أفكار منتصف النهار (34) ثورة الأمهات السوريات الثكالى

في 21 من آذار 2015 سوف تُدشن ثورة سورية حقيقية تدخل عامها الخامس ، أو يمكن القول سوف يُصحح مسار الثورة التي انسرقت وخُطفت وانحرفت عن أهدافها الحقيقية ، وستكون ثورة نسائية بامتياز ، ثورة لن تجد فيها رجلا” واحدا” ( حتى طفلا” ذكرا” ) . في الصباح الباكر من عيد الأم في سوريا سوف تنطلق جحافل الأمهات الثكالى والعاشقات ذوات القلوب المحترقة بنار اللوعة من فقدان أحبائهم ، وستكون اللافتات التي تحملنها كل النساء السوريات المتنوعات المصائب لافته واحدة ، عبارة واحدة موحدة ، لم يسبق أن كتبها أحد أو صدحت بها الحناجر طوال السنوات الأربع ، لن تكون عبارة ( نريد إسقاط النظام ) ولا عبارة ( الائتلاف يمثلنا أو لا يمثلنا ) ولن تكون عبارة ( يا الله ما إلنا غيرك يا الله ) ستكون لافته وحيدة مكتوب عليها بحبر لامع شفاف هو صمغ الدمع : نريد أولادنا . نريد أولادنا الشبان الذين ماتوا تحت التعذيب في المعتقلات أو كشهداء في الجيش العربي السوري أو غرقا” في البحر وهم يهجون من بلد الموت . ستدشن ثورة نسائية حقيقية في عيد الأم في سوريا . وستكون مسيرة عظيمة لا يمكن حصر عدد النساء المُشاركات فيها ، ستكون أشبه بالبحر الشاسع الذي لا يستطيع أحد اعتقاله والحد من مداه ، وستكون ثورة صامته لا يُسمع فيها إلا صوت الأنفاس المحترقة بالألم للأمهات الثكالى والعاشقات محترقات القلوب على عشاقهن ،وستجمع الأمهات الثكالى في ثورتهن الصامتة أن الهتافات لا تجدي إذ لا توجد كلمات تُعبر عن عمق آلامهن ، وذلك لأن اللغة تنهار حين يموت فلذه كبد الأم . أيه كلمات يمكنها أن ترقى لألم أم مات ابنها ، وتجد نفسها صباح عيد الأم مضطرة أن تحمل وردة وتضعها على ضريح ابنها بدل أن يقدم لها ( ابنها ) وردة ويقبل جبهتها ويديها ويشكرها على تعبها وحبها له ، وعلى سهرها الليالي للعناية به مريضا” وصحيحا” ، في سوريا تنقلب الأدوار ويصبح عيد الأم معكوسا” كمن يمشي على رأسه ويصبح العيد ثورة أمهات صامتات يحملن لافته مكتوب عليها نريد أولادنا ، نريد أن ننبش القبور التي تضم جثثهم المخردقة بالرصاص ، أو بقايا من أجسادهم ، أو لا تضم شيئا” إذ ثمة قبور فارغة ، وثمة توابيت سلمت للأهل وفي داخلها حصى وحجارة ، وستكون المآسي غنية التنويع ، فالكثير من الأمهات الثكالى لم يحصلن على جثث أولادهن ، كأن أولادهن تبخروا وصاروا بخورا” ، ستتذكر إحدى الأمهات أنها حين رافقت زوجها إلى المٌعتقل لاستلام جثة ابنها الذي مات تحت التعذيب أن الضابط قال لها : نحن دفناه . فصرخت أريد جثته . وأخرسها بكلمة ، ذكرها أن لديها أولاد آخرين فخرست وعادت بلا جثة ، وحسدت زميلاتها اللاتي استلمن جثث أبنائهن ، صارت الرفاهية في سوريا وصارت الأم المحظوظة هي من تستلم جثة ابنها . يا لروعة اللغة العربية التي تتماشى مع الحدث ، إذ يُصبح تعريف الرفاهية : هو استلام الجثة ، أو الموت موتا” طبيعيا” . وسوف تتذكر إحدى الأمهات وهي تحمل لافته ( نريد أولادنا ) أن المحقق عرض أمامها على شاشة الكمبيوتر مئات الصور لشبان ماتوا تحت التعذيب لكن أجمع المحققون أنهم ماتوا بالسكتة القلبية ، وستتذكر كيف لم تستطع تمييز وجه ابنها من بين مئات الوجوه المتورمة والمشوهة من التعذيب ، ستتذكر سخرية المحقق من ذهولها وكيف سألها شامتا” وساخرا” : عجبا” ألا تتعرفين على ابنك ، كانت تسكن ذهول الألم حيث لا يعود باستطاعة العقل ولا القلب تحمل ألما” يفوق قدرة البشري ، فوجدت نفسها تتصل بابنتها وتسألها هل من علامة فارقة في وجه أخيك الذي مات في المعتقل ، فذكرتها ابنتها أن علامته الفارقة هي حاجباه المُقفلان المتصلان ببعضهما ، وبحثت في شريط الوجوه المنتفخة والمشوهة تحت التعذيب عن حاجبان مقفلان ، وصفقت مجنونة من ذهول الأم حين وجدت وجها” بعين وحيدة وقد تحولت العين الأخرى إلى ندبه وثمة فجوة في الخد تتسع لثمرة برتقال ، وفي فوضى حواسها تذكرت ولع ابنها بتسلق أشجار البرتقال وقطف الثمار ، وكيف كان يقول بأن أشجار البرتقال تشبه أشجار عيد الميلاد المزينة بالكرات الملونة .

سوف يُصحح مسار الثورة السورية يوم عيد الأم وسيكون مد المظاهرة كمد أمواج بحر غاضب ، لن يتمكن أحد من إطلاق النار على تلك المظاهرة ، لأن أجساد الأمهات الثكالى مضادات للرصاص ولشظايا الصواريخ والبراميل المتفجرة ، لأن قلب الأم حين يموت ويتنخر من الألم لا يعود لجسدها وجودا” مستقلا” ، يُصبح مجرد هيكل ، وتتحول هي إلى مجرد قلب متورم من الألم كتورم جثة ابنها ، ومطعون بحربة ، سيهب إعصار في أول يوم من أيام الربيع في سوريا الذي هو عيد الأم وستجحظ العيون وهي تتفرج على آلاف الأمهات الثكالى ينزعن صور أولادهن ( الشهداء الأبطال ) عن الجدران ، آلاف آلاف الجنود السوريين قتلوا ، ماتوا دون قرار منهم ، كانوا يريدون الحياة ولدى كل منهم حبيبة يأمل أن يزف لها وأن ينتشي بزغاريد النسوة حين يسمع صوت بكاء إبنه البكر ، آلاف شهداء الجيش السوري تحولوا إلى أوراق نعي وتحتها عبارة الشهيد البطل . صور هؤلاء الذين في ربيعهم الثاني يحملون بندقية كما لو أنهم يُزفون لها ، في عرس جماعي ينتهي بمجازر وآلاف القتلى ، وستتقدم المظاهرة أم ماهر ، المرأة الرمز التي أراد الله أن يمتحنها أكثر مم امتحن أيوب ، أم ماهر كانت تعمل خادمة في البيوت تنظفها من أنانية قاطنيها ، تداري آلام الروماتيزم والركبتين من أجل إطعام أولادها ودفع تكاليف تعليمهم ، لديها ثلاثة شبان بأعمار متقاربة ، ماتوا جميعهم وتحولوا إلى شهداء أبطال يرفعون بندقيتهم إلى السماء ، أم ما هر لم تقتل نفسها ولم تنتحر لأنها تقول أن أولادها الشهداء كلما قررت الانتحار يبكون ، يتحلقون حولها ثالوثا” مُقدسا” ويقولون لها لا تقتلي نفسك دعينا نتأملك من فوق ، من سمائنا القصية ، دعينا نستعيد ذكريات طفولتنا وغرامنا الخجول بابنة الجيران وأنت تخبزين الخبز في التنور وقلوبنا متوهجة من الغرام كنار التنور وأنت تتظاهرين أنك لا تلاحظين شيئا” ، أم ماهر تقول أن أولادها الشهداء يمنعونها من قتل نفسها ، أم ما هر تجاوزت مرحلة الألم البشري ودخلت نفق الذهول حيث فرويد ويونغ عاجزان عن تفسير هكذا ألم .

من الصباح الباكر ليوم 21 آذار عيد الأم ، ستنطلق مظاهرة نسائية هي تصحيح لمسار الثورة السورية ، وستكون الأمهات الثكالى ( اللاتي الجنة تحت أقدامهن ) رائداتها ، وسيحملن شعارا” واحدا” مكتوب بصمغ الدمع ( نريد أولادنا ) أعيدوهم لنا من أقبية الأمن ومن قاع البحار ومن أرض المعارك في حلب ودرعا والقصير ودير الزور والحسكة وكل شبر في تربة سورية المشبعة بدماء أبنائها . دعونا نقود الثورة لأنه لا يوجد قلب مُحب وجبار وقادر على العطاء والتضحية كقلب أم . تحية لثورة أمهات سوريا في عيد الثورة السورية وهي تدخل عامها الخامس بريادة الأمهات الثكالى ..

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (39): ضحايا السيستم

أصبح مفهوم (السيستم أو النظام) مفهوماً عالمياً في مجالات عديدة خاصة في الطب والحميات الغذائية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *