل أعمق من الخوف، وأشدّ رسوخاً من الطاعة.
التضفدع ليس شتيمة ولا وصفاً خفيفاً. إنه البنية الأخلاقية التي يصنعها النظام في قلب الفرد كي يبقى الحكم مستقراً. هو الكائن الذي يتعايش مع القبح، ويجد راحة غريبة في القبول. لا يعترض، ولا ينتفض، ولا يسأل. فقط يتأقلم. ومع الوقت يصبح هذا التأقلم شكلاً جديداً للهوية.
هذا التحوّل ليس حكراً على سوريا، لكنه يجد هناك مسرحه الأكثر كثافة. هو الوجه اليومي للطغيان، لا في خطابات السلطة بل في نفوس الناس. ولتفسيره، لا يكفي اللجوء إلى السياسة وحدها. نحتاج إلى استعارة تكشف ما يختبئ تحت السطح. وهنا يطلّ خيال يوجين يونسكو ومسرحيته الشهيرة عن “الخرتيت”، بوصفه نموذجاً لمجتمع ينسلخ عن إنسانيته خطوة خطوة، حتى يتوحّش الجميع ولا يبقى في القرى سوى الضجيج والقرون.
من التقاء هذا المجاز بالواقع تولد قراءة جديدة لما جرى ويجري: كيف تحوّل الخوف إلى طبيعة، والطاعة إلى فضيلة، والخراب إلى قدر مقبول؟ وكيف أصبح التضفدع جزءً من البنية النفسية اليومية وليس مجرد رد فعل عابر؟
ولو تجاوزنا التحليل المباشر، إلى ما يشبه تفكيك المجاز من الداخل، وربطه بالبنى العميقة التي تجعل ظاهرة مثل التضفدع ممكنة وفاعلة ومنتجة للقمع، سوف نصل إلى جذور الفكرة والبنية الذهنية قبل البنية السياسية.
ثمة ما هو شديد الحيوية هنا لجهة تحويل الطاقة الجوانية لمشهد بسيط إلى ساحة لأسئلة مفتوحة. هذا بالضبط ما تفعله “نظرية التضفدع”. فهي تبدأ من حكاية مألوفة، شائعة عن طبيعة الضفدع وصوره في الخيال الشعبي لتنتهي إلى استعارة نفسية-سياسية تحاول وصف “الانسحاق الهادئ” الذي يعيشه الفرد داخل أنظمة تفرض نفسها تدريجياً حتى يصبح الاستبداد جزءً من الهواء الذي يتنفسه الناس.
التحوّل ليس سلوكاً. إنه خيار وجودي. ومقاومته تبدأ من النقطة التي يصبح فيها الصمت تعقيداً إضافياً والإذعان عادة، والخوف مبدأ. يبدأ التحرر حين يدرك الإنسان أن أول معركة يخوضها ليست ضد الطاغية، بل ضد النسخة الصغيرة منه التي تتشكل في داخله.
الإنسان\الضفدع ليس منفصلاً عن “المسؤولية الأخلاقية”، مثلما هو الاستبداد ليس حدثاً فجائياً، وإنما سلسلة تنازلات صغيرة تبدأ بريئة في البداية ثم تصبح نوع من “المؤقت” أو “الراهن” لتصبح أخيراً “عادة”. وبعد سنوات، سيكتشف هذا الإنسان\الضفدع أنه عالق تماماً داخل الماء المغلي.
وإذن؟… يبدأ الاستبداد من الداخل، من تكيّفنا، من تطبيعنا، من رغبتنا في تجنّب الألم الراهن ولو بثمن أكبر لاحقاً. هذا هو جوهر المعضلة التي يتفادى كثيرون لمسها.
الإنسان\الضفدع ليس بطل مأساوي، ولا هو كائن غبي، بل هو نحن حين نفقد الإحساس بالحدود الناعمة للسيطرة. وفي طبقة أعمق، يمكن فهم حالته ( التضفدع) كأزمة علاقة بينه وبين زمنه.
إن الهزيمة الطويلة تخلق وعياً مهزوماً، كما يقال. والخوف المتواصل يجعل الزمن دائرياً، كأن المستقبل مغلق بالقوة.
ومع انغلاق الزمن يتقلص الخيال السياسي حتى يصبح أقرب إلى جملة واحدة: “لا بديل”.
هذه العبارة كافية -وحدها- لخلق جيل كامل من الضفادع.
…….
“التضفدع” مصطلح نحتته الثورة السورية -باقتدار- كرد فعل لمعاني الغدر والخيانة وذهنية الاستسلام لمشيئة الطاغية. ولوصف من يستسهلون الحياة، فيقدمون على التضحية بإنسانيتهم ليتحولوا إلى “ضفادع”[1] بصفته فعلاً اجتماعياً عن حالة “التطبيع” مع القمع قبل أن يكون صفة فردية. مما سيحول هذا الفعل إلى آلية للسيطرة، بعيداً عن كونه وصفاً مهيناً أصلاً أو تشبيهاً ساخراً.
آلية الاستحالة إلى ضفدع هذه تشبه كثيراً ما طرحه يوجين يونيسكو[2] قبل نحو ستين عاماً في مسرحيته الشهيرة “وحيد القرن أو الخرتيت”. وكان يونيسكو قد وظف “الخرتيت” كمجاز للتعبير عن وحشية البشر وعن عبثية الوجود ككل ضمن إطار لا واقعي لتحول البشر، كاستعارة للطغيان والاستبداد. وبهذا المعنى يكون “التضفدع” المعادل الموضوعي “السوري” للخرتتة وتجسيد ملموس لانحلال القيم الإنسانية، وتدهور معناها والانحدار بها نحو “الحيونة”. ورغم كل تقدم وصلت له البشرية ما زالت عقلية الضفدعة والخرتتة متأصلة ونراها ماثلة أمامنا[3].
لم يعش السوريون زمن الفاشية والنازية والشيوعية الستالينية، وما خلفته من خرتتة للفرد والمجتمع، لكنهم عاشوا نسخة لا تقل فتكاً، خلقت أساليب حياة -مثل التضفدع- يقتات بها البعض . لقد عاشوا تلك الشعارات التي تختصر الحياة بمفاضلات بدائية: “الأسد أو نحرق البلد”، “أو لا أحد”، “الركوع أو الفناء”. فالتضفدع السوري ليس حدثاً منقطعاً عن تلك الرغبة المرضية في الاستعباد و “العبودية الطوعية” (كتلك التي تحدث عنها إيتيان دو لا بوييسي في القرن السادس عشر)، غيره، وإنما هو أحد أوجه التشريع الشمولي لحكم البشر الذي تتجلى تعابيره الفظة في مقولات تقع في أقصى التطرف الإنساني هذا النوع من الخطاب لا يحتاج إلى طاغية عبقريّ، بل إلى جمهور مهزوم من الداخل، يرى الطاعة خشبة خلاص. لذلك لم يكن غريباً أن يكون أشدّ المدافعين عن المستبد هم الذين يشبهون ضحاياهم أكثر مما يشبهونه، كأنهم يحرسون شرط ذلّهم بأيديهم.
كان على السوري أن يعيش واقعاً يعبر عن الجوهر الحقيقي لما كانت تعنيه النازية أو الفاشية، أو إحدى صور الشيوعية المتمثلة في عبادة الشخصية، إذ يحفظ لنا أرشيف الدولة الروسية الكثير من الخطابات المرسلة إلى ستالين من قبل رموز دوائر الحكم في الاتحاد السوفييتي، مثل تلك التي قام ميكويان بكتابتها بمناسبة عيد ميلاد رئيسه (ستالين) حين يقول: “أفعل أي شيء من أجل أن ألتقط كل الدروس المستخلصة من انتقاداتك القاسية والمحقة في آن لتساعدني على العمل تحت راية حكمتك وقيادتك الأبوية”.
أو تلك الشهادة التي ترويها ابنه ستالين عن رئيس المخابرات السوفيتية لافرينتي بيريا لحظة دخوله على أبيها فتقول: “عندما صحا لوهلة من غيبوبته.. انحنى [بيريا] على ركبتيه يقبلهما، وما إن عاد إلى غيبوبته، وقف على قدميه وبصق عليه”.
ولكن في حالة “الضفدع السوري” تبدو المسألة أكثر قسوة حين يصبح الخوف هُوية. والهُوية تنتج خطاباً… والخطاب ينتج ولاءً… والولاء ينتج كراهية تجاه كل من بقي إنسان. ولذا ليس غريباً رؤية أن أقسى المدافعين عن الطغاة هم الذين يشبهون ضحاياهم أكثر مما يشبهونه[4].
يستدعي يونيسكو في مسرحيته آلية التحول التي تجعل البشر يتخلون عن إنسانيتهم تدريجياً. أما في سوريا -وحين نضع التضفدع في خانة الخرتتة- ننتقل من المجاز إلى اللغة السوسيولوجية، أي لغة انهيار البنية الأخلاقية، عند اللحظة التي يفقد فيها الإنسان قدرته على المقاومة الداخلية. فإذا كانت الخرتتة لدى يونيسكو تمثل القوة الطاغية وعدوى التحول الجماعي، فالتضفدع السوري هو بيت الرعب الحقيقي، حين يبدأ بالخوف ثم بالعادة ثم بالراحة. وهكذا لا يصير البشر ضفادع دفعة واحدة. وإنما يبدأ الأمر من قرار صغير، كالصمت مثلاً، ثم مجاملة صغيرة ربما، ثم تكرار. ثم يصبح الذلّ نمط حياة.
وعندما يختار الإنسان أن يكون جزءً من منظومة القمع، فهو لا يختار الطاغية فقط… بل يختار نزع طبقة من إنسانيته. كشكل من أشكال اغتيال أو قتل الذات.
وإذن التضفدع والخرتتة ليست أفعالاً فردية، وإنما بنية، بالأحرى شبكة “معنوية”. تتغذى على انضمام الآخرين إليها. فالطاغية الفرد لا يملك القدرة على صناعة الطغيان. وإنما القطيع هو الذي يعطيه القوة.
فأيهما أخطر إذن؟ المستبد أم الذين يصنعونه؟
يحفظ لنا تاريخ الإبداع العديد من الأعمال التي عالجت موضوعات الشمولية والاستبداد والطاغية، بل ربما كانت هذه أكثر المواضيع التي شغلت عقول الكتاب والفلاسفة والفنانين وغيرهم من المبدعين في المجتمعات المختلفة. وإذا كان الأصل في الإنسان هو انتماؤه للملكة الحيوانية[5] -كتصنيف بيولوجي- فهذا يستوجب منا النظر له، من هذه الزاوية، من منظور “القطيع” كسلوك وغريزة، ولكن [دائما هناك “ولكن”]، طالما اعتبر الإنسان نفسه أذكى “الكائنات”، فلذلك قام هو نفسه باختراع آلية التصنيف تلك فنأى بنفسه بعيداً عن نمط القطيع الغريزي “غير المفكر”، وعن صورة الحشد الذي يتنافس على “المرعى”
وهذه الآلية هي التي يدعوها هيغل التمايز بين الطبيعي والثقافي من جهة، وبين الموروث البيولوجي والاجتماعي من جهة أخرى. والقدرة على التثبت البنيوي في جعل الموضوع الطبيعي طبيعياً والثقافي ثقافياً، بمعنى اكتساب الأسماء للصفات التي يسبغها الإنسان عليها (بوصفه أذكى المخلوقات).
وفي المقابل، تقوم الخرتتة\ التضفدع على سلسلة من اللامعقولات تخلق “زمن ثقافي” أو “زمن مدني” أو “زمن اجتماعي” لها، كما في رواية “مزرعة الحيوانات”، في تضاد واضح مع المأثرة الهيغلية التي تصر على ربط الزمن بالإنسان بوصفه [أي الزمن] عنصر “طبيعي” يختص به الإنسان وحده عن سائر الكائنات التي تنتمي لزمن خطي أحادي الجانب ووحشي. زمن فيزيائي لا يحتمل الإشكاليات الجدلية المتعلقة بتشابكاته الوجودية والتي يراعى فيها الثابت البنيوي البيولوجي والموروث الاجتماعي-الثقافي.. فالقيم التي ننسبها عقلانياً إلى “العقلانية” ليست سوى قيم بنيت رويداً رويداً على أنقاض بنية إرادة الحياة بالمعنى النيتشوي، وكذلك على أنقاض الغرائز باعتبارها أكثر الأشياء حميمية من مكوناتنا كاللذة والشبق والليبيدو والتملك والتدمير (وهذه الأخيرة تبدو كاستلهام فرويدي بامتياز).
فالأصل في القول إن الفكر البشري لا يتوقف عن الإنتاج، طالما بقي إنسان على هذه الأرض، بل ينساب بزخم مثل أمواج تتقلب وراء بعضها البعض وتتداعى فيها، بصورة حرة، معاني العلاقة المترابطة بين القرائن والدلائل ذات الإيحاءات المتعددة.
ووحيد القرن، بهذا المعنى، كهاجس ذهني هو إحدى هذه الدلائل التي يمكن تناولها في أكثر من مستوى فهو حيوان، ضخم، ذا منظر مرعب أو على الأقل غير مريح (مثله مثل الضفدع)، وهو دكتاتور، وأب “بمعنى بطريركي عشائري” وهو فكرة طاغية وشمولية وهو سلطة أو قوة السلطة.
هذه الصورة، أي صورة الإنسان المقهور، كانت قد عبرت عنها الروائية الإيطالية فرانشيسكا بيللينو في روايتها عن أحداث الثورة التونسية “على قرن الكركدن”[6]، وبهذه الصورة تستعيد الروائية بيللينو وقائع الثورة التونسية من خلال العلاقة التي تربط ماريا الإيطالية بصديقتها مريم التونسية، التي كانت قد هاجرت إلى إيطاليا بحثاً عن حياة أفضل فتصطدم هناك بواقع الغرب رغم توهمها أنها حققت خلاصها عبر “الجنس والعمل والتنورة القصيرة” فتعود إلى بلدها متحدية وحيد القرن (وهو هنا زوج أمها الذي حول الأسرة إلى قطيع مسلوب الإرادة، لا حول له ولا قوة) لتموت هناك.
تقرر ماريا القدوم إلى تونس للمشاركة في جنازة رفيقتها فتباغتها الثورة فتقوم برصد تطلعات الناس الذين يبدون مثلهم مثل غيرهم في أمكنة أخرى من حيث تداخل الخاص والعام في حياتهم بطريقة يصعب الفصل بينهما على اختلافهم وتباينهم لحد التناقض، ومن خلال تتبع يوميات الثورة يظهر لنا في سياق الرواية عمق الخوف الكامن في عقول الناس من الطغيان والفساد الذي زرعه وحيد القرن الأكبر (الرئيس التونسي المخلوع بن علي). فوحيد القرن هنا له وجه مزدوج، فهو من جهة النظام البطريركي المهيمن على العلاقات الإنسانية، وهو من ناحية أخرى صورة السلطة المتمثلة في استبداد الحاكم وحاشيته .
وهي صور تتشارك فيها جميع الدول العربية سواء التي قامت فيها ثورات أم لم تقم. وهذا لا يختلف جوهريا عما كتبه يونيسكو الذي يتلاعب بعقولنا حين يسائل بعض الصفات البيولوجية لوحيد القرن لأنسنتها، فمن المعروف أن حيوان وحيد القرن يمتلك قدرة بصرية ضعيفة للغاية مما يجعله يهاجم، كأسلوب دفاعي مبدئي، قبل معرفة هدفه. وكثيراً ما يكون صغاره إحدى ضحايا هجومه لتسرعه واندفاعه الناتج عن “قصر نظره”. تقلل ميزة ضعف البصر من قدرته على استغلال مزايا أخرى مهمة مثل “ثقله” [وزنه الضخم] وسرعته في الجري.
وتشير بيانات “ناشيونال جيوغرافيك” أن خاصية ضعف النظر هذه تجعل الخرتيت يميل للعيش منعزلاً بصورة تامة “مثل الدكتاتور؟” ورغم عزلته هذه فهو لا يستطيع الهرب من العلائق والطفيليات التي تعيش عليه وتمتص ما يعادل 4 لترات من الدم يومياً من جسده، مما يؤدي هذا به إلى الغضب السريع، وهذه إحدى الصفات التي كونها البشر أولاً عن وحيد القرن مما يجعله أيضاً -نتيجة هذا الغضب- أحد أكثر الحيوانات غباءً (وتلك صفة يحلو للبعض وصف الدكتاتور بها)، كل هذه الصفات يطرحها يونيسكو بأسلوب يمزج بين التهكم والكوميديا (سيهمس لنا يونسكو، دون أن يصرح، وهو يحاول تفسير آليات التحايل العقلي لقبول الاستبداد، أن خطر وحيد القرن على الإنسان أقل بكثير- من الناحية الموضوعية- من خطر أولئك الذين قرروا أن يتخرتتوا بمحض إرادتهم).
وإذن لم يعد النقاش يدور حول من هو المستبد بقدر ما هو عمن يقبل أن يكون مَداساً للمستبد، ومن ثم -ولتوسيع الرؤية أكثر- القبول به [المستبد] وبما يمثله من “حيونة” المعاني والقيم الإنسانية النبيلة. فعلى مر العصور عرف البشر الطغاة وعانوا منهم ، وعلى مر العصور كان هناك من يفرش الدرب الإنسانِي لحيونته وخرتتته[7] .
لقد استجاب سكان بلدة يونيسكو لنداء الفكر الشمولي فتحولوا طواعية إلى خراتيت مثلما استجاب البعض لذات النداء، فتحول البعض إلى ضفادع. ولا يهم الآن أي قول أو تبرير، أو حتى تفسير، فالواقع يشير إلى أن “تطبيع” التحول إلى الخرتتة صار بمنزلة قانون يحكم قواعد اللعبة السياسية في دول الربيع العربي وما حولها، وما جاورها.
فما العمل؟ هل سيجتمع الناس ليسألوا عن جنس الملائكة ومدينتهم محاصرة من الأعداء؟
ماذا يفيد السؤال عن عدد قرون الخراتيت أو جنسها أو عدد الضفادع في سياق الهذيان السائد؟.
يزيد يونيسكو من عبثية واقع البلدة حين تقول إحدى السيدات لرب عملها إن زوجها لن يستطيع الحضور لأنه تحول إلى خرتيت. فيرد عليها بتهكم بأنه يمكنها أن تطالب شركة التأمين بمبلغ التأمين على الحياة, ويبلغ التهكم ذروته -لدى يونيسكو- عند هذا الحد الأعظمي من الانحراف عن جوهر المشكلة بالسؤال عن جنسية الخراتيت، هل هو آسيوي أم أفريقي؟
وهل مثل هذا السؤال ينطوي على تعصب عنصري بطريقة ما؟ أم السخرية من المتضفدعين بالسؤال عن طريقة تكاثرهم .
وعندما يسأل يونيسكو عن “جنسية الخرتيت”، فهو لا يستهزأ بعقولنا. إنه يفضح “الانشغال بالهوامشِ”. وهو الانشغال ذاته الذي يدفع البعض اليوم للسؤال عمن خان أولاً؟ ومن قتل أكثر؟ ومن يستحق الثورة ومن لا يستحقها؟
كل هذه الأسئلة محض هروب من سؤال واحد: من الذي يسمح للطاغية بأن يكون طاغية؟
الإنسان ليس كائناً ثابتاً، بل مشروعاً مفتوحاً بين الحيواني والثقافي. والخرتتة ليست سقوطاً نحو الحيوانية، بل سقوطاً نحو نسخة أكثر فتكاً من الحيوانية، لأن الحيوان لا يعرف القسوة بمعناها الرمزي. إن وحيد القرن الحقيقي قد يقتل صغاره من قصر نظر، أما الخرتيت البشري فيقتلهم وهم ينظرون في عينيه. وهنا الفرق: الطاغية في نسخته “ما بعد الحيوانية” والضفدع في نسخته “ما دون الإنسانية”. وهذا ما يجعل المجاز أكثر وضوحاً، فنحن نحن لا نصف الناس بالحيوانات… بل نصف فقدان القدرة على أن يكون الإنسان إنساناً.
فما العمل؟
الإجابة تكمن في الوحدة التي بقيت في نهاية مسرحية يونيسكو، الشخص الوحيد الذي لم يتحوّل، هو ليس بطلاً خارقاً أو ثورياً عظيماً. وإنما هو شخص رفض الكذب على نفسه، ورفض “الانسجام مع القطيع”.. رفض أن يخون ذاكرته، لقد احتفظ بنواة صغيرة رفض تسليمها، فهي الشيء الوحيد الذي لا يستطيع الطاغية السيطرة عليه. هنا تتضح أكثر حالة المجاز: المعركة ليست ضد المستبد، وإنما ضد شكل المستبد، سواء كان رخواً مطواعاً (على هيئة التضفدع) أو صلباً وحشياً (على هيئة الخرتتة)، أي شكل الاستبداد الذي ينتج الطاعة في لحظة الغفلة، فيحول القمع إلى طبيعة ثانية، والخوف إلى قانون.
ولعل الإنسانية تبدأ من لحظة الرفض حين يكون الرفض مكلفاً. ربما هذا هو “الفعل السياسي الأول”. رفض التحوّل… ولو في الداخل فقط. رفض الانزلاق نحو النسخة الأسهل. رفض المكافأة السهلة التي يأتي بها الخوف. وهذه بداية الطريق دائماً، حتى في أحلك المجتمعات.
تحتم علينا إنسانيتنا منع أنفسنا من الخرتتة، ومن أن نصبح منهم أو مثلهم، وهذا مسار لا تمليه علينا المقولات السياسية، بل الأخلاق والبنية الاجتماعية وتجربة الذاكرة. حيث يبدأ التحرّر من الداخل، من طبقة الوعي التي لا يستطيع النظام السيطرة عليها إلا إذا تنازل الإنسان عنها.
التحول في المسرحية ليس سلوكاً، بل خيار وجودي يبدأ من اللحظة التي يستبدل فيها الإنسان علاقته بالحقيقة بعلاقته بالخوف لإنتاج نسخة مشوهة منه. وهي اللحظة التي يبدأ فيها العقل بتقليل أهمية أخطائه “لماذا أدفع الثمن وحدي؟”، “الكل صامت، لماذا لا أكون مثلهم؟”. وتدريجياً يبدأ بإعادة تشكيل جهازه الأخلاقي ليتوافق مع البقاء. وهكذا يصبح الخطأ فضيلة، والجبن حكمة، والخضوع واقعية. وهذا يعني تحوله إلى مدافع عن الخوف، كأنّ الخوف طفل يجب رعايته.
ونعم… الطغيان يحتاج إلى “بنية داخلية” في ضحاياه، فالطاغية لا يسيطر على الناس من الخارج فقط، بل يصنع في داخلهم “نسخة منه”.
وهذه نقطة يونيسكو الجوهرية في المسرحية، فالوحشية ليست شيئاً نواجهه، بل شيئاً نخاف أن نكونه. وعندما يصبح الإنسان مهيأ داخلياً لقبول الخرتتة، يصبح التحول مجرد إجراء شكلي، أشبه بتبديل جلد.
وحين يقترح يونيسكو النهاية برفض بطلها التحول إلى خرتيت، فهو يشير إلى مغزى هذه النهاية دون تسميتها، لرغبته في أن يقدم عملاً يرمز إلى كل ما هو قبيح في العلاقات بين البشر، لا سيما ما تمثله شخصية الديكتاتور. فإذا كان وجود الطاغية في المجتمعات الإنسانية معروف منذ القدم إلى درجة يكاد يكون وجوده -مثل الحرب-سمة من سمات المشترك الإنساني، فهو مع ذلك “حالة ” متطرفة تسير بعكس الوعي العام لمعنى علاقاتهم ببعضهم البعض.
لا يكتفِ يونيسكو بعرض هذه القباحة، بل يضيف مجازاً أشد وطأة -أي وحيد القرن- كناية عن التوحش البشري، وتنغلق عبثية العمل على اللامعنى -فعلاً- من خلال تحول البشر إلى خراتيت -تلك الحيوانات غير العاقلة- كما ينبغي علينا فهمناها في إطار الصورة الشاملة للديكتاتور، وللمنظومة المؤيدة له بما تمثله من تجسيد حقيقي للتضمينات والتنويعات المختلفة لسلوك القطيع.
مثل هذا الصراع الداخلي العنيف القريب من حالة الانفصام لا يعكس في جوهره تحدينا أو تمثلنا للأفكار الشمولية فحسب، بل ينزلق نحو معترك أوسع حين يقدم لنا تصوراً عن قلق الموائمة بين ما هو “مجتمعي” وما هو “طبيعي”, فحين يسأل بطل بيرانجييه [بطل مسرحيته] صديقه جان بإلحاح إن كان يلمح بأنه علينا استبدال المنظومة الأخلاقية بقوانين الغاب يجيبه جان بهدوء: نعم؛ إذ ينبغي أن يكون هناك أسس جديدة تنبني عليها حياتنا “علينا العودة إلى ببراءتنا البدئية.”
يا لشدة عبثية هذا الوصف وغرابته، ويا لقسوته حين ينعكس في واقع أعنف من المجاز، ومع الإقرار بهذه العبثية وتلك الغرابة، إلا أنه يعبر عن عمق المعاني التي أوجدته. فالحيوان انتقل من حالته المجازية ليصبح “بنية سياسية” داخل نظام فقد إنسانيته لينتج مجتمعاً مشوهاً، وحين يصبح الخوف محض عدوى صريحة يصبح الاستبداد اليومي دبقاً مثل الضفدع فيتسرب في كل شيء.
قد تكون السخرية أحد الأسلحة التي يمكن لبعضنا استخدامها في مواجهة قسوة هذا العالم، إذ ليست الجدية هي الحل دائماً. يقول باختين “الضحك يهدد الطغيان”. وهذا ما أراد يونيسكو قوله أيضاً من أن فرط السخرية قد تكون حلاً لتعرية الواقع الفاسد، وبالأخص في عصرنا الحالي حيث المرء محاصر بقيم الاستهلاك والنفاق الاجتماعي.
جوهر الفكرة ليس ظهور وحيد القرن، بل كيف تستجيب عقولنا، أو على الأقل بعض عقولنا ذات الطبيعة المساومة لمثل هذا الظهور والتحول. فاستجابة الناس بقبولهم أن يصيروا وحيدي قرن يخفي وراءه الكثير من معاني تحول القيم الحقيقية إلى قيم سطحية تافهة يسعى البعض لتسويغها ” اللي بتجوز امي بصير عمي.”
ويضفي يونيسكو لون فاقع من العبثية والاستهزاء حين يحرف السجال الجاد نحو بنية مبتذلة تناقش بجدية قضية سخيفة أصلاً و غير معقولة فيتساءل النص عن أصل وحيد القرن، هل هو آسيوي أم أفريقي، وهل طرح مثل هذه الأسئلة يمكن أن ينطوي على تأويلات عنصرية متعصبة ؟
أي حرية هذه ؟ أي حرية تدفع الناس لأن يتحولوا إلى “خراتيت” بمحض إرادتهم، لا إكراه ولا بطيخ؟ … وبلغة يونيسكو كيف نسمح للطاغية بأن يكون طاغية؟
نعم ثمة بشر من هذا النوع في كوكبنا يعيشون بيننا هكذا دون انتباه. لديهم قابلية هائلة لتقبيل بسطار الحاكم، بل وأكثر من ذلك، فنراهم يصرحون جهاراً نهاراً أنهم “صرامي”، في مفارقة غريبة يتحول فيها سقف الوطن إلى حذاء، في أشد الصور السلبية لتماهي مفهوم “السحيج” بصورة سيده، في إطار عبثي مبني على وهم “المؤامرة” التي تستهدف الوطن والقائد و الشعب.

تعود هذه الصورة إلى شهر آذار 2018، ويظهر فيها رجل يحتضن “سودان” آخر وحيد قرن أبيض ذكر مات عن عمر ناهز 43 عاماً، ليسدل الستار على هذه السلالة لما اعتبره أهل الاختصاص ” الانقراض السادس الكبير” ( كان الانقراض الكبير الذي سبقه يعود لنحو65 مليون سنة الذي يؤرخ لانقراض الديناصورات).
ومن المفهوم أن الوهم لا يولد باعتباره حالة مرضية خارجية، بل ينشأ من الداخل، ينخر مثل تساقط قطرات الماء على صخرة، ينمو ببطء وتدريجياً حتى يصبح جزء منا فـ “نعتاد” عليه لأنه صار بالنسبة لنا عادي، ونفقد القدرة على تمييزه عن الواقع، ونخلط بينه وبين ما هو “حس سليم”.
وحين يتحول الوهم إلى هاجس، ينشب مخالبه فينا، يتشبث بنا، فيصبح الدفاع عن الغلط بطولة ووطنية، ونجبر أنفسنا على استمراء الخطأ. فلا نرى هذا الخطء خطأ بسبب من بناء استراتيجيتنا الدفاعية الداخلية عليه.
ومن نافل القول أن الإنسان مهما كان مخطئاً لن يصف سلوكه أنه خطأ، بل ببساطة قد يقول لا أحد يفهمني.
….
[1] ليس الأمر-في هذا المجاز- كمن يدخل غرفة المرايا العاكسة؛ فيطل الضفدع من انعكاس أو ظل. بل نحن نتعامل مع استعارة مقصودة لوصف آلية التحول التي تفقد الإنسان شكله الداخلي قبل الخارجي. حتى أن الضفدع كمجاز سردي، لا يبتعد كثيراً عن طبيعته البيولوجية: كائن حي “مبتل”، بل دائم الابتلال، وزلق ويعيش في الحفر. يقفز بسرعة كيفما اتفق، وبلا اتساق، ويملك صوتاً مزعجاً لا شك في ذلك. هذه الصور اجتمعت في الخيال الشعبي السوري وأسقطت على شخص تضخّم فيه الاستعداد للانبطاح.
[2] ولد يوجين يونسكو سنة 1909 في رومانيا لأب روماني وأم فرنسية، وتوفي سنة 1994. يعد -مع صموئيل بيكيت- من أبرز من كتبوا في مسرح اللامعقول، وتصف أعماله -بطريقة لا تخلو من السخرية و التهكم- عبثية أوضاع الحياة وعزلة الإنسان وعدم الجدوى والغاية من وجوده على هذه الأرض. من اهم أعماله: “المغنية الصلعاء”، “وحيد القرن أو الخرتيت”، “مكبث” [وهذه الأخيرة اقتباس حر من شكسبير]، وغيرها من الأعمال المسرحية.
[3] اختار السوريون التضفدع وليس “الخرتتة”. صحيح أن وحيد القرن ثقيل وصدامي وعدواني. والضفدع كائن يعيش في العتمة، يتقافز بلا هدف ويختبئ عند الخطر، ومحتقر يعيش في الوحل، ويصدر صوتاً يملأ الأفق ضجيجاً ولكن دون تأثير أو معنى. ولكن هذا ما يمنحه قوة ودقة أكثر من مجاز يونيسكو. إذا كان الخرتيت متسلطاً، فالضفدع هو “الذراع الأخلاقية” للسلطة. الطاغية لا يراه، لكنه يسمع ضجيجه ويحتاجه. لافت هنا أن كلا المجازين يسمحان بالعدوى مثل المرض، فالخرتتة والتضفدع قابلة للانتقال من شخص إلى أخر عن طريق “العادة”. وكلما زاد عدد المتحولين، بدا التحوّل “عادياً”، بل “منطقياً” بل أكثر من ذلك بدا كما لو أنه طريق إجباري. في مسرحية يونيسكو، يتحوّل الناس واحداً تلو الآخر. أما في سوريا، فقد تحوّل الناس لأن هناك من أدخل في عقولهم أن “الانحناء أقل تكلفة”.
[4] تبدو العلاقة في المخيال العربي أكثر تعقيداً لأن السلطة ليست فقط وحيد القرن، بل هي أيضاً “القطيع” الذي يتحرّك معه. ويأخذ الحكّام صورة الحيوان المفترس، بينما تأخذ الرعية صورة الحيوان القابل للتدجين. وعندما تنهار الحدود، يبدأ المجتمع باستعارة هذه الصور كي يصف من يختلف معه: الضبع، الكلب، الخنزير… وهذه كلها ليست إهانات فقط، بل محاولة لإعادة ترتيب الهرم الأخلاقي. وهنا تتجلّى قوة اختيار “الضفدع”، فهو ليس مفترساً، ولا ملك الغابة، ولا صورة للقوة بالضرورة، بل صورة للضحالة. الضفدع يعيش على حافة المستنقع، ينتفخ أكثر مما يملك، ويجترّ صوتاً لا يحمل معنى. الضفدع ليس خصماً للطاغية، بل أحد منتجاته. وهو ليس عدواً، بل مرآة تعكس شرط الخضوع. وهذا ما يجعله -كمجاز- أخطر من مجاز الوحش المفترس. في النهاية الضفدع نموذج لانهزام داخلي يجري على مستوى الأعصاب، وليس على مستوى الصراع.
[5] يظهر “الحيوان في التراث العربي كعبرة ورمز، ثم تحول لاحقاً إلى وسيلة لقياس “المنظومة الأخلاقية”؛ فالأسد يرمز للشجاعة، والثعلب للمكر، والجمل للصبر، والذئب للخطر، لتتحول هذه الرموز -أو تنتقل- إلى أدوات لفهم السلطة، أو لتبريرها. فيأخذ الملك شكل الأسد. والمعارض شكل الذئب. والمقهور شكل الحمار، الاستعارة هنا واضحة ومبنية على الصفات “الحيوانية” لكل حيوان، تتسلل إلى العقول دون مساءلة. ونظراً لأن السلطة -عبر التاريخ العربي- لم تكن مجرد مؤسسة، بل “جسد” يملك طباعاً، فسوف يبرز “الحيوان” كوسيط بين الطبع والحكم. وحين يتحدث يونيسكو عن وحيد القرن، فهو يقصد -بطبيعة الحال- صورة الطاغية. إذ تنتقل صفات الخرتيت إلى المستبد فيصبح كائناً ضخماً ومهاباً وضعيف البصر وسريع الغضب. يثير غضبه ذعر الناس، ويجعل ضعف بصره العالم يبدو له تهديداً دائماً. هذه الصفات، حين تنتقل إلى السياسة، تصبح نظاماً.
[6]ظهرت رواية فرانشيسكا بيلينو باللغة الإيطالية في العام 2014 بعنوان Sul corno del rinoceronte . أما الترجمة العربية، فقد صدرن عن دار “منشورات المتوسط” في العام 2020، بعنوان “:على قرن الكركدن” من ترجمة سوسن بو عائشة ومراجعة أحمد الصمعي، حيث أتيحت في البداية كنسخة إلكترونية مجانية لمدة محدودة خلال جائحة كورونا في نيسان 2020، قبل صدور نسختها الورقية في وقت لاحق من العام ذاته.
[7] المفارقة أن الضفدع، من منظور بيولوجي، كائن هش، رخو، بلا أسنان. لكن هشاشته بالضبط هي مصدر خطورته [المجازية طبعاً]. فالصوت العالي لما هو هش وأجوف يجعله طاغياً رمزياً. وهذا يشبه تماماً خطاب الأنظمة التي تعيش على الضجيج والشعارات والمكبرات. لكنها لا تمتلك قوة حقيقية. صوت ضخم مثل قرع طبل يرهب أكثر مما يؤذي. وإذا كان الخرتيت عند يونسكو رمزاً للقوة الغاشمة، فالضفدع السوري رمز للطاعة الطرية، فهو ليس قاتلاً، لكنه يزيّن القتل ويرفع معنويات القاتل، ويخلط بين النجاة والانحلال، وبين السلامة والتشوه. ولكن بينه وبين الإنسان خيط رفيع اسمه الوعي، وإذا كان الضفدع\الحيوان لا يحمل ذاكرة أخلاقية. يفعل ما تدفعه إليه غرائزه، فإن الضفدع\ الإنسان يملك وعياً، لكنه يختار تعطيله. وسيكتشف لاحقاً أن هذه العطالة (أو بالأحرى المعرفة المؤجلة) عي منبع عذاباته الحقيقية، حين يرى كيف شارك في بناء، بل صنع الكارثة دون أن يعترف بارتباطه بها.
Aljarmaq center Aljarmaq center