جندي إسرائيلي يقوم بدورية في أطراف مدينة الخليل. المصدر : الجيش الإسرائيلي

اختيار العنف: حين يكون خيار الحرب جنوناً نعيشه

عوديد نعمان

ترجمة: محود الصباغ

تعلمتُ، بوصفي طفلٍ ترعرع في نظام تعليم يهودي إسرائيلي، أن أياً من الحروب التي خاضتها إسرائيل لم تكن قط  حرباً باختيارنا أو من اختيارنا. وكنتُ أعتقد، مثلي مثل جميع الإسرائيليين، أن إسرائيل تستخدم قوتها العسكرية فقط للدفاع عن مواطنيها من خطر وشيك محدق بنا. هذه هي الروح الإسرائيلية للعنف اللازم: الحرب محنتنا لأننا أمة تتوق للسلام. يعتقد الإسرائيليون أننا لا نختار العنف قط، بل هو الذي يختارنا ومن هنا جاء اسم جيشنا، جيش الدفاع الإسرائيلي.

كان هذا في الماضي، أمّا اليوم، لم أعد أعتقد أن هذا صحيح. فنحن، الإسرائيليين، لدينا، باعتقادي، خيارات خلاف ذلك ويمكننا  ممارستها بالفعل.

ولكن كيف يمكن أن يخطئ مجتمع بأسره  في جانب هام وأساسي من جوانب وجوه؟ وبالمقابل، كيف يمكن لأفراد من هذا المجتمع، مثلي، أن يبدون شكوكاً  في قناعة ما راسخة لدى الجميع؟ تكون الأفعال، في بعض الأحيان بغيضة على الرغم من أن المعظم يراها معقولة تماماً . وترقى، أحياناً، الضرورات التي تشترك فيها مجتمعات بأكملها إلى أن تصبح مجرد تحيز؛ حيث تُرتكب مظالم خطيرة هي في نظر البعض أمور محقّة.

لكن لنفترض أنك تعيش في مثل هذا الزمان والمكان. كيف  يمكنك أن تعرف الحق من الظلم في هذه الحالة؟ ربما لا نستطيع تمييز ذلك.

يجادل غلواكون، في “جمهورية” أفلاطون، بأننا نسعى لتحقيق العدالة لكي نبدو كما لو أننا محقين. يُطلب منا تخيل رجل عادل، “شخص بسيط ونبيل.. يريد أن يكون عادلاً بدلاً من أن يبدو عادلاً “. ولكن ماذا لو ارتدى الخاتم الشهير الذي يمتلكه الملك الليدي جيجيز*، بحيث يصبح غير مرئياً؟ يبرر غلاوكون بالقول:  بدون أن تبدو عادلاً للآخرين، “لا يمكن تخيل أي شخص يمتلك طبيعة صلبة “حديدية”  تجعله يصمد في وجه العدالة” يفتقر الرجل غير المرئي إلى الحافز للتصرف بعدل، لأن الخاتم يسمح له بالإفلات بظلمه. وثمة ما يشير أن ما يشبه هذه القصة موجودة في عالمنا اليوم، لكن بدون خواتم سحرية، حيث يمكننا أن نرى فيها كيف أن الشخص العادل الذي يتصرف بمفرده غير مرئي فعلياً ليس بسبب  السحر والشعوذة، وإنما لأن  وجهة نظر خاطئة عن معنى العدالة تهيمن على بيئته الاجتماعية. بالنسبة للمجتمع، أي شخص لديه أفعال ومعتقدات بغيضة، سوف لن يلحظ الآخرون  سلوك عادل له. سوف يكون جسده مرئياً ، لكن عدالته لن يتم تمييزها وبالتالي سوف تكون غير مرئية. لذلك سوف يُجبر هذا الشخص على اختبار “طبيعته الحديدية” ضد الضغوط التي يتعرض لها  للتوافق مع  المعيار الاجتماعي غير العادل.

وفقاً لبرنارد ويليامز، ننظر إلى هؤلاء الأشخاص العادلين غير المرئيين على أنهم “مستقلون أخلاقياً: إصلاحيون، أو كأشخاص.. لن يتبعوا الحشد إلى الدمار “. لكن هذا واضح فقط في الإدراك المتأخر أو التأمل. وعندما “نحاول التلويح إلى” المقاومين الأخلاقيين “عبر الزمن أو من خلال عدسة التجربة الفكرية، فإننا نفترض ضمنياً أنهم يشتركون معنا ببعض الأشياء الأساسية  من الناحية الأخلاقية”, ويتساءل ويليامز، ما إذا كان للمقاوم المستقل ما يبرره لجهة يقينه الأخلاقي. لا يرانا هؤلاء الأبطال نلوّح لهم لتأكيد إحساسهم بالعدالة. لم يكن بإمكانهم أن يعرفوا أن أقرانهم الأخلاقيين ينتظرونهم في الجانب الآخر من التاريخ. فكيف، إذن ، يمكن للرجال والنساء الذين يواجهون العزلة الأخلاقية أن يظهروا ما إذا كانوا، على حد تعبير ويليامز، حاملين منفردين للعدالة الحقيقية، أو، بعبارة أخرى، مهووسين مخدوعين؟ أي، كيف يمكن لمثل هؤلاء الأشخاص ألا يكونوا عادلين فحسب، بل عاقلين، ليس فقط أخلاقيين، بل منطقيين؟

قد يكون من الصعب تصديق أن مجتمعنا الأخلاقي يمكن أن يخرج عن مساره بشكل صارخ. فنحن عادة ما نتخيل سيناريوهات العزلة الأخلاقية في الأزمنة والأماكن البعيدة، أو في الرؤى البائسة. لكن المسألة هنا عند هي النقطة: إذ ينبغي لنا، في إحجامنا عن الشك في مجتمعاتنا، ألا نستسلم للقوى الاجتماعية التي يتغلب عليها الأشخاص العادلون غير المرئيين والمستقلين أخلاقياً – والتي يكافحون من أجل سلامتهم؟. في الواقع، تصارع العديد من المجتمعات المعاصرة إزاء الأغلاط والأخطاء المرتكبة في أوقات الفشل الأخلاقي. هنا علينا النظر في إمكانية المقاومة الأخلاقية الفردية ، يجب علينا النظر إلى ماضينا عند الحديث عن حاضرنا.

ضرورة الحرب

عند الحديث عن  ضرورة الحرب في إسرائيل، تظهر حرب 1973 نموذجاً. لقد شن التحالف العربي، بقيادة مصر وسوريا، هجوماً مفاجئاً على إسرائيل في يوم الغفران، وهو أقدس يوم في الديانة اليهودية، كما كان شهر رمضان عند المسلمين، فعبرت القوات المصرية، على الجبهة الجنوبية، قناة السويس، حيث خط وقف إطلاق النار منذ حرب العام 1967، ومنها إلى سيناء. كما هاجم الجيش السوري، من الشمال، هضبة الجولان. لكن إسرائيل كانت قادرة على استعادة اليد العليا وتأمين وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب. وخلال أقل من ثلاثة أسابيع من القتال، قُتل ما بين  2500-2800 إسرائيلي وما لا يقل عن 8000  في صفوف قوات التحالف العربي.  بعد الحرب، انتقد الإسرائيليون بشدة حكومتهم وقادتهم العسكريين لتجاهلهم جميع إشارات التحذير ورفضهم المحاولات المصرية للتفاوض على اتفاق سلام قبل بدء القتال. واضطرت القيادة العسكرية إلى الاستقالة، وانضمت إليهم في النهاية رئيسة الوزراء غولدا مئير ووزير الدفاع موشيه ديان. ومع كل هذا، مازالت تًذكر حرب يوم الغفران على أنها حرب حتمية. وينطبق الشيء ذاته على جميع حروب إسرائيل، بغض النظر عن مدى سوء تصورها أو عدد فرص خفض التصعيد التي أصبحت معروفة بعد وقوع الحادث. حتى الحكم العسكري للفلسطينيين، ورغم الوتيرة المتزايدة والمستمرة  لمصادرة الأراضي الفلسطينية، يُنظر إليه، أيضاً، على أنه وضع قائم مؤسف، لكنه ضروري, رغم أنه مستمر منذ نحو خمسة عقود.

العنف يختارنا مراراً وتكراراً. هكذا يتم التعبير عن هذه القناعة العميقة في ملاحظتين شائعتين منسوبة إلى غولدا مئير:

عندما يحل السلام، سنكون قادرين على مسامحة العرب لقتلهم أطفالنا، ولكن  لن نعفر لهم إجبارنا على قتل أبنائهم.

سوف يحل السلام عندما يحب العرب أطفالهم أكثر مما يكرهوننا.

لا يتعلق الأمر بأن الجيش الإسرائيلي اسمه “جيش الدفاع الإسرائيلي” لأنه  وُجد للدفاع فقط. بل، بالنسبة للإسرائيليين، كل عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي هي بحكم تعريفها أعمال دفاعية. لكن تبقى الحقيقة أن الإسرائيليين انتقدوا حكومتهم لخوضها الحرب. كما في حالة حرب يوم الغفران، في أعقاب العديد من الحروب الإسرائيلية، جاء خيبة الأمل. تمتعت الحملة العسكرية التي شنتها إسرائيل في حزيران\ يونيو 1982، والتي تحولت إلى حرب لبنان 1982، في البداية بتأييد شعبي واسع. ولكن بحلول سبتمبر / أيلول، كانت منظمة “السلام الآن” الإسرائيلية قد استطاعت تنظيم واحدة من أكبر التجمعات التي شهدتها تل أبيب على الإطلاق، للاحتجاج على الحرب ومذبحة صبرا وشاتيلا. كان يُنظر، في البداية، إلى حرب لبنان عام 2006 ضد حزب الله على أنها مبررة وضرورية، ولكن بعد ذلك، عينت الحكومة قاضياً متقاعداً، هو إلياهو فينوغراد، للتحقيق في الصراع. انتقدت لجنة فينوغراد بشدة صانعي القرار الرئيسيين. ومثل الحروب الأمريكية في فيتنام والعراق، يسبق الحروب الإسرائيلية شعور عارم بالضرورة ويتبعها انتقادات عامة لاذعة. فما الذي يفسر هذا التناوب في وجهات النظر، وطقوس التأكيد والرفض التي لا تنتهي؟ لماذا نحن سيئون للغاية في التعلم من أخطائنا الماضية على وجه التحديد عندما يكون من المهم للغاية أن نفعل ذلك؟

لا يمكن تفسير الميل إلى الإدانة بأثر رجعي بشكل كامل من خلال المعلومات التي تم الإعلان عنها في أعقاب الحرب، ولا من خلال ترف التأمل المتأخر. لقد تكررت لمرات كثيرة وكثيرة  أخطاء عديدة في إصدار الأحكام، لدرجة يتعذر معها إرضاء مثل هذا الوصف. لنتأمل الحملات الإسرائيلية المستمرة في غزة، والتي مازالت تتكرر وتتزايد تصعيداً على الرغم من الأخطاء الواضحة. وتكشف أي مراجعة معقولة لهذه الارتباطات عن تكرار ثابت، وربما عن هوس تقديرات خاطئة، وإخفاقات في التبصر، واستخدام غير مبرر للقوة، وغياب واضح للأهداف. فإذا كان ثمة ما يقال هنا، فيمكن أن نشير إلى تفاقم الأخطاء الاستراتيجية والفشل الأخلاقي مع كل حملة، ويوضح ذلك، وبطريقة مؤثرة فعلاً، عدد الضحايا. ففي حرب غزة 2008  (كانون الأول \ديسمبر 2008 – كانون الثاني\يناير 2009)، قُتل أكثر من 1400 فلسطيني و 13 إسرائيلياً. وفي حرب 2014  (تموز\يوليو – آب\أغسطس 2014)، قُتل أكثر من 2200 فلسطيني و 72 إسرائيلياً. وتساعد هذا المقارنة في توضيح  عم تناسب الأعمال الإسرائيلية: لنتأمل الأسابيع الثلاثة الأولى من غزو العراق 2003، دمر الجيش الأمريكي 1600 مركبة مدرعة. ولكن في غزة 2014، لم يكن لدى حماس عربات مدرعة، ومع ذلك، أطلقت الدبابات الإسرائيلية عدد قذائف أكثر، مما أطلقته الدبابات الأمريكية في غزو العراق بسبع مرات في اليوم وسطياً. وأطلقت طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية ضعف عدد صواريخ هيلفاير من مثيلتها الأمريكية في الأسابيع الثلاثة من حرب العام 2003. ومع ذلك ، لا أحد في إسرائيل يشك في أن حرباً أخرى في غزة قد تبدأ في المستقبل القريب، قد تكون أشد قسوة من سابقتها. ومهما كانت الحالة مع إسرائيل والإسرائيليين، فإن التحول الانطباعي الذي وصفته- من ضرورة الحرب الواضحة إلى الاعتراف بعدم جدواها المحتملة بمجرد دفن الموتى واستمرار الحياة (حياة من؟) – ليس بأي حال من الأحوال  تحولاً فريداً بالنسبة لإسرائيل. ويمكنني القول، بجرأة، إن هذا التحول هو سمة مميزة للحرب. لأنه يبدو لي أن أي شخص  يتمتع بإحساس عن واقع الحرب، لابد أن يدرك ما تنطوي عليه الحرب من تشويه جذري لقيم الأفراد، وكذلك قدرة على الحكم على الصواب والخطأ. لذلك، يقال، إن اللامبالاة بأحاسيس الألم والخسارة – الخاصة بالفرد والآخرين – تعد شروطاً أساسية للحرب، بمعنى أن نتحول إلى مجتمعات مخدرة بالكامل إزاء الشعور بالمعاناة.

وكما أوضحت إيلين سكارّي في ” آلام الجسد The Body in Pain  ” (1985) ، تعمل لغة الحرب، غالباً على إخفاء الفعل ذاته، وبطريقة ما أفضل الحث على الحالة الأثيرية. فنحن نمنح أسماء حميدة للأسلحة وللحملات، مثل الدرع الواقي والجرف الصامد وعمود الدفاع. كما نقوم بـ “تحييد” أو “تصفية” قوات العدو، و “نعقم” أو “نطهر” المدن والقرى؛ “نستخلص نتائج” ونسبب “آثار جانبية”؛ و”نزع سلاح” بدلاً من “أذى”؛ يتم تصوير الحرب على أنها “الطريق” إلى “الحرية” أو “الأمن”؛ ونحن نصف الخسائر في الأرواح بأنها “التكلفة” المتكبدة “على طريق” تحقيق مثل هذه الأهداف. ويتم تخيل الجيش كمخلوق عملاق له جسم خاص به، والوحدات العسكرية – على الرغم من أنها تتكون من أفراد بشريين – توصف بأنها أعضاء في هذا الجسم العملاق. وكما تقول سكارّي ، “الامتداد العمودي العادي البالغ من خمسة إلى ستة أقدام للشخص البالغ يصبح الآن عملاقاً، فعلى سبيل المثال، قدم في إيطاليا، وأخرى في شمال إفريقيا، رأس في السويد، وذراع يمتد إلى ساحل فرنسا، ثم فجأة يتقدم نحو ألمانيا “. كل هذه الاستعارات المميتة، والأسماء الوصفية المخادعة، والمصطلحات الاستراتيجية الجوفاء تخفي الألم والمعاناة والخسارة التي تجعل من الحرب ما هي عليه. ورغم هذا، فالشخص الذي خبر الحرب وعانى من ويلاتها  والذي يوصف بمثل هذه المفردات، فهو إما مخادع أو منفصل عن الواقع الأخلاقي.

تتطلب الحرب منطقاً مختلفاً جذرياً وشعوراً مختلفاً بالعدالة. فالحرب تعاقب العقل وتكافئ الجنون. ونحن، كأفراد، لا نخوض الحرب، بل نخضِع أنفسنا لها. نفقد أنفسنا فيها. تفيض لغة الحرب بتأكيدات السيطرة والقوة، التي تخفي بشكل يائس نوبة غضب طويلة عاجزة. وبعدتك من الحرب، عليك أن تتشف أن مشاركتك فيها غير قابلة للتصديق. وعليك أن تصارع، ولو لوقت قصير، مشاركتك في تلك الحرب. عليك أن تواجه جنونك الأخلاقي إذا رغبت في نسيانه. إن من يشارك في حرب ثم يستمر في العيش ببساطة، لا يبدو عليه أنه مسّه  تحول، وفي الواقع لم يرجع إلى الحرب قط. ويكون، أحياناً، الجنون الأخلاقي الجماعي للحرب مبرراً. حتى أولئك الذين يترددون في رؤية انخراط الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على أنه مثال للحرب المبررة قد يوافقون على أن منع ألمانيا النازية من غزو العالم قد يبرر حرباً شاملة. ويكون جنون الحرب، في أوقات أخرى، غير مبرر ولكنه قابلة للعذر. قد تكون هناك ظروف يقودنا فيها الدليل الكاذب بشكل مأساوي إلى استنتاج أن الحرب هي الطريقة الوحيدة لمنع خراب أكبر. من الممكن أيضاً أن يكون شن الحرب مبرراً ولكنه يستحق اللوم إذا ما أهدرنا سلمياً – على سبيل المثال، الفرصة لمنع الظروف من التدهور إلى الحد الذي تصبح فيه الحرب الخيار الوحيد. وتبدو الحروب مستحيلة حتى اللحظة التي تصبح فيها فجأة (أو على الأقل تبدو كذلك) ضرورية تماماً. ويبدو الأمر كما لو أن الحرب تصبح خياراً حياً مجرد أن تصبح خياراً معقولاً، وكما يسميها ويليام جيمس- تصبح حينئذٍ لا تقاوم. لأنه عندما تكون الحرب مجرد خيار، وليست ضرورة، فيجب علينا بالطبع تجنبها. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلن تكون الحرب خياراً قط، إذ قد نقرر، بطريقة منطقية، أن نكون ضدها: فهي إما ضرورة، أو أنها لا شيء على الإطلاق. وثمة، على الأغلب، لحظة وجيزة يمكن البت فيها في أمر الحرب في كلتا الحالتين؛ لحظة يمكن فيها سحق الخيار الحي للحرب أو تحقيقه. وحتى عندما يكون هناك ما يبرر الحرب، لا تستمر  عقليتها المدمرة بالتزامن مع تصور المرء لنفسه قبل أن تنشر الحرب الفوضى وبعد استعادة النظام. ويشير التحول من الاعتقاد بأن الحرب ضرورة إلى تشكيل وعي بأثر رجعي بعدم جدواها إلى التعليق والعودة اللاحقة للعقل. ويجب علينا، من أجل الاحتفال بالفوز في الحرب، أن ننكر أولاً، خوضنا لها – أي ينبغي علينا تجاهل الرعب والدمار والإصابة والألم والخسارة والوفيات التي كانت ضرورية للحرب التي نخوضها. نقوم بالكتابة فوق جثث الموتى المتعفنة وظروف وفاتهم بآثار ضخمة ونظيفة وهندسية وزهور وصور من الشباب اليافعين الذين سقطوا. كل حرب نشارك فيها، وعلى الأخص الحرب التي نبدأها، هي حرب نتخيلها كشيء آخر، شيء منطقي، له معنى خاضع للسيطرة والاحتواء، معنى مفهوم، ومقبول من الجميع.

لا يمكن لأي شخص محترم أن يؤيد بشكل كامل أي حرب، حتى لو كانت حرب مبررة. وهذا لا يعني أن الشخص المحترم يجب أن يرفض القتال في حرب، بل، بالأحرى، يظهر الواقع الأخلاقي للحرب المبررة فقط عندما يكون لدينا عقلان اثنان حيال ذلك.

وتجدر الإشارة إلى أنه منذ أن تم التخلي عن ممارسة التجنيد الإجباري في معظم الدول الغربية خلال الجزء الأخير من القرن العشرين، فقد خيضت الحروب نيابة عن المواطنين وليس من قبلهم. تم إسناد الخبرة الأخلاقية للحرب إلى جيوش محترفة – غالباً ما تتكون من الفقراء والطبقات الدنيا- الذين يقاتلون بعيداً، في الواقع، بعيداً قدر الإمكان عن الهواء النقي الذي نتنفس بالقرب من منازلنا التي يزعمون أنهم يدافعون عنها. وتعتمد الحروب اليوم، مثل العديد من الجوانب الأخرى للحياة المعاصرة، على تقسيم العمل الذي يعزل معظم المواطنين الغربيين عن الأهمية الأخلاقية لاختياراتهم وأفعالهم وأسلوب حياتهم. لقد أصبحت الحروب غير محسوسة لدرجة أننا قد لا نعرف ما إذا كانت الحروب ستخاض نيابة عنا في أي لحظة وكم عددها. وليس من المستغرب، بالنسبة للأثرياء والبرجوازيين، أن هذا يجعل الحرب أكثر تجريداً، وبمعنى ما، أقل قابلية للاعتراض عليها. وفي أغلب الأحيان، لا يعرفون أي شخص يعمل كجندي. وللتغلب على هذا الجهل البنيوي، يجب أن نسعى لفهم التجارب علينا تناسيها. و عندما تصبح إمكانية نشوب حرب حقيقية وقريبة من حيث نسكن، فسوف نعاني من انهيار المعنى المرتبط بإحساس الخطر المتزايد بسرعة. فالأماكن التي كانت آمنة في السابق – متجر البقالة، الطريق إلى المدرسة أو الملعب، الحافلة، المقهى – أصبحت مهددة فجأة. الأشياء التي بدت مهمة – نزاع عائلي، وظيفة جديدة مثيرة، امتحان نهائي، موعد مع شخص نحبه – تصبح أمور غير ذات قيمة.  ونتوق إلى ما كان اعتيادياً، حتى لو قبل لحظة. وفي كل مكان نذهب إليه، نقابل أشخاصاً يمتلكون إحساساً بعدم إمكانية استمرار الأمور على هذا النحو ، وأن شيئاً ما ينبغي استعادته  (الأمن ، الاحترام ، الردع). ومن الواضح للجميع أن كل ما تم تقويضه لا يمكن استعادته إلا من خلال العنف. وعندما يستسلم كل من حولك لهذه “الضرورة”، لنداء العنف هذا، فمن الصعب ألا تستسلم لها بنفسك، بل ويصعب أن تتبرأ منها علناً. ويبدو الأمر كما لو أن الجميع فقدوا عقولهم دفعة واحدة وجعلوك مجنوناً ، بل أسوأ من ذلك، جعلوك مجنوناً خائناً. وعندما يعتقد كل من حولك أنك مجنون، فلا يمكنك أن تكون سوى مجنوناً حقاً لتعتقد أنك عاقل. يجب أن تكون مجنوناً لتعتقد أنك الشخص الوحيد الذي يرى بوضوح، حتى لو كنت في الواقع الشخص الوحيد الذي يفعل ذلك. عليك بعد ذلك أن تختار بين النأي بنفسك عن العلاقات الاجتماعية التي تعطي معنى لحياتك وعزل نفسك عن الحقيقة الهزيلة الصامتة المتمثلة في عدم جدوى الحرب. وسوف تفقد، من خلال التمسك بهذه الحقيقة،  كل ما تهتم به – فأنت تفقد عقلك. ما لم تجد الآخرين الذين يرون الواقع كما تراه أنت، فأنت ملزم بالاستسلام؛ وعليك أن تدعم الحرب. فضرورة الحرب أقوى منك ببساطة. إنها تنزل عليك  مثل قوى الطبيعة. هذا هو “ضباب الحرب” الخاص بها ، هذا الشعور بالضرورة الذي يغمر العقل الجماعي حتى يحتضن جنون الحرب.

القناعة

عندما كنت جندياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، لم نهتم، أنا ورفاقي، بالسياسة. لقد كان لنا بعض الحجج السياسية، من حين لآخر، فقد اعتقدت، على سبيل المثال، بضرورة إنهاء الاحتلال، وأن يكون للفلسطينيين دولتهم، لكننا لم نكن نتبنى وجهات نظر واضحة حول تبرير الحكم العسكري الذي كنا نفرضه. لم نهتم حقاً فيما  إذا كانت الأشياء يمكن أو ينبغي أن تكون غير ذلك، لأن الأمور لم تكن على خلاف ذلك. كان الاحتلال -ولا يزال- حقيقة ، وكنا، نعيش، في وسطه. لكننا فهمنا المنطق الداخلي للاحتلال حين اعتبرنا كل من هو غير إسرائيلي عدواً محتملاً، وإرهابياً محتملاً  وعرفنا أن الطريقة الوحيدة للسيطرة على 2.5 مليون فلسطيني يفتقرون إلى الجنسية والحقوق المدنية الأساسية تتمثل في هو جعلهم يخشوننا. لقد “أظهرنا وجودنا” باستخدام القوة، وفي أحيان كثيرة أظهرناها بطرق غير متوقعة. وأي استخدام للقوة، مهما كان الأمر تعسفياً، كان يسمى “وقاية”: من خلال ترهيب السكان المدنيين بالعنف التعسفي، قللنا من خطر المقاومة العنيفة لحكمنا، وبالتالي منعنا الهجمات. يمكن أن يكون أي شخص أو فعل تقريباً، أو يمكن تصويره على أنه تهديد يستوجب العقوبة. إن القرارات المتعلقة بمن يشكل تهديداً والعقوبة التي يستحقها هذا التهديد كانت جميعها محددة من خلال “أحكامنا الواضحة”، التي تم توفيرها بدورها من خلال ردود أفعالنا الغريزية. أصبحت ردود الفعل هذه أكثر اندفاعاً  كلما طالت مدة تحملنا مأزق عدم اليقين الكامل هذا. وصرنا نشعر لحجم الكراهية ضدنا و حجم التهديدات لنا كلما قمنا  بإيذاء وإصابة المزيد والمزيد من الأبرياء من أجل منع الهجمات التي يمكن تصورها.  كنا نعلم أن الخطر الذي شعرنا به كان، على الأقل جزئياً ، انعكاساً لوحشيتنا، لكن معرفة هذا لم يجعل الخطر أقل واقعية أو أقل قلقاً

هذا ما عرفناه، أو اعتقدنا أننا عرفناه، وكان كافياً. لم نشعر بحاجتنا للدفاع عن شرعية الحكم العسكري الذي كنا نفرضه. كنا ببساطة أبناء وبنات مجتمعنا. أردنا إرضاء والدينا وأصدقائنا. أردنا أن نحترم ونحترم ونرغب. أردنا أن نكون إسرائيليين صالحين، ملح الأرض. وكان رفض الخدمة، بالنسبة لمعظمنا، يعني التخلي عن كل هذا، والتحول إلى إخفاقات في أعين أولئك الذين اعتنينا بهم، وأولئك الذين كانوا يهتمون بنا. في الوطن كنا أشخاصاً محترمين، لكن الاحتلال كان مختلفاً ويتطلب منا القسوة. كانت خططنا تقتضي بأن نعود إلى للأخلاق والتأدب بمجرد أن ننهي خدمتنا التي استمرت ثلاث سنوات. كنا متورطين في فسحة مروعة من الواقع، علينا أن نتحملها قبل أن نعود منتصرين إلى مجتمعنا.

إن الضرورة الاجتماعية، وليس القناعة، جعلت من الممكن لخدمتي أن تكون غير مقبولة أخلاقياً  كجهة إنفاذ للحكم العسكري الإسرائيلي , ومع ذلك، لا ينبغي علي فعل ذلك. أعرف اليوم آخرين رفضوا أن يخدموا كمحتلين، بعكسي، لقد  كانوا هم الذين ردوا على الحرب بقناعة. فلا يجب أن تكون القناعة حليفة للحربـ بل خصمها الأول. وأعني بكلمة “القناعة” ما وصفه جون لوك، في” رسالة في التسامح”، بأنها حياة الدين الحقيقي وقوته.: “لا يمكن أن تنتمي رعاية النفوس إلى القانون المدني الرسمي، لأن سلطته تتكون فقط من قوة خارجية”. “لكن الدين الحقيقي والخلاصي يتألف من الإقناع الباطني للعقل. الذي بدونه لا يكون أي شيء مقبولا عند الرب “. والفكرة هنا، لا يمكن للقوة، ومن ثم لا ينبغي، أن تستخدم للتأثير أو تغيير إيمان الأفراد.

كما رغب لوك في منع القادة الدينيين من استخدام المعتقدات الدينية كأدوات للسلطة السياسية. كان يعتقد أن التوافق بين القناعة الدينية والمصالح السياسية كان مصدر الصراع الديني في إنجلترا في القرن السابع عشر.  وكان يأمل في حماية الذات الأعمق- مكان لقناعة- من السلطة السياسية من خلال اقتصار هذه الأخيرة على المصالح المدنية “للحياة، والحرية، والصحة ،وراحة الجسد” فالذات التي دافع لوك عن قناعاتها هي نفسها التي تفرضها ضرورة الحرب. وإذا تم فصل الإدانة عن المصالح المدنية، فقد يعتمد عليها الأفراد لمقاومة إغراء الحرب. لأنه عند يتم اتخاذ القرار بشأن الحرب، فقد يلجأ الأفراد إلى رؤية عالمية بعيدة عن منظور مؤسساتهم السياسية. فالمجتمعات الدينية والمجتمعات الأخلاقية الأخرى التي تفتقر إلى القوة السياسية المباشرة يمكنها أن تصد الجنون الجماعي. يمكن للفصل بين الدولة والكنيسة أن يحمينا من استبداد السياسة بقدر ما يحمينا من استبداد الدين. كما يمكن العناية بالقناعة في المجتمع الأخلاقي، في الحي حيث نسكن، ولكن بالتساوي من خلال مجتمع يمتد عبر الزمان والمكان، مثل المجتمع الديني أو الفني – حتى عندما لا يكون لدينا اتصال جسدي مع أعضاء آخرين في المجتمع. النقطة المهمة هي أنه لا يلزم الاعتراف الفوري بصحة القناعة كي تستمر، بل يكفي فقط وجود إمكانية حقيقية للاعتراف بها. نحن بحاجة إلى مخاطبة شخص قابل للاستماع فعلاً، حتى لو لم يتمكن من الاسماع حالياً. إذ قد يكون مثل هذا بعيد بعض الشيء، لكن علينا أن نؤمن بوجوده، فإذا كان لقناعتنا السبيل بأن تجعلنا نفهم، فثمة، هناك فرصة حقيقية لتلقي رسالتنا. تعتمد القناعة على مجتمع، مجتمع حقيقي أو ممكن حقاً، مجتمع يلتزم بمعايير مختلفة عن تلك  المعايير الخاصة بالأغلبية. ومن المؤكد أنني لا أقصد، هنا، دعم وجهة نظر غلواكون الساخرة، التي ترى أنه علينا التصرف بعدل فقط لكي نبدو عادلين كوسيلة لاكتساب مكانة اجتماعية. لكنني أعتقد أن وجهة نظره ليست سوى صورة كاريكاتورية لحقيقة مهمة ترى في  الاحتمال الحقيقي للظهور بمظهر بالعدالة أمام الآخرين أمر ضروري يعبر عن قدرتنا على التصرف بشكل عادل وفهم أنفسنا على هذا النحو.

تقدم إمكانية الاعتراف وجهة نظر خارجية حول ضرورة الحرب والسياسة بشكل عام. وقد تكون مسؤولة عن مرونة الأفراد في مواجهة الضغوط الاجتماعية. ويسمح هذا النوع من القناعة للأفراد بالتعرف على أنفسهم – أرواحهم – حتى عندما لا يعرفها أحد بالفعل. يمكن لأولئك الذين يتصرفون وفق قناعتهم بأن يتمردوا على ما يعتقدون أنهم يعرفون من خلال الانحياز إلى ما يعرفونه دون تفكير. وبالتالي، فإن الاقتناع هو أكثر ما نحتاج إليه عندما يفسد ضباب الحرب الفطرة السليمة. لكن القدرة على رفض ما هو مسلّم به يتضمن جانباً مظلماً أيضاً. إنها الكفاءة  التي مارسها إبراهيم عندما أذعن لطلب الرب بذبح ابنه الحبيب إسحاق. ويمكنني شخصياً تفسير. بما يخالف التعليم الحاخامية إلى حد ما، ربط اسحق (العقيدة) بأنه تذكير بسهولة الشر عند إساءة استخدام القناعة، يتحول حب إبراهيم اللامحدود للرب إلى خيانته اللامتناهية  لابنه. وسؤال إسحاق لوالده – “أين الحمل للذبيحة المحترقة؟” – هو سؤال الفطرة السليمة المطروح على خلفية التفاني المطلق. هناك أهوال لا يمكن أن يحدثها سوى الاقتناع. فقناعاتنا غير معصومة حتماً وعميقة ، ومع ذلك فهي أكثر ما نثق به. هذا اليقين في مواجهة القابلية للخطأ يجعل  القناعة خطيرةً ولكنه قد يجعلها أيضاً ضمانة لضميرنا السياسي. بالدرجة نفسها التي يمكن أن تمنعنا فيها  القناعة من الاستسلام للفطرة السليمة، ويمكن أيضاً أن تكون هي ما تبقينا عاقلين عندما يغمرنا الجنون. تقوم القناعة بذلك من خلال إتاحة وجهة نظر بعيدة عن بيئتنا الاجتماعية المباشرة. فعلى سبيل المثال، بعض السياسيين والناشطين اليمينيين الأكثر نفوذاً في إسرائيل هم من المتدينين أو من خلفيات دينية. غير أنه، في المقابل، هناك العديد من المتدينين ومن هم أصحاب تربية دينية في إسرائيل  ناشطين رئيسيين في الحركة المناهضة للاحتلال في إسرائيل.  لقد مكنت القناعة الدينية هؤلاء النشطاء على جانبي الخريطة السياسية من الاعتماد على موارد تتجاوز روح العنف الضروري من أجل تشكيل السياسة الإسرائيلية.

واسمحوا لي أن أقدم حكاية لتوضيح ما أعنيه. الخليل مدينة فلسطينية كبيرة في الضفة الغربية والمدينة الفلسطينية الوحيدة التي يوجد في وسطها مستوطنة يهودية إسرائيلية. وتعتبر المستوطنات اليهودية في الخليل من أكثر المستوطنات تطرفا في الضفة الغربية. حيف يهدف سكانها صراحة إلى طرد جميع الفلسطينيين من الخليل وبالتالي الإسراع في مجيء المسيح. يعيش في الخليل حوالي 215،500 فلسطيني و 600 مستوطن يهودي إسرائيلي. يهاجم المستوطنون جيرانهم الفلسطينيين ويعتدون على ممتلكاتهم ويتمتعون بحماية الجيش الإسرائيلي أثناء ذلك. الفلسطينيون ليسوا مواطنين إسرائيليين، وبالتالي لا يتمتعون بمزايا أمن جيش الدفاع الإسرائيلي. لكن كانت هناك أيضاً هجمات فلسطينية على الجالية اليهودية في الخليل. ويقوم الجيش الإسرائيلي بصورة منتظمة , كردٍ على تلك الهجمات، بإخلاء المنازل والشركات الفلسطينية القريبة من منازل اليهود. فيستغل المستوطنون هذا الأمر باحتلال المباني المهجورة. ثم يتدخل الجيش للدفاع عن المستوطنين المحتلين من انتقام محتمل ويطرد المزيد من الفلسطينيين من المنطقة المحيطة. وهكذا.. وقد أصبحت هذه السلسلة من الاعمال  وسيلة لتوسع الأصوليين اليهود في الخليل.

حدث في العام 2007  أن قام عيسى عمرو، وهو ناشط فلسطيني من سكان الخليل باستئجار منزل في وسط المستوطنة اليهودية، بدعم من منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بتسيلم. وكان المنزل مملوكاً لعائلة فلسطينية أجبرها الجيش على النزوح. وبقي منزلهم مهجوراً حتى انتقل إليه عيسى. وقد أطلق عليها زملاؤنا من النشطاء ، بمن فيهم أنا ،بما يشبه المزحة أنه “أول مستوطن فلسطيني”.

كان لا بد من ترميم المنزل وتجديده، وكان من المهم وجود نشطاء إسرائيليين في الموقع في حالة قيام المستوطنين بمضايقة العمال الفلسطينيين أو مهاجمتهم. وهكذا تناوبنا على حراسة المنزل من خلال كاميرات الفيديو  لتوثيق أي إساءة. وفي إحدى الليالي، كنا ثلاثة اشخاص نسير في شارع الشهداء، في طريقنا لأداء وردية منتصف الليل في المنزل. يؤدي شارع الشهداء إلى المسجد الإبراهيمي الذي بني حول الحرم الإبراهيمي، وكان مزدهراً. قبل العام 1994  حين قام مستوطن يهودي بمجزرة بحق المصلين المسلمين، تم على إثرها إغلاق الشارع في وجه  الفلسطينيين من أجل حماية المستوطنين من أي فعل انتقامي. ولا يزال الشارع متاحاً لليهود فقط. صعدنا، في تلك الليلة، التل إلى حي تل الرميدة اليهودي، الذي كان على أطرافه منزل عيسى. كان الوقت يقترب من منتصف الليل وكان كل شيء هادئاً باستثناء مجموعة من المراهقين اليهود الجالسين حول النار وهم يغنون الأغاني، ولما صرنا قربهم عرفونا بأننا يهود إسرائيليين فسألونا عن وجهتنا، فأجبناهم: “تل الرميدة”، ثم تابعنا السير كي نتجنب المزيد من الأسئلة، لكنهم سألوا من جديد وهم يصرخون بينما كنا نبتعد: “أي عائلة تزورون؟” لكننا تجاهلناهم، ثم خطرت لأحدهم فكرة، فهمس بشيء في أذن صديقه وركض خلفنا وقال:  “مهلا! انتظروا!  هل أنتم مجانين؟.. ماذا تفعلون هنا، في الخليل، في منتصف الليل، دون حماية؟ سوف يقتلكم العرب ! سيذبحونكم “، غير أننا لكن نشعر بالقلق من فحوى كلامهم، كنا نعلم أننا لسنا في خطر، بل ماكن يقلقنا فعلاً المستوطنون أكثر من قلقنا من الفلسطينيين، ولما لاحظ الفى ردة فعلنا تلك التفت نحو زميله وصرخ منتشياً: “ألم أقل لك إنهم يساريون!” . وكما ترون ، أدرك هذا الصبي، منذ الصغر، أنه داخل المجتمع الإسرائيلي، فالمستوطنون والناشطون هم وحدهم الذين يعرفون الخليل على حقيقتها. لا تؤيد أي من المجموعتين الروح الإسرائيلية للعنف الضروري. المستوطنون يتغاضون عن العنف ويختارونه لخدمة القضايا الدينية والعرقية؛ والنشطاء يدينونه ويرفضونه لأسباب أخلاقية ودينية. لكن المستوطنين والنشطاء يتصرفون بناء على قناعة وليس خوفًا. فالقناعة وحدها – أي الإقناع الداخلي والكامل للعقل – هي القادرة على الصمود أمام نزوات السياسة.

العنوان الأصلي: Choosing Violence War is almost always a choice- a madness we go along with

المصدر: https://bostonreview.net/world/oded-naaman-choosing-violence

……..

*تقول الحكاية الإغريقية أن جيجيز كان راعياً يخدم عند كاندولس ملك ليديا، وذات أصاب زلزال عظيم المملكة فالتجأ جيجيز مع غنمه إلى كهف بعيد يحتمي فيه، وبينما هو يستعد لمغادرة الكهف عائداً إلى قطيعه، عثر على خاتم، ودفعه الفضول ليضعه في أصبعه فإذا به يدرك أنه أصبح غير مرئي. فجلس يفكرـ ماذا يفعل في الخاتم ، وهنا خطرت على باله فكرة، بدأ في تنفيذها في الحال، فقد قرر أن يغير حياته البائسة بأن يقوم بغواية الملكة ويخطط معها  ليستولي على كرسي الملك في ليديا، وانتظر حتى الليل، فوضع الخاتم  ومضى نحو القصر دون أن يراه أحد، فدخل إلى مخدع الملك واتجه نحوه وهو نائم فطعنه، فمات من فوره، وفي صباح اليوم التالي أعلن نفسه ملكاً وتزوج من الملكة. يذكر أفلاطون هذه القصة في الكتاب الثاني من الجمهورية، دون  أن يخبرنا ببقية القصة، فنحن لا نعلم ماذا حصل لجيجيز بعد ذلك، ولنا أن نفترض أنه عاش ملكاً سعيداً بقية حياته، ورغم وحشية جريمته، لا يخبرنا أفلاطون هل نال جزاء فعلته أم بقي يستمتع بقية عمره بالملكة الفاتنة شريكته في المؤامرة؟ ولعل  ما رمى إليه أفلاطون بعدم التصريح ببقية تفاصيل القصة إنما كانت ترمي إلى إبقاء القصة في صيغتها الإشكالية هذه، بمعنى إذا كان عمل جيجيز جريمة موصوفة كما هي، فهل ثمة ما يجيزها من الناحية البراغماتية  باعتبار أن هذه الجريمة حققت لجيجز مبتغاه، فضلاً عن كونها كانت جريمة” نظيفة” و”ناجزة” وسريعة” دون عواقب أو اضطرابات في المملكة، ودن أي مطالبات بالثأر أو الانتقام. وهكذا تفصح الأسطورة  عن معادلة غريبة بقدر ما هي مذهلة، تجيز التبرير الأخلاقي  لجريمة إن كانت “احترافية ” بطريقة ما  و”نظيفة” و”طموحة”.. إلخ , ما قام به جيجيز مرة واحدة، يقوم به الجيش الإسرائيلي مرات ومرات وكل يوم في فلسطين.

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

العدوان على غزة: أجندة إسرائيل الاقتصادية

ما هي الأسباب الحقيقية وراء معارضة إسرائيل لتطوير حقول الغاز في الساحل الفلسطيني؟ هل هي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *