لا يمكن أن أنسى أبداً ذلك اليوم الربيعي الساحر منذ أكثر من ربع قرن حين كنا – ثلة من طلاب الطب سنة ثالثة ورابعة – نصفق ونغني في باص كبير ونحن في طريقنا إلى صافيتا لزيارة برجها السامق ولنتغدى في مطعم الفوار الشهير قرب بانياس . كانت الرحلة تسمى رحلة جامعية أي بموافقة من عميد كلية الطب وبموافقة أمنية طبعاً، لا زلت أذكر بدقة كل التفاصيل، أحد زملائي كان يغني- يا شجرة الليمون يا عينيا- وآخر يعزف على العود ، وبعض الطالبات يرقصن بين المقاعد، يومها وقفت في وسط الطلاب وأنشدت قصيدة عشرون هلل يا ربيع للصبا، للشاعر أبي سلمى، لأننا كنا في العشرين من عمرنا، وكنا نضحك طوال الوقت، كما لو أننا جئنا إلى الحياة لنضحك، وقررنا أن نتوقف في طرطوس لتناول الفطور ونشرب الشاي والقهوة ، وحين هممنا بصعود الباص لإستئناف الرحلة إلى صافيتا فوجئنا بصعود ثلاثة رجال متجهمي الملامح، وكل منهم يزين خصره بمسدس، وسحبوا ثلاثة شبان من زملائنا بفظاظة وأمروهم أن ينزلوا من الباص، وحين حاولنا فهم ما يجري، صرخ بنا أحدهم بأنهم من الأمن .العشرون هلل يا ربيع تحولت للتو إلى أربعين ابكي يا خريف. تابعنا الرحلة بلا غناء ولا ضحك، والبعض أراد أن نعود إلى اللاذقية، لكن أحد الطلاب المسؤول في اتحاد الطلبة قال أننا يجب أن نتابع. وشعرت وأنا أصعد درجات سلم برج صافيتا اللانهائية أنني أصعد إلى الجحيم، ثم تبين لي أن معظم زملائي شاركوني هذا الشعور .
هذه الحادثة انحفرت كالوشم في ذاكرتي وبقيت أتساءل بسذاجة وبراءة طفل: ما الذنب الذي يمكن لشبان في العشرين أن يكونوا قد ارتكبوه حتى يُسجن كل منهم أربعة عشر عاماً. (الشبان الثلاثة اللذين اعتقلهم الأمن سجن كل منهم أربعة عشر عاماً، اثنان منهما بتهمة الإنتماء إلى رابطة العمل الشيوعي والآخر بتهمة الإنتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين) . كانت تلك الحادثة بمثابة ولادتي الثانية الحقيقية في الحياة، أدركت هول ما نعيشه من ذعر نتنفسه مع الهواء من الأجهزة الأمنية، ولم يمر يوم –حتى الآن– إلا وأستعيد تلك الحادثة، ولا أعرف إن كان أحد ممن سيقرأ كلماتي سيصدقني أنني لا أستطيع أبداً أن أسمع أغنية يا شجرة الليمون يا عينيا. تابعت حياتي التي لا تشبه الحياة كملايين السوريين نتظاهر أنه ماشي الحال وأننا بخير، وكانت عبارات معينة تدخلني بحالة غريبة من الانفعال الأقرب للثورة على الذات أو بتعبير أدق تفجير الذات، فحين قال لنا الأستاذ المُختص بالطب النفسي بأن تعريف الصحة لا يعني غياب الأعراض المرضية، بل الصحة النفسية هي الأساس، وجدتني أدخل في حالة عجيبة من الهياج وأنا أنخطف إلى الباص الذي كان يقلنا إلى صافيتا وأستعيد وجوهنا التي أصبحت كالجص بسبب الذعر من عناصر الأمن. تتالت الأيام والسنوات وكنت أجد نفسي دوماً في مواقف مُهينة ومُذلة، كما لو أن ضريبة العيش في سوريا هي تجرع الذل والإهانة، فحين تم تحويل عقدي مع وزارة الصحة إلى وظيفة تم استدعائي إلى فرع الأمن السياسي رغم أنني كنت أهم بالدخول إلى غرفة العمليات لإجراء عملية ماء زرقاء لعجوز تم تخديره بانتظاري، لكن تأجلت العملية لأن موظفاً من الأمن يأمرني أن أراجع المعلّم، وهناك في غرفة بائسة انتظرت ثلاث ساعات وأنا أجلس على سرير معدني قذر –لم يكن من أثاث غيره– ثم استدعاني الضابط وكنت في حالة مريعة من الغضب والانفعال فصرخت أسأله: لماذا تركتني أنتظر ثلاث ساعات، فرد بابتسامة احتقار: أنا من يحق له أن يسأل وليس أنت. وبدأ يسألني عن صداقاتي وزملائي في الجامعة ومن منهم ينتمي لتنظيم سياسي معادي للبعث، كنت أغلي من الغضب وأستنجد بوجه ابنتي الصغيرة التي كانت في عامها الثالث وأفكر أنه يستحيل أن أسمح لها أن تمر بما أمر به من ذل. كنت ككل سكان اللاذقية لا نتحدث في سهراتنا إلا عن انتهاكات المسؤولين اللذين لا يحاسبهم أحد واللذين جمعوا ثروات طائلة، وكنا نراقب فجور السلطة التي تدفع بأحد هؤلاء أن يأمر مواطناً يمشي في الشارع أن يتكوم في طبونة سيارته ويغلقها تماماً ثم يقود سيارته الهامر أو المرسيدس المُجنحة بأقصى سرعة ويعود إلى النقطة ذاتها ليخرج المواطن من القفص وهو يقهقه متأملاً وجوه الناس الذاهلة وشفاههم التي ألصقها صمغ الخوف، ولا تزال هذه الممارسات قائمة حتى الآن من عام 2013 لكن يقوم بها أولادهم وأحفادهم، كما لو أن هناك جينة وراثية لهوى السلطة وإذلال الناس، حاولت أن أعوض عن حياتنا الذليلة بالكتابة، وأعترف أنني كنتُ أتوارى وراء الكلمات فأكتب عن لصوص دون أسماء وعن مدن دون جغرافيا، كما في قصة القسم وسهرة استثنائية التي لم يبق أحد –خاصة من سكان اللاذقية– إلا وحزر الأبطال، كانت المُواربة فن قائم بذاته، واكتشفت متعة أن توصل فكرة بكلمات غير مباشرة، لكن حالة الذعر من الأجهزة الأمنية وفوبيا الاعتقال ظلت تلازمني كملايين السوريين، وكنت ُ أتخيل أن التهمة تسقط علي وأنا أسير كما تسقط نقطة ماء من مُكيف، تُهم من نوع المس بهيبة الدولة، أو إضعاف الشعور القومي لـ 23 مليون سوري! أو غيرها من العبارات الخُلبية، لكن بدأت أعي التغيير ليس في ذاتي وكتابتي بل لدى الناس جميعاً، إذ صاروا يتجرؤون ويحدقون في وجه خوفهم ويمدوا له لسانهم هازئين، لم يعد أحد يخاف من الأجهزة الأمنية كالسابق، ليس لأن بطشها وسطوتها تضاءل، بل لأن الناس كرهت خوفها واحتقرته، وشعرت أن عيشاً يهيمن عليه الخوف هو عيش لا يستحق أن يُسمى حياة، وأن الحياة ليست تراكم زمن بل تألق وفرح، ولا فرح حقيقي دون الإحساس بالكرامة، أذكر منذ أشهر حين اتصل بي المدير في المشفى الحكومي وطلب مني أن آتي إلى مكتبه، وسألته خير، ما الأمر؟ فقال: تعالي ولم يضف أي كلمة أخرى، فتركت عشرات أحبائي المرضى النازحين ينتظرون واعتقدت أن ثمة أمر مهم يريد أن يحدثني به، لكن لما دخلت مكتبه وجدت ضابطاً في أمن الدولة، وطلب مني المدير أن أفحصه لأن نظارته تزعجه! فسألته : ألهذا السبب استدعيتني؟ فقال: أجل، وسوف يذهب معك الآن لتفحصيه. وكم أسعدني أنني انفجرت كقنبلة موقوته منذ ربع قرن ولا أذكر بدقة ما قلته لكنني لا أنسى تعبير الفزع والدهشة في عينيهما، المدير والضابط.
لم يعد بإمكاني ولا بإمكان أي مواطن سوري أن يتحمل أشكال وتنويعات الذل، ما معنى أن يُشحط طبيب من عمله ليأتي كالعبد يقف أمام رئيسه الذي هو عبد للأجهزة الأمنية. قد تكون رحلة درب الآلام لا تطاق بالنسبة للسوريين، وقد يكون ثمن تحطم حاجز الخوف باهظاً، وقد تكون أخطاء فظيعة ارتُكبت بحق الشعب السوري الذي يريده الجميع كبش فداء للدول العظمى وهي عظمى حقاً في انحطاطها الأخلاقي، وبعض الدول العربية التي لا تمانع المتاجرة بالدم السوري، بالتأكيد الشعب السوري يعيش بين مطرقة النظام وسندان المعارضة التي ثبت أن جزءً كبيراً منها لا يهمه الشعب السوري بل يهمه إسقاط النظام حتى آخر قطرة دم سوري !! ما عدا دماءهم طبعاً لآنهم يقبضون ويعيشون ترفاً خيالياً، ويتشدقون على الشاشات بمعاناة السوريين.
ولكني كلّي ثقة بأنه رغم هذا الجحيم السوري ليومي ورغم أن الشعب السوري أعزل في مواجهة مأساته، لابد أن فجراً جديداً سيولد، أو ربما وُلد، فعلاً، في قلوب السوريين وأرواحهم، وأنه لم يعد بإمكان أيه قوة في العالم مهما امتلكت أسلحة فتاكة ومهما هددت وتوعدت أن تعيد مارد الحرية والكرامة إلى القمقم، في آذار 2011 حين بدأت الثورة السورية الحقيقية وحين وقفت ككثيرين نتفرج على حريق مبنى مكاتب شركة “سيرياتل” في ساحة الشيخ ضاهر، وحين كنا نسمع صوت الرصاص يلعلع تعقبه رائحة البارود الحريفة الخاصة، كنتُ أصعق إذ أشم رائحة زهر الليمون كما لو أنها تتحدى الرصاص. رائحة الربيع يعبق بشذى الليمون علمتني ما يعجز كل فلاسفة العالم وعلمائه أن يعلمونني إياه، وهي أن لا شيء قادر على اعتقال الحرية حين تتفجر في قلوب الناس ، لأن الحرية والكرامة كالهواء والماء لا يمكن اعتقالهما .
أنا، في قلب وطن ينزف، ألتقي باستمرار أصدقائي الرائعين اللذين هم نخب ثقافية وفكرية ووطنية، وكل منهم سٌجن على الأقل بين 8 إلى 20 عاماً !!وكلهم خرجوا موسوعة في الثقافة وبعضهم من أهم المُترجمين والمفكرين في العالم العربي. هؤلاء الأصدقاء الرائعين أحس دوماً أنهم سُجنوا نيابة عنا، وأنهم دفعوا الضريبة الباهظة نيابة عنا، وأكثر ما يذهلني أنهم غير حاقدين على جلاديهم لأنهم لا يريدون أن يعكروا صفاء أرواحهم بالأحقاد.
أصدقائي الرائعين سيكونون كالخميرة تؤثر وتبدل، لنعيد إعمار سوريا بعد مخاض عسير. وربما سنتمكن ذات يوم قريب أن نغني أغنية –يا شجرة الليمون يا عينيا–
يا رائحة زهر الليمون التي تتحدى رائحة البارود .