منذ أربع سنوات زرت صديق من دمشق – كان أستاذاً جامعياً في جامعة دمشق – ثم سافر إلى باريس لأن ابنتيه تسكنان باريس ، بعد أن تدمر بيته في دمشق بسبب القصف والحرب وكان شاهداً على موت الكثير من الأحبة والجيران حيث يسكن ، قرر أن ينتقل وزوجته ليسكنا في باريس ، دعاني صديقي وزوجته لزيارتهما في بيتهما الذي خصصته لهما الحكومة الفرنسية بإيجار قليل ، وأحسست أنني بدأت الرحلة لزيارته في بيته في باريس ، لم أتوقع أنني سأبقى ساعة في الباص ، وبدأت باريس تفقد سحرها وعراقتها ، إذ وجدت نفسي بعد ثلاثة أرباع الساعة من رحلتي لزيارة صديقي أمام بنايات عملاقة تخلو من أيه مسحة جمالية ، وعلى مد نظري كنت أبحث عن صورة ( حتى لو كانت دعاية لمنتج غذائي ) أو عن تمثال ، لكنني لم أجد سوى الإسمنت ، كتل عملاقة من الإسمنت أحسستها تطبق على صدري كالجدار ، وخفت أن أكون تائهة فسألت السائق لأتأكد منه إن كنت في الطريق الصحيح ، فأكد لي أنني في الطريق الصحيح ، استغرقت الرحلة ساعة وعشر دقائق ، وكان صديقي بانتظاري ، أخذت أتلفت حولي أتأمل قبح المكان حيث لا توجد حتى مقاهي رصيف ولا حديقة ، وشعرت بخيبة وأنا أقول : أين سحر باريس وعراقتها ؟ المهزلة أن بيت صديقي كان في آخر شارع ترابي ، شارع ضيق تُرابي صاعد ، كأنني في ريف مُهمل ، ومشينا ربع ساعة في الطريق الترابي وأنا ألهث لأن الهواء كان يصفع وجهي بالغبار والتراب وأخيراً وصلنا إلى بناية عملاقة : أكثر من عشرين طابق وفي كل طابق عشرة شقق صغيرة ، البناء العملاق أشبه بسجن لأنني حين مررت في الرواق الذي يوصلني إلى شقة صديقي وزوجته لاحظت كومة من أردأ أنواع الأحذية والشحاحيط البلاستيكية متكومة أمام كل باب أسود ضيق ، وسمعت صراخ أطفال وضجيج . كان بيت صديقي عبارة عن مساحة ضيقة جداً تتسع لصوفا عتيقة تتحول إلى سرير ، أي لا وجود لغرفة نوم ، وكان المطبخ تابعاً للصالون الضيق ( الذي سميته صالون الأريكة ) تتكوم فيه الأغراض من طعام وصحون ، أما الحمام المُلحق بالصالون فكان بحالة مزرية من الرطوبة والعفن وضيق بالكاد يتسع لشخص . وكان حديثنا مُفعم بالأسى والحزن وصديقي يحكي عن بيته في دمشق كم كان أنيقاً ومتعدد الغرف ـ قال لي : مكتبتي وحدها كانت بمساحة هذا البيت البائس . لكنه تحول إلى ركام . كان ثمة مطعم كبير مخصص للكبار في السن يٌقدم لهم وجبة غداء الساعة الواحدة والنصف ظهراً ، وعلى كل من يرتاد المطعم أن يدفع يورو ونصف اليورو ثمن الوجبة ( الغداء ) رافقت صديقي وزوجته إلى المطعم ولفحتني رائحة كريهة ، والطعام لا يؤكل ( قطعة لحم وبطاطا أو رز ) ، وكان المطعم الواسع يغص بالناس كلهم كهول ، يأكلون تلك العصيدة الغثة مرتاحين أنهم تناولوا وجبة غداء بيورو ونصف اليورو فقط . سألت صديقي : لماذا لا تقدمون طلباً للحكومة الفرنسية كي تُعبد الطريق الترابي !! وأيضاً لتحسين نوع الطعام . ضحك وقال : لا أحد يبالي بنا .
سأحكي عن ضاحية ثانية زرتها في باريس ، كنت أبحث ن خزانه من الخشب متوسطة الحجم وكل معارفي قالوا لي اذهبي إلى محلات ( إيمايوس emaus ) وهي محلات يتبرع فيها الناس بكل ما يخطر بالبال ومحلات ( إيمايوس ) منتشرة في كل فرنسا ، حتى أحصل على الخزانة كان علي أن أذهب إلى المركز الرئيسي لإيمايوس في باريس حيث هناك صالة كبيرة جداً لمختلف أنواع المفروشات ومعظمها بحالة جيدة ، وتكرر المشهد ذاته بنايات عملاقة من الإسمنت ، لا توجد مسحة جمالية اطلاقاً ، وجدت مقهى وحيد يقدم القهوة فقط ، وبعد أن تجولت في المكان وجدت محلاً يزدحم فيه الشباب يدخنون الأركيلة . وفي طريق العودة وأنا أنتظر الباص كنت أتأمل تلك الأبنية العملاقة ( أكثر من عشرين طابقا ًوكل طابق العديد من الشقق ) قرب موقف الباص ثمة دكان وحيدة تبيع أنواعاً من الخضار والفاكهة الذابلة والبياعة امرأة ، رغبت أن أتحدث إليها وادعيت أنني أرغب بشراء بعض الفاكهة والخضار ، قالت لي ببرود :على يمينك صناديق لفاكهة وخضار طازجة ، وعلى يسارك صناديق لخضار وفاكهة مهترئة لكن لها زبائنها وعرفت أنها من بلد عربي افريقي وزوجها يعمل عامل في البناء وأن لديها خمسة أولاد .
أحببت أن أصف ضواحي باريس لأن قتل الشاب المراهق نائل ( 17 سنة ) قتلاً عمداً من قبل شرطي فرنسي ( يخضع الآن للاستجواب ) أعاد إلى ذاكرتي الوضع شديد البؤس لضواحي باريس ، فنائل المراهق يقود سيارة مع أنه لم يبلغ العمر لقيادة سيارة ، ولا يمتثل لأمر الشرطة بالتوقف عن القيادة ( بالتأكيد قتل نائل جريمة والشرطي مجرم ) . لكن من الواضح أن نائل لم يتلقى تربية تعلمه احترام القوانين ، فثمة أزمة ثقة بين المواطن والحكومة ( المتمثلة بالشرطة ) ووالد نائل يسمح له أن يقود سيارة وهو يعرف أن القانون الفرنسي لا يسمح بذلك قبل سن الرشد . أزمة الثقة بين النازجين ( الفقراء ) وبين الحكومة خطيرة ، فهي كالجمر تحت الرماد ، وما شهدناه من غضب عارم ومظاهرات احتجاجية تحمل لافتات ( الشرطة تقتل ) دليل على احتقان مزمن في نفوس سكان الضواحي الذين يُعانون من الإهمال ويُقارنون وضعهم مع الفرنسين الذين يسكنون مناطق جميلة تزينها الحدائق والمتاحف والمقاهي ، معظم سكان الضواحي فقراء يعملون كعمال تنظيفات أو في ترميم الشوارع أي في البُنى التحتية والكثير من أولاد سكان الضواحي لا يرتادون المدارس بل يفضلون العمل في مطاعم أو سائقي تاكسي ويبقى قسم كبير منهم بحالة بطالة ، والبطالة أم الرذائل . وأحب أن أشارككم بقصة شخصية تعرضت لها ، فأنا أسكن في منطقة شارنتون في باريس بيتي طابق أرضي يطل على حديقة ، وأكثر ما أحب في بيتي النافذة العريضة في الصالون ( أسميها نافذتي على العالم ) . وغالباً ما أشرب بيرة مساء وأنا أتفرج على التلفزيون أو أدخن أركيلة ، منذ ستة أشهر وقف عند نافذتي مجموعة من المُراهقين ( معظمهم من دول افريقية ) وكانت نظراتهم تقدح كراهية وأخذوا يشتمونني بشتائم مُروعة بقذارتها وأحدهم قال : سيحرقك الله في نار جهنم . هددتهم أنني سأتصل بالشرطة فسخروا من كلامي ، تكرر الأمر بشكل أكثر حدة وخطورة إذ أصبحوا يرمون القمامة في صالون بيتي ويرمون زجاجات ماء قذرة في بيتي ويضربون النافذة ليلاً ضرباً وحشياً بالكرة ، اضطررت أن أقدم شكوى لشرطة شارنتون الذين وعدوني أنهم سيبذلون كل جهدهم لمعرفة هؤلاء الزعران ، وأعطوني رقم هاتف إسعافي يُجيب للتو حالما أتعرض لاعتداء من قبل شلة المراهقين ( كنت أتمنى لو تجمعني بهم صداقة ) وأخيراً كنت أقف عند النافذة في بيتي أتأمل جمال الزهور المزروعة في حوض حول البناية التي أسكنها صُعقت بحجر يفج جبيني أتى من الحديقة ولم أعي ما حصل إلا حين بدأ الدم يغطي وجهي ويدخل عيني ، تمكن أحد الرجال من سكان البناية أن يصور المراهقين كيف اقتلعا بلاطة من عمود الكهرباء ودخلوا الحديقة وكسروا البلاطة شقفاً ورموني بها . كان من الممكن أن تنقلع عيني . وأيضاً ذهبت في اليوم التالي إلى المركز الرئيسي للشرطة وقدمت لهم صور المراهقين المؤذيين ، وفعلا التقطوا صوراً لوجهي وجبيني المجروح والمتورم . وكالعادة أعطوني رقماً لأتصل بالشرطة عند تعرضي لأذى . فقلت لهم : لكن أكون قد تعرضت للأذى فأية فائدة من الاتصال بالشرطة ، وتذكرت المجرم الذي كان في سوابقه عدة جرائم جنائية ، حين أطلقوا سراحه وضعوا اسوارة في يده تُمكنهم من معرفة مكانه وتحركاته لكنه ذبح الكاهن الطيب . يا سلام على إسواره التعقب !!!
ما آلمني أن هؤلاء المراهقين المتنمرين المُشبعين بالحقد والكراهية والإحساس بالنبذ الاجتماعي ، كانت شتائمهم الفاحشة لي باللغة العربية ، أي أنهم تعلموها من البيت من الأب الذي على الأغلب يضرب الأم والأولاد ويشتم ، أو ربما من الأم . أي أن جذر المشكلة هي في الآباء ، بيئة البيت والأفكار الكارهة للآخر والإحساس بعدم الإندماج والنبذ . عدم الإندماج في المجتمع مشكلة بالغة الخطورة ، لأنها كالشرخ في نسيج اجتماعي يُفترض أن يكون مُعافى وأن يتقبل كل طرف الآخر ويحترم دينة وطريقة حياته ، لكن سكان الضواحي مُهمشين ، لا توجد جهات حكومية أو غير حكومية تزور تلك المناطق وتحكي مع السكان وتتأكد من ارتياد أولادهم إلى المدرسة ؟ وما الدروس التي يتلقونها في المدارس ؟ وأيه أفكار كارهة للآخر يدسها الأهل في عقل أولادهم من عمر الطفولة ، لأن الأهل ( الآباء والأمهات ) يشرون بالتهميش والظلم ، كم يؤلمني منظر نساء بائسات في عمر الكهولة يجلسن على الأرض ساعات طويلة خاصة عند مداخل الميترو ليبعن زجاجات صغيرة من البلاستيك فيها حبوب الفستق السوداني أو أنواع عصير . نساء منظرهن يفطر القلب يليق بكرامتهن الإنسانية أن يعشن بكرامة في بيت آمن ، لا أن يقضين كل نهارهن مفترشات الأرض عند مداخل المترو حيث الازدحام على أشده .
أخيراً أحب أن أذكر أن – للأسف – بعض المثقفين ( أخص العرب ) يلومون إن لم أقل يتهمن النساء المحجبات بالتخلف لأنهن يضعن الحجاب في أوروبا . أحد أهم المثقفين كتب على صفحته على فيس بوك : أنا لا أقبل إطلاقاً صداقة فتاة محجبة !!!
هذه الأفكار تزيد من أحساس المسلمين خاصة بالنبذ والكراهية ، وتجعل الإندماج مستحيلاً . وسيكون الثمن الذي تدفعه فرنسا والغرب بشكل عام باهظاً جداً .