أذكر ذلك اليوم الخريفي الدافئ في عام 2006 (أو 2007) حين ركبنا القطار السريع بين اللاذقية وحلب، قاصدات أول مرة مدينة إدلب لنقدم نشاطاً ثقافياً فيها في اتحاد الكتاب العرب، كانت صديقة روائية (مسيحية) وشاعرة (من الطائفة العلوية) وأنا سعيدات أننا لأول مرة سنزور مدينة الزيتون والجمال إدلب، كان القطار يتوقف في محطة إدلب، لكنني كنت طوال الوقت أسأل: أين هي مدينة إدلب لا أراها؟ كان سياج كثيف من شجر الزيتون يُسور المدينة، فتبدو غاطسة في حضن أشجار الزيتون المثقلة بحمولتها، كانت مدينة إدلب بعيدة قليلاً عن محطة القطار فيها، واستقبلنا أصدقاء من ادلب منهم صديق عزيز علي وهو من أسرة عريقة في إدلب وأستاذاً في اللغة العربية، جمعتني به صداقة فقد كتب عدة مقالات عن رواياتي وقصصي. لا يُمكن أن أصف المحبة والصدق عند سكان إدلب خاصة الجيل الشاب الذي حضر نشاطنا الثقافي ، كانت قاعة اتحاد الكتاب العرب في إدلب ممتلئة بالحضور ، حضور مميز ، خاصة حين انتهينا ( الصديقتان وأنا ) من القراءة وفُتح باب النقاش ، لم أتوقع أن نسبة كبيرة من شابات وشبان إدلب مثقفون ثقافة عالية ، وكم فرحت أن أحد الشبان وكان يدرس في تركيا ، قد ترجم مجموعة قصصية لي بعنوان (عطر الحب) إلى اللغة التركية ، أحب أن أذكر اسمه فقط (شكري) كان موهوباً باللغة يتقن الإنكليزية والبرتغالية وطبعاً التركية حيث يدرس في جامعتها في أنقرة ، وقال لي أنه يبحث عن دار نشر لينشر مجموعتي ( عطر الحب ) التي ترجمها إلى التركية ، بعد الأمسية أصر الأصدقاء وأعضاء اتحاد الكتاب العرب على دعوتنا للعشاء ولم نستطع القبول لأنه يتوجب علينا أن نلحق القطار ، لكن قدموا لنا أطيب شعيبيات بالجوز والقشطة ، وقدم صديقي أستاذ اللغة العربية لكل منا طبقاً كبيراً من حلويات إدلب . لا أنسى تلك المرأة الخمسينية التي تقدمت مني وطلبت أن أكتب لها إهداء على مجموعتي القصصية (الساقطة) التي حصلت على جائزة أبي القاسم الشابي للقصة القصيرة عام 2002 ، كم كانت لطيفة وأصرت أن أبقى عندها لأيام وأنها تتابع مقالاتي وتشتري كتبي ، كم يؤثر بي صدق المشاعر وكنت راغبة جداً أن أبقى في ضيافتها وأن أتجول معها في بساتين الزيتون ، لكن وعدت الصديقتين أن نرجع معاً في القطار .كان أخ صديقي من ادلب يدرس الطب في جامعة دمشق ، في زمن حكم حافظ الأسد، شاب طموح ذكي يحب الحياة والفرح ، لكنه اضطر إلى الهروب إلى فرنسا لأن تهمة (إخوان مسلمين كانت ستهبط عليه) . هرب إلى لبنان بطريقة غير شرعية لأن أحدهم نبهه أنه مطلوب عند الحدود السورية وسيتم القبض عليه بتهمة أنه ينتمي لتنظيم الإخوان المسلمين ، كان في الثالثة عشرة من عمره وتمنى أن يعود إلى ادلب فقط ليُقبل يد أمه ويودع أخوته ، لكن الكل نصحه أن يُسرع في الهروب إلى لبنان ، وأكمل اختصاصه في الطب وصار من ألمع الأطباء وتزوج من فرنسية ، وشاءت الظروف أنني التقيته مراراً في فرنسا ، وفي كل مرة كان يُعيد لي القصة نفسها بأنه كان عاشقاً لصبية من ادلب وكان يعزف لها على العود ( هو موهوب في العزف على العود ) كانا يلتقيان في ساحة بعيدة عن المدينة ، وأنه كان ينوي أن يتزوجها لكن والدها وأخيها اعتقلا بتهمة الإنتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين لذا يستحيل أن تترك أمها وأختها وأخيها (كانا في عمر المراهقة) . كنت أتظاهر كل مرة يروي لي (كميل) هذا ليس اسمه تلك القصة أتظاهر بالمفاجأة، ولا أذكره أنه رواها لي أكثر من عشر مرات، وصدقاً في كل مرة كان يروي قصة عشقه كنت أتأثر، ثم علمت منه أن والد حبيبته وأخيها تم إعدامهما في سجن تدمر وأنهم طلبوا من الأب قبل إعدامه بيوم أن يختار هل يريد أن يموت قبل إبنه أم بعده، لعل الأب يريد أن يترحم ويصلي على إبنه. قصص مُروعة لا يستوعبها عقل، تجعل العقل يصل إلى حافة الجنون ولولا الإرادة والإصرار على الحياة والإيمان والأمل لجن معظم السوريين (وأنا منهم) . كميل لم يزر ادلب ولم يدخل إلى سوريا منذ حوالي 37 سنة ، هو عقاب قاسي ونفي إجباري ، ووجع حنين لا يُحتمل ، وجع أشبه بالحرق ، وماتت أمه ولم يقدر أن يودعها ويطبع قبله على جبينها ، أم ثكلى أعدم زوجها وابنها الذي كان في عمر ستة عشرة سنة بتهمة الإنتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين ، أقسم صديقي أستاذ اللغة العربية أن أخيه المراهق لم يكن يُصلي كان مشغولاً بمراهقة جامحة ، مغروماً بالمجلات الأجنبية (الإيطالية خاصة) التي كانت تقدم صوراً جذابة مُغرية لممثلين وممثلات ، والصور تحكي قصص حب وغيرة ، وكان يُعلق في غرفته صورة فرانكو كاسباري (جميل القصص المصورة) ويُمضي وقتاً طويلاً في تقليد تسريحة شعره التي تفتن قلوب العذارى . كيف تم اعتقال هذا القاصر المراهق بتهمة الإخوان المسلمين. بيت صديقي وأسرته في ادلب تدمر بالكامل، وصديقي أصر ألا يترك ادلب لكن ابنته التي تسكن في دولة أوروبية ألحت عليه أن يسافر ويسكن عندها لأنه صار وحيداً، وكم فرحت حين التقيته في فرنسا في مدينة أخيه الطبيب ( دمعت عيناي ) هو أيضاً تأثر كثيراً كنا خارج فرنسا وخارج الزمان والمكان ، كنا نشعر أننا في ادلب المحاطة بسور من أشجار الزيتون نأكل شعيبيات ولم أقل له الحمد لله على السلامة وأنني محظوظة أنني التقيته إنما قلنا معاً ياه على ذلك اليوم الجميل الدافئ وعلى أطيب شعيبيات في العالم . وبالتأكيد الدكتور كميل سيعود الآن إلى سوريا الحُرة المُحررة من طغيان الأسد. تحيا ادلب بشعبها الكريم المسالم اللطيف والمثقف.
شاهد أيضاً
أفكار منتصف النهار (40): أرملة الساحل السوري
جميع السوريين (خاصة سكان اللاذقية) التي كانت تستحق بجدارة لقب (عروس الساحل السوري) مُروعين ومصدومين …