من أخطر أنواع الخداع أن يخدع الإنسان نفسه ، وأن يعمل جاهداً لتبرير خداع أحاسيسه ومشاعره وحرفها عن حقيقتها . أي أن الكثير من السوريين خاصة في الداخل زوروا وشوهوا إحساسهم الفظيع بالذل والقهر وارتضوا الصمت مُعتبرين أن ما قاموا به رجاحة عقل وحكمة !! حالة عيش المواطن السوري أصبحت لا تطاق ، كثيرون يكتبون لولا المساعدات المالية التي تأتينا من الخارج ( الأولاد ) لكنا ننبش ونأكل من القمامة .
زادت أسعار الأدوية مئة بالمئة أي أصبح ثمن علبه الأسبرين 20 ألف ليرة سورية ، سعر يتسبب في زيادة الصداع وعدم قدرة المواطن السوري على شراء الدواء . يُمكن التحدث طويلاً عن تنويعات الذل السوري فالسوري يعيش مجاعة حقيقية وبؤس العيش من كهرباء وماء وغلاء وخوف أن ينطق كلمة أو يكتب عبارة على فيس بوك حتى لا تهبط عليه تهمة جريمة إلكترونية . يحاول الكثير من السوريين خاصة في الداخل السوري إيهام أنفسهم أن صمتهم عن القهر والذل والفقر والخوف هو حكمة وأمان ( أمان الدجاجات في القفص ) . يتم اعتقال رجل خلوق ( نبيل ديب ) هو رئيس جمعية خيرية ( أسرة الإخاء ) في اللاذقية ، وأيضاً هو رئيس جمعية أطفال التوحد ، ورغم أنه يحمل الجنسية الأمريكية وأسرته كلها في أميركا لكن حبه لوطنه سوريا جعله يبقى في اللاذقية ويهدي كل وقته لخدمة الناس . تم اعتقاله بتهمة ( سرقة المعونات الغذائية ) كما تم سابقاً اعتقال رامي راؤول فيتالي بتهمة ( المس بهيبة وزارة الداخلية ) لأن رامي المؤمن والإنساني كان هدفه انتشال أطفال الشوارع من التسول وإدمان مادة الشعلة وإرسالهم للمدارس لكن ما قام به وكلفه الكثير من المال فقط لإرسال الأطفال المتسولين إلى المدرسة وتقديم طعام صحي لهم كانت النتيجة سجنه لأكثر من خمسة أشهر .
المُخزي أن لا أحد من معارف وأقرباء ( أشدد على كلمة أقرباء ) وأصدقاء نبيل ديب دافع عنه أو كتب كلمة حق برجل قضى سنوات طويلة من عمره في خدمة أهل وطنه . والكل يشهد أن مركز أطفال التوحد الذي أنشأه نبيل ديب في اللاذقية يوازي أهم المراكز الطبية في أوروبا عناية فائقة لكل طفل مصاب بالتوحد ، طاقم من أهم المدرسين المتخصصين بالتعامل مع أطفال التوحد . وعددهم كبير . هبطت عليه تهمة ( سرقة المعونات الغذائية ) وصار فاسداً مثل محافظ اللاذقية الذي جمع المليارات من الرشاوي والفساد . لا أحد ممن خدمهم نبيل ديب دافع عنه بكلمة . لأن دفاعهم عنه كأنه إتهام للقضاء ( وهو خط أحمر ) بـأنه ظالم . صار عنوان حياة السوري خاصة في الداخل ( ابعد عن الشر وغني له ) والشر هو تحديداً الحق . ولا شيء إلا الحق . كنت أتكلم مع صديق يملك دكان أحذية عادية ( غير فاخرة ) قال لي كل شهر عليه أن يدفع مبلغ كبير لمسؤولين في التموين وجهات أخرى وأن العديد من المسؤولين يأخذون ما شاء لهم من الأحذية دون أن يدفعوا ثمنها ، وضحك بمرارة وهو يقول : سأغلق الدكان فأنا خاسر ولا أستطيع أن أطالبهم بدفع ثمن الأحذية وإلا ينتظرني السجن إذ يلفقون لي أيه تهمة .
تزوير مشاعر الذل إلى مشاعر الحكمة والأمان هو قمة سحق الكرامة هو الهدر الوجودي بأفظع أشكاله وقد يتماهون مع ذل العيش بإقناع أنفسهم أن تقبل كل هذا الذل وعلى مدى عقود وتأقلمهم معه هو نجاح ، كمن يهنئ نفسه على مرونته في التعامل مع ظروف صعبة ، بعضهم يصور بحر اللاذقية ساحر الجمال وينشر الصور كأنه يبرهن للعالم ( ولنفسه أولاً ) أنه سعيد لكنه في كل الصور حريص ألا يُصور سطوح الإسمنت البشعة بعد جريمة تبليط البحر ولا هضاب الزبالة قرب شاطئ الرمل الفلسطيني والمدينة الرياضية التي كلفت المليارات وتحولت إلى خرابة ، هم يصورون البحر البعيد ، لا تقترب عدستهم من الحقيقة بأن بحر اللاذقية انتهك وجرحوا روحه بمسح كل المقاهي البحرية التي كانت رئة أهل اللاذقية وسوريا , يصورون مقاهي فخمة ويتباهون أنهم من روادها وكأن الحياة بخير وهم سعداء ، فتجاهلين أن ثمن فنجان قهوة في مقهى عادي أو شعبي سبعة آلاف ليرة سورية ، وأن الراتب لم يعد يكفي ثمن ربطة خبز . لا يمكن لهؤلاء الذين زوروا مشاعرهم وحولوا الإحساس بالكرامة المسحوقة إلى إحساس بأنهم حكماء ويضمنون أمان العيش وبأن شعار : الحيط الحيط ويا رب السترة هو قمة الذكاء ويضمن الأمان .
البعض يصور قطط محبوسة في سفل سيارات ويطلب من الناس انتشالها ومساعدتها كي لا تتجمد من البرد في الليل ، بينما أطفال ينامون في الحدائق يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويتعرضون لأبشع وأحقر أنواع التحرش . الإنسانية تجاه القطط وغياب الإنسانية تجاه أطفال الشوارع حالة تدل على إنهيار تام للقيم الإنسانية .
بالمقابل نجد الإعلان المُعمم في كل سوريا الصادر عن اتحاد الكتاب العرب وهو تماماً بوقفة تضامنيه مع شعب غزة الصامد ، مجرد وقفة تضامنية ، مسيرات بمئات الألوف من الناس من كل دول العالم خرجت دعماً لفلسطين ما عدا في سوريا ( الصمود والتصدي ) لم تخرج مسيرة واحدة لدعم أهالي فلسطين وغزة . ولتكتمل اللوحة البانورامية الهزلية فإن اتحاد الكتاب العرب فرع الرقة يدعو الشعب السوري لحضور محاضرة للباحث الأستاذ ( كان ضابط عالي المرتبة لسنوات طويلة ثم أصبح رئيساً لاتحاد الكتاب العرب في اللاذقية لسنوات سيقدم محاضرة بعنوان ( قضايا الوعي والانتماء القومي : غزة في الماضي والحاضر ) وهذه المحاضرة هي من ضمن الخطة الثقافية الاستراتيجية لاتحاد الكتاب العرب في سوريا . كما قدم اتحاد الكتاب العرب فيلماً ( صراخ أطفال غزة – مترجم ) !! يبدو أن صراخ أطفال سوريا لم يكن مسموعاً . أخطر أذى للكرامة الإنسانية ولكرامة العيش ولاحترام الإنسان لنفسه هو أن يتم – بسبب الخوف الرهيب – أن يزور الإنسان مشاعره وينسى كرامته بل يعتبرها شراً ولن تجلب له سوى الأذى والسجن والموت ، أما الخنوع والصمت وتحمل الذل مهما كان مُروعاً فهو الأمان . العبارة التي توحد معظم السوريين هي : حسبي الله ونعم الوكيل .