حين ندرس علاقة الصداقة، فإننا نقع /ولابد/ في هذا المحذور الذي هو الحديث بصيغة عامة، تبدو وكأنها تخص جميع البشر، على حين أن القوانين التي نقع عليها مستخرجة من حالات خاصة. أتكلم الآن عن “الصداقة والأصدقاء”، هكذا بصورة عامة، عن “إخوان الصفاء” وكيف يصبح الصحب “إخوان صفاء”، فلا ألقي بالاً إلى أسئلة من نوع: ومن هؤلاء الصحب؟ أهم نساء أم رجال؟ عازبون أم متزوجون؟ عمال أم طلاب أم فلاحون؟ مسلمون أم مسيحيون أم بوذيون؟ لأي قومية ينتمون؟ لأي مدينة؟ على أنني آمل أن الحديث الذي سأحدثك لا يخلو من فائدة لك أياً كنت، لأن هناك الكثير من الأشياء المشتركة بين الناس، ولعلنا لهذا السبب نحس عند قراءة الروايات أو مشاهدة الأفلام أو المسرحيات بأننا أفدنا عبراً من متابعة قصة حياة أناس آخرين لعلهم مختلفون كل الاختلاف في مواقعهم وانتماءاتهم عنا.
ها نحن أولاء نصف إخوان الصفاء بعد بضعة عشر قرناً من كتاب ابن المقفع “كليلة ودمنة” الذي نعثر فيه على وصف لهؤلاء الإخوان ونعثر فيه على هذا الاسم الجميل “إخوان الصفاء”، الاسم الذي أخذ بلبي وجعلني أقول “يرحمك الله يا ابن المقفع، لو لم تترك لمن يلحقك غير هذا التعبير المبتكر لكفاك فخراً!”.
مقالي ينقسم، كما خططت له، إلى فقرات هي في الحقيقة تأملات متفرقة في موضوع “إخوان الصفاء”. لم أقصد بالمقال بناء نظرية متسلسلة منطقياً وإن كان ما سأقوله ـ فيما أحسب ـ لا يخلو من البعد النظري ولا يخلو من عناصر لنظرية كهذه.
الصداقة كعلاقة غير نفعية:
لا تقوم الصداقة على أساس غاية تتجاوزها فهي غاية بذاتها وحين تكون الصداقة وسيلة إلى غاية ثانية فإنها تفقد صفتها كصداقة، وتصبح علاقة نفعية أكان الطرفان مدركين لذلك أم لا، إن العلاقة النفعية تنتهي بتحقق النفع الذي كان الغاية في قيامها، أما الصداقة فلا تنتهي أبداً. إنما هي نمط حياة الإنسان، وكما أن الإنسان يتنفس الهواء، وتنفسه الهواء خاصية من خواصه، وكما أن الإنسان لا يتوقف عن التفكير وهذا من خواصه أيضاً، فكذلك هو يصادق، من المهد إلى اللحد لا ينقطع عن صحبة الأصدقاء ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وفقدان الأصدقاء داء وبيل أو مظهر من داء وبيل يدلنا على خلل في الذات أو في المجتمع.
الصداقة علاقة بين متساويين:
لو سألني سائل عن الفرق بين الصداقة والحب فسأجيب جواباً يبدو غريباً كل الغرابة وبعيداً عن أول جواب يخطر على البال وهو أن الحب يتضمن بعداً جسدياً على حين أن الصداقة لا تتضمنه (ولذلك تراهم لا ينفكون عندنا يتساءلون “هل الصداقة بين الرجل والمرأة ممكنة؟”). أما أنا فلي جواب مختلف: إن الصداقة تشترط المساواة بين طرفي العلاقة أما الحب فلا يشترط المساواة (وقد أضيف: على العكس! إن الحب يفترض رفع الحبيب إلى درجة “مثل أعلى”)، على أقل تقدير أسير أنا، في كتاباتي عن الحب المستمرة منذ أن كنت مراهقاً في خط منسجم مع الشعر والغناء العربيين وما أكثر ما يتكرر في هذين تعبير “العبد” و”العبودية” (بل إنه لتراث عريق في أدب وفن الحب يتجاوز العرب إذ أن فعل “يعبد” للدلالة على الحب الشديد موجود كما قد يعلم القارئ في عدد عديد من اللغات الأخرى) أما نقادي فلا أدري في أي خط يسيرون. وإنه لمما لا ريب فيه إن المرء يستطيع أن يطلق لقب “الحب” على أي شكل للعلاقة بين الجنسين يفضله، وأنا لا يمكنني أن أمنع أحداً من تسمية هذا الشيء الذي هو أمامي باسم “الباب” مع أن اسمه المتعارف عليه هو “الشباك” ثم لا نحتكم بعد ذلك في التسمية إلا إلى ما تعارف عليه الناس من ربط المسمى المعروف باسم الباب، وهكذا هو الشأن مع “الحب” إذ أحسبني أتكلم عن هذا الشيء الذي تطلق عليه الأغلبية الساحقة اسم “الحب”، ولا بأس علي بعدها إن اختلف عليّ بعض أصحابنا المحدثين واتهموني إنني أتكلم عن “حب زائف” كما قد يقول مخبول أشرت إليه قبل قليل إنني إنما أتكلم عن باب زائف و”الباب الحقيقي” هو ما أسميه (وتسمية أغلبية الخلق) شباكاً.
تقوم الصداقة إذن (على العكس من الحب وبالتناقض معه) على إيمان راسخ صادق عميق بأن الصديق يساويني، بأن ثمة “وحدة حال” بيننا كما يقول تعبيرنا الشعبي الرائع.
مع الصداقة لا تنافس:
التنافس هو جهد يقوم به اثنان (أو أكثر) ليثبت كل منهما أنه الأفضل في موضوع ما. الصداقة لا تنافس فيها لأن التنافس يعني السعي لإنهاء المساواة مع الآخر، لإنهاء “وحدة الحال” التي ذكرناها. والذي نريد التفوق عليه لا نصادقه. إنما نصادق من نحس بأنه يساوينا وأنه في وحدة حال معنا. ولأعد إلى موضوعي (المفضل كما قد يلاحظ القارئ): المقارنة مع الحب. إن الحب يمكن أن يتضمن عنصر المنافسة. أو لأكن أكثر دقة في التعبير: عنصر السعي للارتقاء “للوصول إلى مستوى” الحبيب، هذا السعي للارتقاء هو “العنصر التنافسي” في الحب، والحب الذي هو علاقة مع “الأعلى” ورغبة في التماهي مع هذا “الأعلى”، لابد له من هذا السعي المتواصل للصعود، وهو صعود نوعي خاص بالحب لأن “الأعلى” في الحب هو نوع خاص من “الأعلى”، إنه “الجميل”، والصعود في هذه الحال هو السعي لتحويل الذات إلى ذات جميلة (وبهذا المعنى يمكن تعريف الحب بأنه عاطفة تنتج عن الرغبة في الإعجاب بالذات!، في حب الذات إن شئتم، وهي عاطفة تأتي على قاعدة من عدم الإعجاب بالذات واعتبارها غير جميلة).
الصداقة ونظرية التفاهم:
من صفات “إخوان الصفاء” (الصداقة المثالية) إنهم “متفاهمون”، أو لنقل إن عملية الاتصال فيما بينهم تحقق درجة عالية من النجاح. هذا يعيدنا إلى نظرية التفاهم ببساطة، كيف يفهم الناس بعضهم وما الذي يجعلهم يسيئون فهم بعضهم أحياناً. التفاهم هو الشرط اللازم (غير الكافي) للصداقة. (نعني بالتفاهم دوماً الفهم المتبادل الصحيح ولا نعني بحال التوافق في الآراء فلا يعني التفاهم بالضرورة نشوء ود بين أطراف الاتصال وبالعكس لأنه لما كان التفاهم بتعريفنا يعني الفهم المتبادل الصحيح فإن هذا الفهم قد يقود إلى العداء المرير، وبهذا المعنى يعني التفاهم ين العرب و”إسرائيل” عندنا فهم العرب ـ “إسرائيل” تفهم! ـ أن الصراع مع الدولة الصهيونية صراع وجود! وحب العرب للإنجليز في بداية هذا القرن كان “سوء تفاهم” ولم يكن تفاهماً!. سوء تفاهم جعل الزهاوي يقول:
تنبّه أيها العربي واترك……..ولاء الترك من قوم لئام
ووالِ الإنجليز رجال عدلٍ……..وصدقٍ في الفعال وفي الكلامِ!
من عناصر التفاهم الأساسية (أو هو أهم عناصر التواصل) اللغة. ومن هنا توجب أن يكون للأصدقاء لغة مشتركة يفهمها جميعهم بدرجة عالية لا تترك أي هامش هام من سوء فهم الاستعمالات اللغوية المختلفة (الألفاظ، التعابير) ولذلك كانت الصداقة بين “المثقفين” عندنا و”العوام” صعبة التصوّر، على أقل تقدير لسبب اللغة (وبالأحرى: كل عناصر التفاهم بين المجموعتين هي في حالة سيئة)، ومن عناصر التفاهم معرفة كل طرف معرفة كافية بتجارب الآخر. على أساس هذه التجربة لا تنبني فقط الأحكام الأخلاقية والسياسية (وبهذا يكون فهم سلوك الآخر ومواقفه تجاه الأشياء مشروطاً بمعرفة تجربته الحياتية – التاريخية) وإنما تنبني أيضاً أحكامه الجمالية (وهي الأطروحة الأعقد برهاناً كما يعلم من قرأ مقالات سابقة لكاتب هذه السطور عن الشعور الجمالي والحب) وعند هذه النقطة أود التوقف في الفقرة التالية:
الصداقة والسلوك الجمالي:
نعني بالسلوك الجمالي ذلك السلوك المدفوع بدافع جمالي. إن توقفك أمام وردة هو سلوك جمالي. وكل سلوك يدفعك إليه إعجابك بامرأة جميلة هو سلوك جمالي، وإن سلوكك لتجميل نفسك هو سلوك جمالي. حيث أن الفرد يعرف من نفسه، طبيعة الدافع الجمالي وتأثيره (معرفة حدسية طبعاً، كما يعرف المرء على سبيل المثال اللون الأخضر دون أن يستطيع تحليل طبيعة هذا الإحساس باللون) فإنه يرغب في أن يكون دافع الآخرين تجاهه أيضاً دافعاً جمالياً إيجابياً (الدافع تجاه موضوع جميل) أو أن لا يكون على الأقل سلبياً (الدافع تجاه موضوع قبيح). هذا ما يدفعنا (أو يدفع أغلبنا) إلى تمشيط شعرنا وكي ثيابنا والسلوك “سلوكاً لائقاً” (وقد يكون التحليل النهائي لهذا أعمق بكثير، أتذكر هنا ما تقوله نظرية التحليل النفسي عن الوحدة الاندماجية البدئية للطفل مع الأم وبهذا يكون الدافع تجاه الأم دافعاً تجاه الذات في نفس الوقت، ومثل هذا قد يدفعنا إلى القول إن الحب هو في بعده الأعمق حب للذات) جزء من السلوك الجمالي هو سلوك لغوي، لأنه كما هو معلوم ثمة “لغة جميلة” و”لغة عادية” و”لغة قبيحة”.
التفاهم في حالة السلوك الجمالي هو إدراك ما في هذا السلوك من جمال وما نسميه “الذوق الجمالي” ما هو إلا سلم القيم الجمالية المستبطن للأشياء (على أساسه يحكم الفرد فوراً، بمجرد إدراكه للشيء، حكماً جمالياً عليه، وهذا الحكم هو تعبير عن اتجاه الدافع الجمالي تجاه هذا الشيء – سلبي أم إيجابي – وشدّته).
يلاحظ القارئ أن هذا السلم المعياري الجمالي المستبطن يشابه السلم المعياري الأخلاقي المستبطن أيضاً. ويشابهه خصوصاً في كون الاثنين لا شعوريين أساساً.
لنعد إلى موضوع “السلوك الجمالي اللغوي”: لنفرض أن (أ) يرى في نفسه أنه قد تكلم بصورة جميلة. أفلا يحبطه أن يلاحظ أن (ب) لم يلاحظ ما في لغته من جمال؟ (تماماً كما لو أن (أ) حكى نكتة فلم يفهمها (ب))، إزاء السلوك اللغوي الجمالي تكون الصداقة أقوى بقدر ما يكون لأطراف الصداقة تجربة لغوية واحدة وذوق جمالي لغوي واحد، عندها يفهم (أ) ما في كلام (ب) و(ب) ما في كلام (أ) من سخرية وتورية واقتباس ولعب بالألفاظ وتقليد هازئ وإلى آخره.
وإزاء السلوك الجمالي عموماً يلعب الصديق دور المتذوق، الذي يؤكد “صحة” السلوك الجمالي للصديق ويجيز له بالتالي الانتقال بهذا السلوك إلى الهدف الأخير: المجتمع.
كان “عمر” يقول: ” لم تعد لنا من ملذات الحياة سوى محادثة الرجال ذوي العقول الرواجح”. ونلاحظ هنا أن الخليفة العظيم لم يهتم فقط بما في محادثة الرجال ذوي العقول الرواجح من نفع وإنما بما فيها من جمال أيضاً (عبر عنه بملذات الحياة).