صدقاً لا أعرف مفهوم الحكومة السورية عن مفهوم – تلقي الأموال من الخارج – ! فأكثر من نصف السوريين في الداخل السوري يتلقون من أولادهم أو أقاربهم أموالاً من الخارج أي حوالات مصرفية ، تعينهم على العيش وإلا يموتون من الجوع . أصبح سعر صرف اليورو 9600 ليرة سورية ، وأصبح الراتب يعادل تماماً سعر كيلو لحم خروف . وأنا أعرف شخصياً مواطنين سوريين تم سجنهما ( أحدهم لا يزال في السجن ) بتهمة تلقي أموالاً من الخارج . وسأحكي بنزاهة تامة قصة الصديقين :
*في مدينة هولندية حيث كنت عام 2020 سألقي محاضرة بعنوان ( أفقأ عين الخوف ) وكان الحضور كبيراً من سوريين وليبيين وعراقيين الخ إضافة إلى الكثير من الهولنديين المهتمين بالمأساة السورية . اقترحت صديقتي السورية أن نتصل بشابة مصفّفة للشعر قبل المحاضرة ، وجاءت امرأة غير متزوجة في منتصف الأربعينات من عمرها محجبة لتصفف شعري ، كانت لطيفة جداً ورفضت أن تأخذ أجرتها قالت أنها سعيدة جداً أنني إبنه وطنها ، وطلبت مني بارتباك إن كان بالإمكان أن نلتقي ، وعدتها أنني سأزورها في بيتها ( هو شقة جميلة بسيطة قدمتها لها الحكومة الهولندية ) . حين زرتها تفاجأت كم حضرت مأكولات شهية . كانت بحاجة أن تبوح ما في روحها من عذاب يفوق قدرتها على التحمل ، وقالت أنها قرأت لي قصصاً قصيرة وأنها كانت تجد نفسها في بعض القصص . أخبرتني أنها من حلب الشهباء لم تكمل تعليمها بل وصلت إلى الشهادة الإعدادية فقط ، وأنها الكبرى بين خمسة إخوة عليها أن تعيلهم لأن والدها مريض بداء السكري وقد تم بتر رجله اليمين بسبب داء السكري ، واضطرت أن تعمل عند كوافيرة نسائية في حي شعبي ، لكن بعد اندلاع الثورة السورية توقفت عن العمل لأن الكوافيرة أغلقت محلها ، حكت لي أن عمها رجل كريم جداً وخلوق وهو يعيش في السويد منذ ثلاثين عاماً لذا صار يُرسل لها ولأسرتها حوالات مالية كل شهر أو شهرين كي لا يموتوا من الجوع ، وكانت هي من تستلم الحوالات المالية ( الآتية من السويد أي من عمها ) إذ كان يُرسل الحوالات باسمها ، كانت تلك المرأة على درجة عالية من التفاني في المحبة والعطاء ولا تفقه شيئاً في السياسة ، كانت تسكن في حي فقير مع أٍسرتها . فوجئت ذات يوم أن عدة عناصر من المخابرات يسألون عنها في الحي ، وتم اعتقالها وسط ذهول الجيران والمعارف وتساءل الجميع : ترى ما تهمتها !!! التهمة التي وُجهت لها في أحد الأجهزة الأمنية في حلب التي اعتقلتها أنها ( تتلقى أموالاً من الخارج ) ، وأقسمت أن عمها الذي يعيش في السويد منذ أكثر من ثلاثين عاماً هو من يُرسل المال لأسرتها كي لا يموتوا من الجوع ، وأنه يُرسل تلك الحوالات باسمها لأنها أكبر إخوتها ولأنها تُدبر شؤون أسرتها ، تم سجنها خمسة أشهر مع التعذيب واتهامها أنها تعطي المال لعائلات إرهابية . أدين لها بالكثير من التقدير والمحبة وأنحني احتراماً لها حين أمسكت يدي وقالت تعرضت خمس مرات للاغتصاب في السجن وقالت كنت عذراء وأحلم أن أهدي عذريتي لرجل أحبه وسأتزوجه . بعد خروجها من الاعتقال تمكنت بمساعدة معارف من اللجوء إلى هولندا ، عاشت أشهراً في هولندا تبتلع دواء منوماً ودواء آخر لتهدئة أعصابها وتقرأ في القرآن وتصيبها نوب من الهستيريا حيث تدخل في حالة هياج فتصرخ وتضرب نفسها ،وأحياناً تصير كالجثة تبقى أياماً في سريرها تبتلع الأدوية إياها . وذات يوم سقطت في الطريق وتم نقلها إلى المشفى وطبعاً خضعت لفحوص طبية دقيقة وتبين أن سبب فقدانها الوعي وسقوطها في الشارع هو زيادة جرعة الأدوية المنومة والمهدئة ، إذ كانت تزيد الجرعة عسى أن تُسكن آلام روحها . فيما بعد خضعت لجلسات علاج نفسي في هولندا واستطاعت أن تؤمن دخلاً معقولاً من عملها في تصفيف الشعر لسيدات عربيات وهولنديات . وقالت لي أنها فكرت مراراً بالانتحار لكنها كانت تحتضن القرآن وتطلب من رب العالمين مساعدتها .
**الصديق الآخر المسجون حالياً بتهمة تلقي أموالاً من الخارج هو رجل غني ومؤمن لدرجة صرف معظم ثروته على الأطفال المتسولين في اللاذقية ، وهو شخصية مرموقة مثقف ومبدع في مجالات كثيرة خاصة الفيزياء والموسيقى ، ويهدي كل وقته للأطفال المتسولين ويعود له الفضل أنه تكفل بمصاريف أربعين طفلاً كانوا يتسولون في شوارع اللاذقية ويشمون مادة الشعلة ( هي مادة لاصقة للأحذية لكنها تسبب تلفاً في خلايا الدماغ غير قابل للعلاج ) ، كان قد كتب على صفحته على الفيس أنه لا يجوز تعذيب الأطفال أثناء التحقيق معهم في فروع الأمن أو مخافر الشرطة وأن سوريا هي من الدول التي وقعت على قانون ( منع تعذيب الأطفال ) اعتبر كلامه إهانة لوزارة الداخلية !!! لكنه لا يزال في السجن الآن بتهمة جديدة هي أنه ( يتلقى أموالاً من الخارج ) !!! يا للذهول !! كان الكثيرون من أقاربه وأصدقائه يُرسلون له مبالغ مالية بسيطة ( لا تزيد عن 200 إلى 300 يورو ) ويطلبون منه بحكم الثقة والصداقة أن يعطي تلك الأموال لعائلات معينة تعيش فقراً هو قمة الذل . وكان هو ( مسيح اللاذقية ) يقوم بإعطاء المال للعائلات التي طلب منه أصدقاؤه مساعدتها ، ولأنه شخصية مرموقة ونزيهة وأهل للثقة ولأنه مبدع وإنساني كان الكثير من المعارف في الخارج يتصلون به ويقولون له سنرسل لك مبالغ مالية عن طريق معارف مسافرين إلى سوريا ونرجو منك إعطاء المال لتلك الأسر التي تربطنا بها قرابه أو محبة . لكن الأجهزة الأمنية التي سجنته بتهمة ( الإساءة لوزارة الداخلية ) احتفظت بهاتفه الخليوي وفتشت بدقة في الاتصالات التي يتلقاها وبأن تهمة ( تلقي الأموال من الخارج ) هبطت عليه كالصاعقة ، ويا لها من تهمة خطيرة جداً ، والتهمة في سوريا تهبط على صاحبها أو تُفصل له كما يُفصل قميص ، لكن أتساءل بكل بساطة : أليس أكثر من نصف الشعب السوري يتلقى أموالاً من الخارج !! من أقارب أو أبناء ، ألا نرى مكاتب الصرافة تغص بالمئات من السوريين يقضون يومهم كله بانتظار قبض مبلغ من ابن أو إبنه أو قريب ، وقد يضطر الكثيرون إلى العودة في اليوم التالي أو الذي بعده ليستلم المبلغ الذي لولا أنه مُرسل له من الخارج لمات وأولاده من الجوع !
-صدقاً هذه التهمة الخُلبية ( تلقي الأموال من الخارج ) تترك في نفسي نفس الإنطباع المُبهم الخُلبي ( مس هيبة الدولة ) !!!! كيف يُمكن المس بهيبة الدولة !!! صدقاً أحتاج إلى أمثلة ملموسة . سوريا المُقسمة المُنتهكة التي يسرح فيها عدة إحتلالات ، سوريا التي لم تعد موحدة ويمتص ثرواتها الكثير من أصدقاء الشعب السوري ، سوريا التي نزح أكثر من نصف سكانها ويعيشون في مخيمات اللجوء أو إنتشروا في أصقاع الأرض ، أو ماتوا غرقاً في قوارب الموت ، سوريا التي إنتحر الكثير من شبانها وشاباتها أو أدمنوا على الكابتاغون ، سوريا التي معظم أطفالها مصابين بأمراض الجوع وسوء التغذية ، وأصبحوا ناقصي النمو جسدياً وعقلياً . سوريا الغارقة في العتمة حيث في أحسن الأحوال تأتي الكهرباء نصف ساعة كل ست ساعات ، سوريا التي تعاني من شح الماء ، والتي يرزح أبناؤها تحت وطأة شلة من الفاسدين – أثرياء الحرب – يذيقون السوريين تنويعات الذل ، سوريا التي لا يجرؤ أحد إن كتب لى صفحته ( آه على عيشة الذل ) تهبط عليه تهمة جريمة إلكترونية ، أمام كل ما ذكرت عن الوضع السوري ، عن وطني المُنتهك ( سوريا ) كيف يُمكن وهي بهذه الحال – المس بهيبتها – !!!! تساؤل يدفع للجنون .
-تُهم من نوع ( المس بهيبة الدولة ) أو تهمة ( تلقي الأموال من الخارج ) هي تُهم خُلبية ، هي إرادة حديدية بخنق أي تطلع إلى الحرية والكرامة من قبل الأجهزة الأمنية . هي مجرد يافطات لا معنى لها لزج من يُريد ضابط الأمن أن يسجنه . عبارات كثيرة في سوريا كنت أتأملها بسخرية مثل عبارة ( غرفة دعم القرار ) هي عبارة مكتوبة على لافته كبيرة جداً في المشفى الوطني في اللاذقية ، حيث يعمل في تلك الغرفة الواسعة جداً حوالي خمسة عشرة مهندساً ومهندسة ، وقد سألتهم كلهم أن يشرحوا لي ما معنى عبارة ( غرفة دعم القرار ) !!وما هو هذا القرار !! وكل الإجابات : لا نعرف . أسأل : طيب كيف سندعم قراراً لا نعرفه ؟! والجواب لا نعرف . عبارات تذكرني بأدب العظيم كافكا خاصة في روايتيه المسخ والمحاكمة . حيث يضطر الموظف أن يردد عبارات لا يفهمها ويقوم بأعمال لا يعرف الغاية منها وهل هي أعمال أم أنها وسيلة أو طريقة خبيثة لهدر الحياة والوجود الإنساني .
-الوضع في سوريا المنتهكة وتلك التُهم الخُلبية تفوقت على مسرح اللامعقول وعلى مسرح اللامقول للعظيم توفيق الحكيم الذي بدأ إحدى مسرحياته : يا طالع الشجرة – هات لي معك بقرة – تحلب وتسقيني بالملعقة الصيني .