عميرة هاس
ترجمة محمود الصباغ
I
تقول مريم (50 عاماً): “كنت أشعر، مع كل قصف، أن كل غزة تهتز، وكأن كل شيء ينقلب رأساً على عقب. تطرد الأرض أحشاءها نحو الخارج، مثل زلزال لا يتوقف. [إنهم] يقصفوننا، فتتعالى أصوات صراخ الأطفال من الشقق والمنازل في كل مكان. لقد رايت منزلي، الواقع في بناية هنادي، يُقصف – ليس بقنبلة واحدة، بل بستة قنابل- كما رأيت، بأم عيني، برج الجوهرة وهو يتعرض للقصف، رغم أنه لم ينهار تماماً. اجتمعنا، جميع أفراد الأسرة، في شقة أختي في “تل الهوى” في مدينة غزة، نشعر بالأمان أكثر حين نكون معاً، ومع ذلك لا أحد ما يقدر على النوم فعلاً، أحضرنا أمي من شمال غزة، كانت قد أصيبت بفيروس كورونا وتعافت منذ أمد ليس طويل. كما أحضرنا أيضاً، شقيق زوجي، لا يستطيع السير، فهو عاجز/ مشلول بسبب تعرضه لسكتة دماغية من قبل، ويستعمل -الآن- كرسي متحرك، يسكن في في الطابق الثاني عشر قرب البحر، لم يكن هناك كهرباء، والمصعد، بطبيعة الحال، لا يعمل، لقد فمنا بحمله و إنزاله من بيته وهو على كرسيه المتحرك، ثم نقلناه لثلاث طوابق إلى بيت أختي، حيث اجتمعنا.
انقطعت المياه يوم أمس ( الثلاثاء 11\5\2021)، ولم تأت حتى الساعة، كما انقطعت الكهرباء أيضاً. من المفترض أن نبدأ بتجهيز أنفسنا للعيش بدون كهرباء لمدة ثمان ساعات، على أن يعود التيار لثمان ساعات أخرى وهكذا.. كما هي العادة في مثل هذه الظروف، وها نحن، في منتصف النهار، الآن بدون كهرباء مذ ثلاث ساعات. يوجد في العمارة مولد كهربائي ، لكنه لا يعمل إلا لمدة ساعة ونصف في المساء. عدت إلى المنزل، وملأت بضع زجاجات و بضع “جراكن” بالماء، ثم عدت إلى منزل أختي. أذكر في العام 2014، لم يقصفوا الأبراج إلا في نهاية الحرب. بينما الآن قصفوها منذ البداية. صحيح أنهم حذروا سكان الأبراج، وقد رأيناهم يهرعون هرباً منها إلى الشوارع، كانوا بالمئات. لم نسمع بعد أن الأونروا فتحت مدارسها لتكون ملاجئ كما في الحروب الماضية. لم يكن كل هذا متوقعاً. صحيح أن كل الأحداث في القدس – في الأقصى والشيخ جراح – وصلت إلى نقطة الغليان. لكن جميع التقارير تشير إلى أن أيا من الطرفين لا يريد التصعيد. كنا نتهيأ للعيد، وقبل ذلك للانتخابات، وكنت أخطط للسفر إلى الخارج. ولكن، فجأة، كل شيء تبخر وتلاشى. نشعر الآن، أن الأمر مختلف عما سبق، ما يحدث هو شيء مختلف. نرى على وسائل التواصل الاجتماعي كيف يضحك الشباب في القدس عندما تعتقلهم الشرطة. هذا الجيل لا يحتاج إلى كتب ليعرف ما يلحقه به الاحتلال. نتوقع أن يتغير شيء ما هذه المرة. ما الذي كانت تفكر فيه إسرائيل -أنها ستهاجمنا في أهم 10 أيام من رمضان، وفي الأقصى تحديداً؟ هل كانت تتوقع أن تنفجر الأمور كما هي الآن؟.
ونعم، الناس -هنا- مع ما قامت به حس من رد. قبل خمسة وعشرين عاماً، كنت أقول إن الحكومة الإسرائيلية تعمل لصالح إسرائيل. أما اليوم لا يمكنك قول ذلك. فالحكومة اليوم تنفذ أجندات شخصية. بالأمس ذهبت أنا والفتيات إلى منزلنا لأننا اضطررنا إلى ترك قططنا هناك. التفجيرات تخيفهم حتى الموت. أغلقنا الشرفة كي تكون الأصوات أقل قوة. فتحنا نافذة واحدة فقط قليلاً، لذلك إذا تعرض المبنى للقصف فسيتمكنون من الهروب. “أعددنا بعض الطعام والرمل لـ [القطط]. وعندما نزلنا إلى الشارع – كانت الشوارع شبه خالية تماماً – كنا نرتدي الكمامات كالمعتاد، نظرنا إلى بعضنا البعض وانفجرنا ضاحكين. ربما سيقتلنا القصف ولكننا على الأقل نكون قد أنفسنا من فيروس كورونا.”
II
تقول رندة، (27 عاماً): “الآن قصفوا، للتو، تل الهوى، الذي يقع إلى الجنوب من هنا حيص نسكن، كانت أصوف القصف قريبة جداً ، لكننا لا نستطيع تحدد المكان بدقة. إنهم يقصفونا بطائرات F-16؛ التي يملئ ضجيجها السماء، مع الطائرات المسيّرة. عندما قصفوا مدينة عرفات [مركز الشرطة]، اهتزت بنايتنا وتمايلت على جانبيها. لقد رأينا الطائرة وهي تسقط قنابلها، أعتقد أن الطائرات ألقت حوالي 20 قنبلة على مركز الشرطة. يبدو كأنهم أصيبوا بالجنون. كانت موجة الصدمة أقوى ومروّعة أكثر من الانفجار ذاته، بدت الأرض وكأنها تنفجر من تلقاء نفسها. ومع كل هذا، لم تتوقف الزوارق الحربية عن قصف مخيمات اللاجئين.
لم نعرف طعم النوم منذ يومين، وما هو أكثر رعباً كان رؤية هروب الناس من الأبراج
العالية المكونة من ثمانية طوابق أو ثلاثة عشر طابقاً، أو ما يشبه ذلك، في البداية، يوجهون رسائل تحذير للسكان بأنه يتعين علهم المغادرة حالاً، غير أنه لا يُتاح لهم الوقت الكافي لأخذ أغراضهم الشخصية الهامة. فيركضون – كبار السن و النساء والأطفال- نحو الطوابق السفلية، الصعوبة تكمن حين يكون هناك أشخاص غير قادرين على الحركة بسبب الإعاقة. فأنا مثلاً أتنقل بالعكازات، الآن، بسبب بعض المشاكل في ساقي، ولم تذهب من بالي فكرة ماذا سيحدث لي لو اضطررت إلى إخلاء بيتي. بالتأكيد لن أكون قادرة على الجري بسرعة.
لا نحتاج إلى تلفزيون هنا، فنحن نعرف طل شيء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يمكننا أن نطّلع على ما يجري في رفح والقدس واللد وعكا.
هذه هي الحرب الرابعة التي أعيشها شخصياً. في جميع الحروب السابقة شعرنا بالوحدة، أما فنشعر أننا معاً”.
III
تقول داليا، (48 عاماً): “لم ينم الأطفال منذ يومين. وها نحن الآن نتكوّم في المطبخ، فهو، على الأقل، محميّ بشكل أفضل، مكثنا، مختبئين في المطبخ، على مدار يومين، وبالكاد كان أحدنا يجرؤ على الذهاب إلى المرحاض. منازلنا مكشوفة بالكامل وغير محمية. لا يوجد مكان للاختباء فيه، لا بالداخل ولا بالخارج. خرج صديق لي مع الأطفال ووقفوا في الخارج ولم يتمكنوا من الحركة بسبب القصف. كنت أريدهم أن يأتوا إلي لكنهم لم يستطيعوا. ابنتها الصغيرة لا تأكل وتعاني من ارتفاع في درجة الحرارة. ابنتي كريمة ترتجف، لا تأكل ولا تنام. وهذا العام عليها أن تجري امتحانات البجروت.
متى تعتقد أن هذه الجولة ستنتهي؟ جميع الأبنية من حولنا تهتز، ولا نقو على الخروج، اقترح، بعض أفراد الأسرة في مخيم جباليا، أن نأتي إليهم كي نكون معاً، في الواقع كنت خائفة من الذهاب إلى جباليا، فالإسرائيليون يطلقون النار على السيارات في الطرقات لا يوجد كهرباء، منذ بداية اليوم ونحن بدون كهرباء، لأن خطوط الكهرباء أصيبت في القصف ولم يتمكنوا من إصلاحها بعد، ولا يوجد إنترنت أيضاً ، بطبيعة الحال. لقد بتنا منقطعين عن العالم تماماً، ليس هذا فحسب، بل أن طائرات الـ F-16 لا تكفّ عن التحليق فوق رؤوسنا. يبحث الجميع، هنا، عن مكان يأويهم مع عائلاتهم أو أصدقائهم.
يوجد مولد كهرباء في الحي نشتري منه الكهرباء لكنه أصيب في قصف مبنى الجوهرة. كما أن جميع المتاجر المحيطة به دمرت. يقولون أن حوالي 13 قنبلة سقطت عليه ولم ينهار.
أنا أعيش في وسط المدينة، بالقرب من كل شيء، ومع ذلك لا يمكنني الحصول على شيء. لن تجد عاقلاً في الشارع. كنت آمل أن يأتي الوفد المصري ويتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لكننا الآن لا نعرف ماذا سوف يحصل. هناك مبان جاء فيها التحذير في رسالة موجهة خدمة الهاتف الخلوي الفلسطينية. لدينا صديق يعيش في بناية هنادي. لم يأخذ أي شيء معه، لقد غادر، وقصف المبنى وخسر كل شيء تقريباً. كما قصفوا ثلاثة مبان شاهقة بعد تحذير سكانها بمغادرتها. وهناك، ثمة، ستة أخرى، على ما أعتقد، تم تحذير السكان بالمغادرة، أو تم إطلاق صاروخ على شقة أو شقتين، ثم تُرك جميع السكان بسبب الخوف والتشتت. [منذ حديثنا ظهر الأربعاء (12\5\2021)، تم قصف ما لا يقل عن مبنيين شاهقين آخرين.]. في مبنيين، لذلك سمعت، قيل للبواب إنه يتعين عليهم الإخلاء. وكان هناك 40 أو 50 فرداً في كل عائلة، ولم يتمكن البواب من إخبارهم جميعاً. أعلنوا ذلك في وسائل الإعلام، وسمعته واتصلت بصديقتي التي تعيش في أحد المباني، وأخبرتها أنها عليها المغادرة. في الحقيقة لم تكن تعرف شيئاً عن أمر القصف.
امرأة أخرى أُجبرت على مغادرة شقتها كتبت ضد عملية حماس وتعرضت لفيض من الانتقادات. أعتقد أن الكثير من الناس يعارضون عملية حماس لكنهم يخشون قول ذلك. سيتم اعتبارهم خونة. كتب أحدهم على “واتس أب” الآن نحن نعرف إلى أين تذهب الضرائب التي تحصل عليها حماس منا. لكن هذا الأمر نادر، قلّة من يفعلون ذلك، قلّة من يكتبون مثل هذا.
IV
يقول فايز(55 عاماً): “والدتي في المستشفى على بعد 7 كيلومترات من هنا، ولا يمكننا الوصول إليها بسبب القصف. فقط أختي معها. كيف يرى نهاية كل هذا؟ ألا يوجد أحد في وسائل الإعلام الإسرائيلية يقول، “توقفوا، كفى ، دعونا نفكر فيما نريد؟”. ألا يوجد أناس يخافون على مصير الشعب اليهودي ويقولون،” دعونا نفكر كيف سيكون الأمر بعد مائة عام؟ دعونا ندافع عن الشعب اليهودي. منذ الأمس وأنا أتساءل: من هو المجنون هنا؟ نحن أم هم؟.”شبابنا سعداء حقاً [بعملية حماس]، لأنه ليس لديهم ما يخسرونه. هناك جيلان في منزلنا – جيلي، الذي كان يأمل في أن نعيش يوماً في هذا البلد بسلام مع الإسرائيليين، وجيل ابني.. الذي لو كان إسرائيلياً، فسوف يتم تجنيده في غضون أربعة أشهر أخرى. لقد نشأ على الحب وقبول الآخر، لكنه في حالة اضطراب بسبب ما يحدث – بسبب أشخاص عرفهم قتلوا بالأمس فقط، بسبب الشعور بالخوف. كيف سأتحدث معه الآن عن العيش بسلام مع اليهود؟. هدف عملية حماس ليس إسرائيل، بل محمود عباس. حماس تريد أن تقول لأبي مازن إنه وشعبه ليسوا كيانات. ما الذي منعهم – هو وكبار الشخصيات – من التواجد في القدس مع أهلهم في الأقصى والشيخ جراح؟ لا أتوقع أن يترك الأمريكيون هذا الوضع يستمر. لن يقبلوا أن يخرج الجميع غداً في صلاة العيد ويتظاهرون ضد إسرائيل. أنا متعب. طفح الكيل. لقد مررنا بالعديد من الحروب، ودُفن الكثير من الآمال التي زرعناها حول التغيير نحو الأفضل”.
العنوان الأصلي: ‘All Gaza Is Shaking’: What It’s Like to Experience the Wrath of Israel’s F-16s
المصدر: عميرة هاس , صحيفة هآرتس، 13 أيار\مايو 2021